"النقد مسموح والتحريض ممنوع"

أعلن الأساقفة الكاثوليك عن مبادرة خاصة تتعلق ببناء المساجد في ألمانيا، يسعون من خلالها إلى المساهمة في جعل الجدال الدائر حول المساجد موضوعيًا. وهم يقدِّمون بهذا جوابًا بالرفض لجميع الذين يعيِّنون أنفسهم منقذين للغرب المسيحي وكذلك لأولئك الذين يحذرون من "أسلمة أوروبا". كلاوديا مينده تعرفنا بهذه المبادرة ودلالاتها.

الأعجوبة المعمارية في مدينة دويسبورغ ، الصورة: ا.ب
المسجد رمز التعاون الناجح بين أبناء الجالية المسلمة وجيرانهم الألمان

​​ يعتبر هذا المسجد "أعجوبة مدينة دويسبورغ"؛ تم الآن وبعد فترة بناء استغرقت ثلاثة أعوام ونصف العام بناء واحد من أكبر المساجد في ألمانيا، في مدينة دويسبورغ في ضاحية ماركسلوه. ولم يقم السكّان باحتجاجات على بناء المسجد. ويمثِّل المسجد المبني بطراز معماري عثماني حديث ومنذ افتتاحه من قبل رئيس مقاطعة شمال الراين - ويستفاليا الألمانية، يورغن روتّغيبرس رمزًا للتعاون الناجح بين أبناء الجالية المسلمة وجيرانهم الألمان. وتوجد في هذا المسجد الخاص بالجمعية التركية الإسلامية في ضاحية ماركسلوه في دويسبورغ قبة كبيرة ومئذنة يبلغ ارتفاعها 34 مترًا، ولكن القائمون عليه تخلوا عن رفع الأذان فيه بمكبرات الصوت.

وفي العادة لا يتسنى التوصّل من دون نزاعات إلى أجواء التفاهم بين الجمعيات المشرفة على المساجد والسكّان المجاورين لمسجد ما، مثلما هي الحال في مدينة دويسبورغ، حيث أزال أبناء الجالية المسلمة منذ البدء جميع الشكوك من خلال الشفافية والتواصل المنفتح مع السكان.

ويوجد حاليًا نحو مائة وستين مسجدًا في ألمانيا، بالإضافة إلى مائة وثمانين مشروع مسجد ما تزال في طور البناء أو التخطيط. وكذلك أدَّت مشاريع بناء المساجد في كلّ من مدينة كولونيا وميونخ وبرلين إلى نزاعات وأزمات كبيرة مع السكّان، وحتى أنَّ مشروع مسجد كولونيا أدَّى إلى إطلاق مبادرة معادية للإسلام - اسمها "من أجل كولونيا".

مساهمة لجعل الجدال موضوعيًا

مجمع الفاتيكان الثاني
مجمع الفاتيكان الثاني، حيث قام الأساقفة في الفترة ما بين 1962 و1965 بإصلاح الكنيسة الكاثوليكية الرومية لصالح الحرية الدينية

​​ وكذلك يجب أن يُحسب حساب لحدوث المزيد من النزاعات والأزمات نظرًا للعدد الكبير من مشاريع بناء المساجد المزمع تشييدها. ولذلك تزداد أهمية المساعي الهادفة إلى التقليل من حدّة الجدالات في مرحلة مبكرة. والآن أظهر الأساقفة الكاثوليك كيف يمكن للكنائس أن تساهم في ذلك، فقد أطلقوا مبادرة خاصة تتعلق ببناء المساجد هدفها المساهمة في "جعل الجدال الدائر حول المساجد موضوعيًا"، مثلما ورد ذلك في وثيقة مؤرَّخة بتاريخ 25 أيلول/سبتمبر الماضي، حيث تم توجيها في الدرجة الأولى إلى البلديات والدوائر الكنسية.

"يكمن السبب في الجدالات التي تم خوض بعضها بحدّة في العديد من المدن الألمانية حول بناء مساجد فخمة"، مثلما يوضِّح الأسقف روبرت تسوليتش Robert Zollitsch، رئيس مؤتمر الأساقفة الألماني الذي يتابع قائلاً: "ولكن تؤدِّي أحيانًا في ضواحي المدن المعنية المساجد الكبيرة إلى تغييرات ملحوظة في منظر المدن، كما تخلق لدى قطاعات من المواطنين المقيمين في هذه الضواحي منذ فترة طويلة مخاوف من تغيير صورة وطنهم المعتادة والتشكيك بها".

ويستند الأساقفة إلى الوثيقة التي تضمن الحرية الدينية والصادرة عن مجمع الفاتيكان الثاني، أي وثيقة "Dignitatis Humanae" (كرامة الإنسان) والتي تثبت الحرية الدينية على أساس لاهوتي. ثم لاحظوا أنَّ "حقّ المسلمين في بناء مساجد لائقة يدخل أيضًا ومن دون شكّ ضمن نطاق الحرية الدنية"؛ وأنَّه لا يجوز أن يتم "ربط هذا الحقّ بكون المسيحيين يتمتَّعون في البلدان الإسلامية أيضًا بحرية دينية فردية وجماعية".

ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ البعض يريدون من المسلمين المقيمين هنا بذل الجهود من أجل التوصّل إلى الحرية الدينية الشاملة أيضًا في البلدان الإسلامية. "لأنَّنا نحن المسيحيين نرفض وندين خاصة القيود المفروضة على الحرية الدينية في البلدان المصبوغة بصبغة إسلامية، فإنَّنا لا ندافع فقط عن حقوق المسيحيين المقيمين هناك، بل ندافع أيضًا عن حقوق المسلمين الموجودين لدينا".

النقاشات الحادة مشروعة وضرورية

وبطبيعة الحال هناك مشكلة تتجسَّد في مواجهة المسيحيين صعوبات على سبيل المثال في تركيا في الحصول على ترخيص بناء كنيسة، حسب قول الأب اليسوعي كريستيان ترولّ Christian Troll من المعهد العالي في سانت جورج والذي يعتبر واحدًا من أبرز خبراء الحوار المسيحي المسلم. ويقول كريستيان ترولّ: "غير أنَّ السماح ببناء المساجد في ألمانيا شريطة أن يُسمح ببناء كنائس في البلدان الإسلامية لا يعبِّر عن الفكر الكاثوليكي".

الصورة الثالثة: الأسقف روبرت تسوليتش، رئيس مؤتمر الأساقفة الألماني، الصورة: ا.ب
الأسقف روبرت تسوليتش، رئيس مؤتمر الأساقفة الألماني، يدعو إلى حقّ ممارسة الدين بحرية وكذلك من أجل حقوق المسلمين

​​ والنقاشات الحادة حول خطط بناء المساجد تعتبر في المجتمع الديموقراطي ذي الأديان المتعدِّدة نقاشات مشروعة وضرورية، مثلما يرد في ورقة المعونة التوجيهية. ولكن يجب على الأساقفة الألمان العمل بشكل جماعي وسلمي على إيجاد حلول للأزمات التي تنجم عن ذلك، ومن دون أن يتم تجاوز حدود التعايش والاحترام المتبادل.

وكذلك يرد في ورقة المعونة التوجيهية أنَّ "هناك أيضًا أعدادًا غير قليلة ممن يعتبرون تقريبًا كلَّ مشروع بناء مسجد مناسبة لانتقاد الإسلام وأحيانًا للتحريض ضدّ المسلمين، ضمن سياق تنامي الخوف من العنف المدفوع بدوافع إسلاموية".

"روح التعايش الناجح"

ويجب بطبيعة الحال في كلِّ مشروع بناء مسجد المحافظة على قوانين البناء واللوائح الخاصة بتنفيذ مخططات البناء. وينبغي للمساجد المزمع بناؤها أن "تتلاءم معماريًا مع محيطها وأن لا تُخل بشكل المباني المجاورة". وكذلك يدعو الأساقفة الجمعيات والروابط الإسلامية المعنية ببناء المساجد إلى الحديث بصراحة حول "مصادر تمويل مشاريعهم وحول القائمين على هذه المشاريع والمسؤولين عنها". إذ إنَّ الشفافية تشكِّل المفتاح الذي يُزيل الشكوك والتحفّظات، حسب نص المعونة التوجيهة.

أما حول ارتفاع المآذن فإنَّ الأساقفة لا يدلون برأي محدَّد، بيد أنَّهم يؤكِّدون على أنَّه لا يجوز أن يتم "استغلال المباني الدينية في التعبير عن حقوق سلطوية أو منافسات أو تصادمات وصراعات عدوانية". وبالإضافة إلى ذلك ينبغي إطلاع المواطنين منذ البدء على المخططات بغية إزالة المخاوف.

ويلخِّص الأسقف روبرت تسوليتش عملية الإرشاد التي تقوم بها الكنيسة لكيفية التعامل مع القضايا الإشكالية المتعلقة ببناء المساجد بالعبارات التالية: "النقد مسموح ولكن التحريض ممنوع. ويجب أيضًا في النقاشات الحادة أن تسود روح التعايش الناجح". والأساقفة يعطون من خلال ذلك جوابًا بالرفض لجميع الذين يعيِّنون أنفسهم منقذين للغرب المسيحي ويتَّخذون من مخاوف الناس من المساجد ذريعة سياسية للتحذير من "أسلمة أوروبا".

كلاوديا مينده
ترجمة: رائد الباش
قنطرة 2008

قنطرة
المسجد الكبير في مدينة دويسبورغ:
لؤلؤة معمارية إسلامية في منطقة الرور الألمانية ...
سيتم في السادس والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري وفي ضاحية ماركسلوه في مدينة دويسبورغ الألمانية افتتاح أكبر مسجد في ألمانيا، وذلك بعد مضي أكثر من ثلاثة أعوام على بدء أعمال بنائه، الذي يبلغ ارتفاع قبته ثلاثة وعشرين مترًا ومئذنته أربعة وثلاثين مترًا، ما يشكِّل بناءً فخمًا في ضاحية متعدِّدة الثقافات. كارين يِيغَر تعرفنا بالمسجد.

جدل حول بناء مسجد مدينة كولونيا الكبير:
"نعم لبناء المسجد...لا لليمين المتطرف "
ترى النائبة في البرلمان الألماني البوندستاغ ومفوّضة الشؤون الإسلامية عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، لاله أكغون أن غالبية مواطني مدينة كولونيا يؤيدون من دون تحفّظ بناء مسجد كولونيا الكبير . بناء هذا المسجد رسالة تسامح وتعبير عن رفض "للمؤتمر المعارض للإسلام" المزمع عقده في كولونيا والذي هو تعبير عن شعبوية غوغائية. لؤي المدهون حاور البرلمانية لاله أكغون.

مسجد بينتسبرغ الزجاجي:
أنموذج للشفافية ومنارة للتسامح
قلّما نجد مشروعًا لبناء مسجد في ألمانيا لم يثر جدلا في الأوساط الألمانية، غير أن بناء صرح إسلامي للعبادة في مدينة بينتسبرغ في مقاطعة بافاريا الألمانية كان مغايرا لهذه الصورة، حيث انعكس بناؤه بشكل إيجابي على التعايش بين المواطنين المسلمين والمسيحيين. فرانسيسكا تسيخر تسلط الضوء على هذا المسجد ورسالته.