ما هو القرآن؟

تمحور مؤتمر نظمته مؤسسات علمية وجامعية حول هذا السؤال في برلين وتناول الأكاديميون المشتركون المتخصصون في علم القرآن في مداخلاتهم ظروف نشأة القرآن، والبحث عن تاريخ النصوص القرآنية القديمة. تقرير ميشائيل ماركس

​​تمحور مؤتمر نظمته مؤسسات علمية وجامعية (مؤسسة فِرتْس تِيسن ومعهد الدراسات السامية والعربية في جامعة برلين، وهيئة تدريس برنامج "العصر الحديث والإسلام" في جامعة برلين) حول هذا السؤال في برلين في آخر يناير/ كانون الثاني 2004 وتناول الأكاديميون المشتركون المتخصصون في علم القرآن في مداخلاتهم ظروف نشأة القرآن، والبحث عن تاريخ النصوص القرآنية القديمة. تقرير ميشائيل ماركس

إن نظرية بَتْرِشْيا كُرون ومايكل كوك التي تقول بأن نشأة الإسلام كانت قد بدأت في جنوب فلسطين، وأن فكرة نشأته في مكة والمدينة ما هي إلا أسطورة إسلامية قديمة، ونظرية جون وانسبورو التي تقول بأن نصوص القرآن قد أُعيدت صِياغتها في بداية القرن التاسع الميلادي، هاتان النظرياتان تخالفان تمام المخالفة لما يدل عليه تاريخ النصوص الإسلامية.

كما أن دراسات غونتر لولنغ حول القرآن الأوّل قدّمت نظرية أخرى تقول بأن قرآن النبي كان في الأصل مقاطع غنائية مسيحية، وهذه الأغاني قد أعاد النبي صياغتها ثم غيّرتها التقاليد الإسلامية من جديد. هذه النظريات الثلاثة عرقلت عمليات البحث الأساسية للقرآن.

لوكسنبرغ وجدال بلا نهاية

لقد حازت نظرية لوكسنبرغ الخاصة بتاريخ النص الإسلامي – بالمقارنة مع النظريات الثلاثة السابقة - على صدى عالٍ بين جمهور العامة وبين الدوائر المتخصصة في هذا المجال، غير أن المتخصصون لم يتفقوا حتى الآن حول تقييم هذه النظرية، كما حدث في مؤتمر برلين.

وإن مناقشة هذا الموضوع علناً قد بدأت بعد 11/9/2001 عندما لَفَتَ ذِكْر الحُور العِين في الجنة (غير واردة في ترجمة لوكسنبرج للقرآن) أنظار العالم لهذا الموضوع. ومنذ ذلك الحين والعديد من المقالات الصُّحُفية تُعِير هذه النظرة الجديدة في البحث القرآني اهتماما كبيراً.

إن القارئ قد يفهم في بعض الأحيان من الكُتّاب أشياء غير متوقعة، فعلى سبيل المثال نشرت مجلة "الحياة الطيّبَة" الشِّيعِية في لبنان أول حوار عربي بهذا الخصوص، وكانت في ذلك حَذِرة ومتحيرة إلا أنها قالت بأخذ موضوع تأثير اللغة الآرامية بعين الإعتبار، وقالت ربما يمكن تفسير بعض التعبيرات القرآنية عن طريق اللغة الآرامية، ومن الأفضل أن تُجرَى دراسات أُخرى في هذا الإتجاه.

ودليل على عدم الإتفاق حول تقييم هذه النظرية تلك المناقشة السلبية التي أجراها فرانسوا دى بلوا (لندن) و تقييمات كلود جيليو (أكس أُن بروفانس) غَيْر الواقِعِيّة.

قرائن حول نشأة الإسلام

لقد اهتم مؤتمر برلين – بسبب هذا الجدال المستمر - بالتقاء العلماء المتحدثين باللغة الألمانية الذين تحتوي أبحاثهم على لَبِنَات بِنَاءٍ أساسية في مجالات البحث المختلفة حول نشأة القرآن. والمحاضرة التي ألقتها بربرا فنستر (بامبرغ) عن التنقيبات الأثرية أظهرت أدلّة وجود الديانة المسيحية في كل المناطق العربية قبل الإسلام، حتى أن الشكل البنائي للكعبة له صلة بالنمط البنائي للمعابد الاثيوبية، التي كانت تُسْتخدم غالبا مثل الكنائس كدور للعبادة.

ويحذِّر ارنست أكسل كنوف (برن) من أن يُفهم من ذلك أن الكعبة كانت فقط بِنَاءٌ كَنَائِسي، لأن هذا الإستنتاج يعتبر سابقا لأوانه، وأشار إلى وجود آثار طُقُوس وثنية في معابد ديانات التوحيد الأولى. ويقول أيضا أن هناك بعض المصادر الإسلامية تقول بوجود صورة لمريم العذراء في الكعبة، ولاينبغي أن يكون هذا دليلا على أن الكعبة كانت في الأصل كنيسة، لأن العبادات العربية القديمة كانت قد أَخذت بعض العناصر من المسيحية.

الجاهلية ليس لها وجود

يجب علينا الحذر جيدا عندما نعالج نصوصا قد يبدوا لنا أنها موثوق بها، فَحَسْب رأي فرانسوا دى بلوا (لندن) نجد أن النصارى المذكورين في القرآن الكريم ليسوا نصارى أورثوذوكسية، بل نصارى يهود ظلوا باقين حتى العصور القديمة المتأخرة في ظل الإمبراطورية البيزنطية، ولا يجب تجاهل العوامل المسيحية في تاريخ نشأة القرآن خاصة عند وجود فواصل دينية مرنة.

ومن ناحية أخرى نجد هناك خطرا في الخلط بين طرق ممارسة المسيحية وبين مؤسسات الكنائس البيزنطينية أو القبطية. وإلى جانب علم الآثار وتصنيف المجموعات الدينية المختلفة كانت الظروف اللغوية ضمن موضوع النقاش أيضاً، فقد وصف ارنست أكسل كنوف (برن) تلك الظروف اللغوية بمصطلح "التعدد اللغوي الوظيفي"، وعلى المرء أن يعتبر أن النبطيين والغساسنة واللخميين كانت لغتهم مزيجا من العربية والآرامية.

إن الطبيعة الجغرافية لشبه الجزيرة العربية تعتبر مهمة في نشأة الإسلام حسب نظريات نوربرت نوبس (يينا) وميخائيل بوخارين (يينا/موسكو)، والإتصالات الحضارية مع الشمال ومع الغرب الإثيوبي واضحة الدلالة جدا في عصر ما قبل الإسلام.

كما أن المناطق النائية من شبه الجزيرة العربية في عصرنا هذا كانت آنذاك موصولة بطرق التجارة العالمية. والعلم بالقرائن يوضح لنا أن مصطلح "الجاهلية" يمكن أن يكون محيرا، لأنه يوهم أن بلاد العرب كانت مثل البقعة البيضاء على الخريطة، أي لم يكن فيها أية ديانة توحيد.

الرجوع إلى المخطوطات

إن تقييم مخطوطات القرآن الكريم القديمة تعتبر لازمة لتاريخ النصوص الأولية التي توجد بين أيدينا، وقد أصبح الإلمام بنظام أبجدية المخطوطات القديمة من الضروريات بعد الإنجازات التي قام بها غرد روديغر بوين (ساربروكن) وعمر حمدان (حيفا).

فحسب نتائج الأبحاث نجد أن الأبجدية العربية كانت تعتمد على النمط الأرامي للكتابة وتم تعديلها مع الزمن بما يتناسب مع طبيعة اللغة العربية. فحتى حركة تقويم الكتابة في زمن الحجاج بن يوسف (حكم من 697 حتى 714) نجد أن نظام كتابة المخطوطات آنذاك كان يختلف عن نظام الكتابة المعروف في يومنا هذا.

نظرية لوكسنبرغ على منصة الإختبار

تحتل ازدواجية اللغة الآرامية العربية في شبه جزيرة العرب مركزا مهماً بالنسبة للغة القرآن، ولقد أبدت نتائج المناقشات في هذا المجال إجماعا على إختبار النصوص التي عالجها لوكسنبرغ، كما طالب كل من راينر فوغت (جامعة برلين) ومارتين باستن (لايدن) بالبحث في تأثير اللغة الآرامية على لغة القرآن العربية من جديد.

وقد قُيِّمت طريقة لوكسنبرغ في عمومها على أنها غير مكتملة، حتى لو وضعنا في الاعتبار بعض اقتراحات التصحيح التي قد تُقبل من وجهة النظر السامية. إن النظرية القائلة بأن القرآن الكريم قد تُرجم كله من اللغة الآرامية إلى اللغة العربية لم تحظ بالقبول، وإذا افترضنا صحة بعض النظريات الفردية التي تُقَوّي هذا، فإننا نحتاج إلي العديد من هذه النظريات حتى نستطيع وضع تغيير لعلوم القرآن.

عَوْدة إلى النص القرآني وتطوّره التاريخي

عرضت أنغيليكا نويفرت (جامعة برلين) فكرة بحث ترى فيها أن القرآن الكريم ماهو إلا نِتَاج مناقشات مختلفة تُثْبت التأثير المتبادل بين النبي ومستمعيه، والقرآن الكريم يعكس – حسب مفهوم هذه الفكرة – مجرى هذه المحادثات الشفهية على مر عقدين من الزمن والتغيرات التي طرأت عليها في هذه المدة.

ولكي نفهم القرآن فهماً صحيحاً لابد علينا من مراعاة الحوار المتطور بين هذا الراوي الذي أبهر الجماهير وبين تلك الأمة التي كانت في مرحلة التكوين. وتحذر نويفرت من عدم الاهتمام بالنص نفسه وبالطبقات الزمنية بسبب الارتياب الشديد (كما هو الحال في نظريات وانسبورو وكوك / كرون)، وحتى لو كانت التأثيرات من جانب لغة أجنبية ذات أهمية، فلابد من إعتبار النص القرآني هو جوهر الموضوع أولاً.

وكان من نتائج المناقشات التي تمت في مؤتمر برلين أن جاءت مجموعة من الباحثين العالميين إلى برلين في أوائل مارس/آذار بإشراف أندرو ربين (جامعة فكتوريا – كندا) وأنغيليكا نويفرت، لكي يتشاوروا في كيفية التقرب إلى النصوص القرآنية الأولية.

وحتى الآن لم تبدأ أي محاولة لجمع المخطوطات الأولية. ولكي نضع للنص القرآني قاعدة متينة، فإنه يجب علينا أن نجمع بين البيانات الصحيحة من المخطوطات القرآنية المختلفة وبين القرءات الشرعية وغير الشرعية. وهذا العمل يعتبر في مضمونه إمتدادا للمشروع الذي كان قد بدأه برغشترسر وبريتسل وأخفق بعد الحرب العالمية الثانية، ويعتبر أيضا مرجعا مُهِمّا للنقاش حول القرآن.

بقلم ميشيل ماركس: أستاذ في معهد الدراسات السامية والعربية في جامعة برلين
ترجمة عبد اللطيف شعيب

المصادر المذكورة في المقال:

P. Crone / M. Cook, Hagarism. The Making of the Islamic World, Cambridge 1977.
J. Wansbrough, Quranic Studies. Sources and Methods of Scriptural Interpretation, Oxford 1977.
G. Lüling, A challenge to Islam for Reformation, Delhi 2003 (engl. Übers. u. Übearb. Von: G. Lüling, Über den Ur-Qur’an, Erlangen 1974).
Râlf Ghadbân, „Ma´ânî l-qur’ân ´alâ dau’ ´ilm al-lisân“ und Muhammad Hasan Zarâqit: „Mutâba´ât naqdiyya li-risâlat Krîstûf Lûksinbirgh wa-minhajihi“, Al-hayyat at-tayyiba 4. Jg. Nr. 13 (Herbst / kharîf) 2003/1426, S. 307-321.
C. Gilliot, „Langue et Coran: une lecture syro-araméenne du Coran“, Arabica 50, 3 (2003), S. 380-393.
B. Finster, „Arabien in der Spätantike, Ein Überblick über die kulturelle Situation in der Zeit von Muhammad“, Archäologischer Anzeiger 1996.
U. Rubin, „The Ka´ba: Aspects of ist Ritual Function and Position in Pre-Islamic and Early Islamic Times“, JSAI 13 (1986), S. 97-131, hier S. 102.
G. Bergsträsser, „Plan eines Apparatus Criticus zum Koran“, Sitz. d. Bayer. Akad. d. Wiss., Phil.-hist. Abt., 1930, Heft 7.