إدانة قاسية للنظام الشمولي

رواية "شارع الشمس" هي أحدث الإصدارات في مجال الترجمة العربية من الألمانية، تحفل بقصص بسيطة من الحياة اليومية تنتقد بشكل ساخر الإيديولوجيا الشيوعية. مراجعة بقلم سمير جريس

صورة ساخرة لألمانيا الشرقية في سنوات الاحتضار

رواية "شارع الشمس" هي أحدث الإصدارات في مجال الترجمة العربية من الألمانية. وهي أيضا من الروايات التي صدرت التسعينات في ألمانيا وحققت فور صدورها نجاحاً كبيراً أدى إلى إعادة طبعها مرات عدة.

الصورة: أ ب
الكاتب توماس بروسيغ

​​صاحب "شارع الشمس" كاتب شاب لم يبلغ الأربعين، أما أبطال الشارع فهم مجموعة صبية يعيشون في الجزء الأصغر من شارع الشمس في جوار جدار برلين العتيد، قبل سقوطه بالطبع. مغامرات أولئك الصبية الذين يقفون على أعتاب البلوغ وما يعايشونه في المدرسة والشارع والمرقص هي المادة التي ينسج بها الروائي الشاب توماس بروسيغ الحكاية الساخرة لألمانيا الشرقية في سنوات الاحتضار. تبدأ الرواية بالصبي ميشائيل كوبيش الذي لم يستطع أن يفهم أبدا كيف يمكن أن يبدأ شارع ببناية تحمل الرقم 379. ولم يستطع كذلك أن يعتاد المهانة اليومية التي يتعرض لها كلما خرج من منزله، إذ يقف على البرج المُقام في الجانب الغربي تلاميذ يصفرون ويصرخون: "انظروا: برليني شرقي حقيقي!".
ميشائيل ورفاقه في المدرسة يعيشون في الجزء الأصغر من شارع الشمس، أي في منطقة التماس مع برلين الغربية، إحدى قلاع المعسكر الرأسمالي اللاإنساني، كما يتعلمون في المدرسة. في كل يوم يتطلع المراهقون إلى هذا السور الذي يشطر المدينة، ويتحملون سخرية السياح الغربيين الذين يحملون بدورهم أحكاماً نمطية مسبقة عن بؤس الحياة في المعسكر الاشتراكي. ميشائيل كان دوماً يتخيل أن شارع الشمس لا بد من أنه لعب دوراً كبيراً في مؤتمر بوتسدام عام 1945 الذي شهد تقسيم مدينته. ولا بد أن ستالين رفض أن "يترك شارعاً بهذا الاسم الجميل للأميركيين"، لذلك طلب من هاري ترومان أن يكون الشارع في منطقة النفوذ السوفياتي، إلا أن الرئيس الأميركي رفض بالطبع. تدخل تشرشل في الأمر، وتوقع الجميع أن ينحاز إلى صف ترومان، ويمنحه "شارع الشمس". ولكن في تلك اللحظة انطفأ سيجاره. وكان ستالين من التهذب حتى انه أسرع وقدح له عود ثقاب. تأثر رئيس الوزراء البريطاني بهذه اللفتة اللطيفة، وقرر اقتطاع ستين متراً لستالين من الشارع البالغ طوله 4 كيلومترات. لا بد من أن الأمر كان على هذا النحو. ويفكر ميشائيل بحسرة: "لو كان تشرشل الأبله انتبه إلى سيجاره قليلاً ما كان انطفأ، ولكننا الآن نسكن في الغرب".

نقد ساخر للإيديولوجيا

الصورة: أ ب
غلاف الطبعة الالمانية

​​توماس بروسيغ - الذي ولد في برلين الشرقية عام 1965 - ينتقد الأوضاع في ألمانيا الشرقية بخفة وسخرية لاذعة تدفع القارئ الى الابتسام أو الضحك أو القهقهة، ثم الاستغراق في التأمل العميق. إن روايته تحفل بالقصص البسيطة المنتزعة من الحياة اليومية، وهي قصص كلها إدانة قاسية لذلك النظام الشمولي الذي علّم الناس قمع أفكارهم والنطق بما لا يضمرون، والشك في كل من يحيط بهم، والتوجس أنه ربما ينتمي الى الاستخبارات (الشتازي). رواية بروسيغ نقد ساخر للإيديولوجيا الشيوعية، ولكن دون كلمة واحدة عن هذه الإيديولوجيا. بروسيغ يعري بشاعة النظام في بلاده عبر سرد تفاصيل الحياة اليومية، والقمع الذي يعيشه النـاس في كل مجالات الحياة. وبسرعة يشعر القارئ الذي نشأ في أحضـان نظام شمولي بالتعاطف والألفة مع شخوص الرواية، وربما يتعرف على نفسه وعلى بعض أصدقائه.

ميشا (اختصار ميشائيل) وماريو وفوشل و"نظارة" وميريام والفتاة الوجودية التي تتباهى بأفكار سارتر عن الحرية: هؤلاء هم "أبطال" شارع الشمس. وفي المقابل هناك البالغون: والدا ميشا والخال هاينس والمعلمون وحارس نقطة التفتيش التي تفصل برلين الشرقية عن الغربية. والد ميشا، السيد كوبيش، يتذمر من كل شيء، ويريد دوماً أن "يقدم إلتماساً" للمسؤولين. لكنه لا يجرؤ أبداً، وتظل التماساته محض ثورة لفظية يلوكها في فمه. أما أم ميشا، دوريس، فيمكن اختزالها في كلمة واحدة: الخوف. يدفعها خوفها إلى ترديد كلمة: "كن حريصاً، احترس". تقولها لأولادها ولزوجها عندما يذكر التماساته، وتردد: "نحن لا نشكو، لا، نحن ندعو إلى... ونرجو التفكير في... ونسأل عن... أو نرجو أن... ولكن نشكو؟ نحن؟ أبداً". إلا أن الأم تبطن رغبة دفينة في زيارة الغرب. لذلك احتفظت بجواز سفر فقدته سيدة من برلين الغربية، وحاولت في كل الطرق تغيير شكلها حتى تتشابه مع صاحبة الجواز. وفي اليوم الذي أكملت فيه تنكرها ووقفت على حاجز العبور إلى الغرب ورأت كيف يتصرف الغربيون بسلاسة وثقة، عرفت "أنها تحتاج إلى معجزة، وليس إلى مجرد جواز سفر".
الخوف يتلبس الخال هاينس أيضاً الذي يقطن الشطر الغربي "الحر". كان يجتهد في كل مرة في "تهريب" شيء إلى أقاربه في الشرق، فكان يخفي ألواح الشوكولاته في جواربه، ويحشو سرواله الداخلي بأكياس الحلوى. كان يتصبب عرقاً في كل مرة يعبر فيها الحدود بهذه الأشياء. وتتمثل المفارقة في أن تلك الأشياء لم تكن ممنوعة أبدا! أما إذا طلب منه ميشا أن يحضر له أسطوانة عليها أغنية "موسكو، موسكو" مثلاً، والممنوعة في الشرق، فكان الخال يتملص من هذه الأفعال المحفوفة بالمخاطر.

مراهقون يتمردون على النظام

في روايته يحكي بروسيغ قصة مقاومة رائعة لنظام قامع. أبطال هذه القصة مراهقون يتمردون على المجتمع وقوانين السلطة، وينجحون في اقتناص لحظات من الحرية. كان الصبية ينفرون من السياسة بكل أكاذيبها، ولذلك نفروا من الدراسة نفسها، لأن ما من دراسة لا تدخلها السياسة. يقول أحد التلاميذ: "حتى دراسة التاريخ القديم تدخل فيها السياسة، فأنت تدرس أن الناس في ذلك الوقت كانوا يشتاقون إلى الحزب الإشتراكي!"

كان توماس بروسيغ في صباه من أشد المتحمسين للنظام الشيوعي، بل إن تحمسه وصل إلى حد التعصب، كما تكتب هبة شريف في مقدمة ترجمتها التي تتميز بالسلاسة والأمانة لروح السخرية. استمر تعصب بروسيغ للشيوعية إلى أن جُند في الجيش، حيث اكتشف الهوة العميقة التي تفصل بين مثاليات النظام وما يحدث على أرض الواقع. هذه الخبرة جعلته ينفر من كل الأطر الفكرية الجامدة، ويبحث عن الحرية التي يعتبرها القضية المحورية في أدبه. في "شارع الشمس" يتذكر بروسيغ ما عايشه في صباه في ألمانيا الشرقية. لكنه لا ينظر إلى ماضيه بنوستالجيا، ولا يقوم أيضاً بعملية تصفية حسابات مع تلك الفترة. إنه ينظر إلى الوراء بعين واعية ناقدة، من دون غضب، ومن دون أن يقع في فخ الذكريات.

بقلم سمير جريس، صدر المقال في جريدة الحياة بتاريخ 01.08.2003

توماس بروسيغ، شارع الشمس، دار نشر شرقيات، ترجمة هبة شريف 2003