عزم قوي على محاكمة العنصرية ورصاصات النازيين الجدد

تتذكر الشابة الألمانية التركية الأصل "غمزة كوباسيك" بحسرة وخوف شديدين يوم تلقت خبر مقتل والدها على أيدي النازيين الجدد عام 2006 في ألمانيا، وتحاول هي وعائلات ضحايا آخرين الكفاح ضد العنصرية والقصاص من مقترفي جرائم القتل المرتكبة على مدى سنوات ماضية وراح ضحيتها عدد من ذوي الأصول المهاجرة، كما توضح أندريا كروناو في تقريرها التالي.

الكاتبة ، الكاتب: Andrea Grunau

"أوه لا! الآن ستكتشف الابنة الأمر". هذه هي العبارات التي كانت غمزة كوباسيك تسمعها من أفواه الناس وهي تقصد كشك أبيها في أحد شوارع مدينة دورتموند، شمال غرب ألمانيا، في الرابع من أبريل/ نيسان سنة 2006 لمساعدته في العمل. وعند وصولها، رأت سيارات شرطة وإسعاف في المكان، الذي أحيط بشريط أحمر وأبيض. ولما همّت غمزة بالدخول إلى الكشك، أوقفها رجل الشرطة.

صباح يوم ثلاثاء، أيقظت الشابة ذات العشرين ربيعاً والدها من النوم لتخبرهُ أنها سترافق أخاها الأصغرَ إلى روضة الأطفال، كي يتمكن هو من النوم لبعض الوقت. كان صوتها يتقطع وشفتاها ترتعشان، وهي تروي تلك التفاصيل. قال لها أبوها: "أنا أعرف أين أنت ذاهبةٌ الآن يا ابنتي". كانت تلك آخر مرة رأته فيها كما تتذكر.

عاش محمد كوباسيك في ألمانيا 15 عاماً، وهو ينحدر من أصول تركية-كردية. وبسبب انتمائه إلى الطائفة العلوية، التي تعتبر أقلية دينية، هاجر محمد نهاية ثمانينيات القرن الماضي إلى مدينة دورتموند الألمانية طالباً اللجوء السياسي، بعد أن تقطّعت به السبل في منطقة جنوب الأناضول التركية. وحصل كوباسيك سنة 2003 على الجنسية الألمانية، قاطعاً علاقته مع مسقط رأسه، لأنه كان مرتاحاً في ألمانيا، حيث تسود الديمقراطية. وكان محمد كوباسيك بدوره رجلاً ديمقراطياً، بحسب تعبير ابنته.

رصاصات في الرأس

ويُرجَّح أن القاتل دخل إلى الكشك بين الثانية عشر والواحدة ظهراً، حاملا مسدساً تشيكي الصنع سبق أن تم استعماله لقتل سبعة أشخاص آخرين. أطلق القاتل عدة رصاصات على محمد كوباسيك، الذي كان خلف منصة الكشك، أصابته اثنتان منهما في الرأس وأسقطتاه على رف الكشك، بحسب معلومات صرحت بها وحدة مكافحة الجريمة بشرطة ولاية بادن فورتمبيرغ سنة 2007.

الألمانية التركية الأصل
عائلات ضحايا النازيين الجدد في ألمانيا تطالب بالعدالة: الصورة من عام 2006 في دورتموند، وفيها تظهر الشابة الألمانية التركية الأصل "غمزة كوباسيك" وأمها في حداد على مقتل رب العائلة محمد كوباسيك.

​​ورغم مضي سبع سنوات على الجريمة، إلا أن هولها لا يزال واضحاً على عائلة محمد كوباسيك. فتقول غمزة كوباسيك، في بيتها المتواجد في الطابق الأخير لإحدى البنايات شمال مدينة دورتموند، إن والدتها أخبرتها ذات مرة أنها لاحظت رجلين يسيران خلفها وهي عائدة من زيارة صديقتها، وإنها تشعر بأنهما نازيان، ما أصابها بالخوف والهلع. وحتى قبل وفاة الأب، لوحظ وجود رجلين قبالة الكشك.

عزم قوي على محاكمة الجناة

ليست الأم وحدها هي من تتملكها حالات الخوف والهلع جراء ما حدث لزوجها، بل غمزة أيضاً، فهي تتعرض باستمرار لنوبات الخوف، إلا أنها تتحكم بها. وتريد الشابة، التي تبلغ اليوم 27 عاماً، متابعة محاكمة الجناة المعروفين بـ"خلية تسفيكاو"، ودعم باقي عائلات الضحايا، الذي يتجاوز عددهم 70 فرداً. وتتمنى غمزة كوباسيك أن ترى عضوة الخلية النازية بيآته تشيبه وباقي الجناة مباشرة وجهاً لوجه، مضيفة أنه "إذا كانوا بشَراً حقيقيين، فإنهم لن يتحملوا نظرات عائلات الضحايا".

وتسعى كوباسيك لتحقيق العدالة، وأن تذوق عائلات أعضاء "خلية تسفيكاو" نفس معاناة عائلتها وعائلات الضحايا الآخرين. ولذلك، ألقت غمزة كلمة إلى جانب سمية شمشيك، ابنة أولى ضحايا الخلية، أثناء الحفل التذكاري لضحايا النازية في فبراير/ شباط سنة 2012 أمام 1200 من الحاضرين في برلين ودورتموند.

من جانبها، اعتذرت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لعائلات الضحايا عن التهم الخاطئة التي كانت توجه إلى الضحايا وعائلاتهم، والتي توقفت في نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 2011 بعد كشف النقاب عن الهجوم بالقنابل الذي شهدته منطقة تجارية يتركز فيها تجار من أصول مهاجرة في بلدة تسفيكاو.

صوَر لعدد من المهاجرين من ضحايا النازيين الجدد على لوحة في مدينة روستوك شرق ألمانيا. د ب أ
صوَر لضحايا النازيين الجدد على لوحة في مدينة روستوك شرق ألمانيا: الخلية النازية الإرهابية المكونة من ثلاثة أشخاص واختصار اسمها NSU نشأت في التسعينيات في ولاية تورينغن الألمانية وبدأت نشاطاتها من مدينة تسفيكاو الألمانية. وقامت بقتل عشرة أشخاص معظمهم من أصول مهاجرة على مدى سنوات متفرقة والسطو على بعض البنوك.

​​

الأب والعائلة في قفص الإتهام

بعد مقتل محمد كوباسيك، تم استدعاء الابنة والزوجة والتحقيق معهن على انفراد لمدة ست ساعات. وقد أصيبتا بالصدمة بسبب نوع الأسئلة التي أُمطرتا بهما، على حد تعبير"غمزة كوباسيك، إذ كانت الأسئلة المطروحة من قبيل: "هل كان والدك يتعاطى المخدرات؟ وهل كان يبيعها؟".

كان المحققون يطرحون أسئلة حول أعضاء في شبكة المافيا وحزب العمال الكردستاني. كما تم تفتيش منزل العائلة وسيارة الأب، بالإضافة إلى أخذ عينات من لعاب الأبناء الثلاثة. ولم يتم العثور على شيء يذكر. وحين وجهت غمزة كوباسيك أصابع الاتهام للمتطرفين اليمينيين، قالت لها الشرطة إنه لا توجد أدلة.

وبعد مرور يومين على مقتل محمد كوباسيك، قتل شخص آخر بنفس المسدس في مدينة كاسل، وهو خالد يوتزكات، الذي يبلغ من العمر 21 عاماً. وتناقلت وسائل الإعلام الرواية الأمنية، التي ترجح فرضية تورط الضحية في أعمال غير قانونية. لكن بالنسبة لغمزة كوباسيك، فقد كانت تلك المرحلة صعبة للغاية، لعدم قدرتها على تأكيد براءة والدها من التهم التي كان يتم تداولها وراء ظهرها.

وآنذاك قامت عائلة كوباسيك بالاتصال بعائلة يوتزكات، التي لم تسكت عن مقتل ابنها. وفي مايو/ أيار سنة 2006 نظمت جمعيات في مدينة كاسل مظاهرة تحت شعار "لا نريد ضحايا جدداً"، شارك فيها أكثر من ألفي شخص، كما تتذكر غمزة كوباسيك. وفي مدينة كاسل، التقت غمزة بسمية شمشيك، لتتطور بينهما صداقة حتى اليوم. حينها قالت سمية لصديقتها: "ما كان يجب أن يموت أبوك".

شابتان تركيتان من عائلات ضحايا النازيين الجدد في ألمانيا (غمزة كوباسيك على يمين الصورة و سمية شمشيك على يسار الصورة). د ب أ
تتساءل غمزة كوباسيك: "هل حياتنا آمنة في هذا البلد (ألمانيا)؟ وإلى أي حد؟". لكنها تقول: "ألمانيا هي وطني. أنا أيضاً ألمانية، ولن أدع أحداً يمنعني وعائلتي من قول ذلك. هذا البلد ملك لنا جميعاً وليس ملكاً للنازيين".

​​

ظهور الحقيقة والمحكمة تلفت الأنظار

في نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 2011 اتصلت إحدى الصديقات بسمية وقالت لها: "لقد تم العثور على الأشخاص الذين قتلوا والدك، لكن من المؤكد أنهم ماتوا كما ظهر على شاشات التلفزيون". وقبل أن تخبر غمزة كوباسيك والدتها بالأمر، انهارت من البكاء وبدأت في الصراخ وكان يجب أن تهدأ أولاً قبل الكلام مع أمها. في ذلك اليوم، لاحظت غمزة الحمل الذي تحملته كل هذه السنين، وشعرت بالارتياح بعد دحض الشائعات حول والدها.

وبالرغم من أنها رجحت أن يكون المتطرفون النازيون خلف تلك الجرائم، إلا أنها تلقت خبر مقتل الضحايا بسبب أصولهم المهاجرة كـ"صفعة على الوجه"، مضيفة أنهم "قتلوا فقط لأن شعرهم أسود اللون وينتمون إلى ديانات مختلفة ولأن مظهرهم الخارجي مختلف أيضاً".

لقد شعرت غمزة بالصدمة والغضب بسبب الأخطاء التي وقعت أثناء التحقيق، وبسبب أخطاء أعضاء مكتب حماية الدستور، التي باتت معروفة لدى الرأي العام، فضلاً عن التخلص من عدد من الملفات الهامة عن طريق الخطأ. ولم تكن كوباسيك تصدق كيف يمكن أن يحدث مثل هذا، خصوصاً بعد خطاب المستشارة ميركل الذي وعدت فيه بتوضيح ملابسات تلك الجرائم.

وتتساءل غمزة: "هل حياتنا آمنة في هذا البلد؟ وإلى أي حد؟". ورغم أنها تعرف أن العديد من الأسئلة ستبقى معلقة حتى بعد محاكمة أعضاء "خلية تسفيكاو"، إلا أنها تريد الكفاح مع محاميها من أجل توعية الناس ومن أجل العدالة. وتتمنى الحصول على دعم المستشارة ورئيس الجمهورية.

هذا ويولّد المحاكمة، التي ستدور في قاعة صغيرة في إحدى محاكم مدينة ميونيخ، ومنْع العديد من المراقبين من متابعتها، انطباعاً لديها بأن "هناك رغبة في التستر على شيء ما". لكن هذا لن ينجح، لأن وسائل الإعلام والأقارب سيتكفلون بنقل وقائع المحاكمة إلى العموم.

بعد زواجها، عاشت غمزة كوباسيك مع زوجها لمدة ستة أشهر في تركيا، إلا أنها تريد العودة إلى ألمانيا، فـ"ألمانيا هي وطني"، كما تقول، و"أنا أيضاً ألمانية، ولن أدع أحداً يمنعني وعائلتي من قول ذلك. هذا البلد ملك لنا جميعاً وليس ملكاً للنازيين".

 

أندريا كروناو
ترجمة: عبد الرحمان عمار
تحرير: ياسر أبو معيلق
حقوق النشر: دويتشه فيله 2013