خطوة هامة في الطريق نحو السلام

يتعين على الدستور الجديد المؤقت رغم ما يحتله من أهمية بالنسبة لاتفاقية السلام أن يثبت أولا نجاحه في الحياة السياسية اليومية. من ضمن مهام هذا الدستور ترتيب وضع الحكم الذاتي لجنوب البلاد والعلاقات بين المجموعات الإثنية. مقال فريدريك ريشتر من الخرطوم.

أنصار جبهة تحرير السودان يرفعون علم الجبهة، الصورة: أ ب
بعد الاحتفالات ياتفاقية السلام جاءت الآن مرحلة التطبيق بكل ما تطرحه من مشاكل وتحديات!

​​يتعين على الدستور الجديد المؤقت رغم ما يحتله من أهمية بالنسبة لاتفاقية السلام الخاصة بالسودان أن يثبت أولا نجاحه واستحقاقه في الحياة السياسية اليومية للبلاد. من ضمن مهام هذا الدستور ترتيب وضع الحكم الذاتي لجنوب البلاد والعلاقات بين المجموعات الإثنية في السودان. فريدريك ريشتر يكتب من الخرطوم حول هذا الشأن.

للمحكمة الدستورية السودانية "رونق" يشابه الحال في مركز من مراكز الشرطة الأفريقية. المبنى الصغير الأبيض واقع في منتصف الخرطوم ويجلس في مكان الاستقبال على منضدة معبأة بالغبار رجال شرطة تبدو على مراسم وجوههم ملامح الضجر.

ليست في المبنى أدنى مؤشرات توحي بطابع تمثيلي جليل تستعرض عبره عظمة الدستور واستقلالية عمله. حتى الملفات المعهودة للمحاكم لا يكاد هناك وجود لها عندما يتجول المرء في أروقة هذه المحكمة. على مر سنين الحرب الأهلية السودانية التي استغرقت عقودا عديدة عمد هذا البلد إلى طرح نزاعاته السياسية والاقتصادية عن طريق استخدام السلاح.

لكن اتفاقية السلام التي أبرمت بين حركة التحرير الشعبي السوداني والحكومة المركزية نجم عنها دستور جديد مؤقت تم التوقيع عليه في الثامن من يوليو/ تموز 2005.

مساعدة لبدء أعمال الجمعية المعنية بإعداد الدستور

قدمت ألمانيا مساعدة قانونية في هذا السياق،فقد ساهم "معهد ماكس بلانك للقانون العام الأجنبي والقانون الدولي" في إعطاء محتويات بروتوكولات السلام الستة الأطر المناسبة للقانون الدستوري. هذه الوثيقة المعدة من المعهد من شأنها أن تقدم مساعدة كفيلة بجعل الجمعية المعنية بإعداد الدستور قادرة على البدء في القيام بأعمالها.

كان ذلك بداية لا نهاية لعمل معهد ماكس بلانك. يقول ماركوس بوكينفورده الذي يعمل باحثا في المعهد "يكمن التحدي الكبير في كون اتفاقية السلام تتضمن عدة أحكام لم تتفق عليها الأطراف المعنية إلا بصورة شكلية. لكن محتوى هذه الأحكام صيغ على نحو يفتقد كثيرا إلى الدقة، الأمر الذي يجعل بوسع طرفي الاتفاقية تفسير النص كل حسب فهمه وهواه". هذا العامل يشكل بالتالي نقطة انطلاق غير مناسبة لإصدار الدستور.

لم تتم الموافقة على الطروحات المعدة من قبل معهد ماكس بلانك على النحو الذي كان المعهد يرجوه. فعندما نشرت الصحف الصادرة في الخرطوم مسودة المعهد المترجمة إلى العربية على صفحاتها تدخلت الحكومة وعمدت إلى وقف طبع النص.

امتنعت الحكومة السودانية في غضون مرحلة عملية إعداد الدستور فيما بعد عن متابعة تكليف المعهد بهذه المهمة رغم وجود رغبة في ذلك لدى حركة التحرير الشعبي السوداني وفضلت بدلا من ذلك الاعتماد على الدراسات القانونية الصادرة من طرفها.

مخاوف الحكومة من التدخل الخارجي

يخالج ماركوس بوكينفورده الاعتقاد بأن "الحكومة تخشى على نحو مؤكد من احتمال تقديم المستشارين القانونيين الأجانب مقترحات تطرح للنقاش يكون لها وقع المساعدة حيال حركة التحرير الشعبي السوداني. من هنا فقد فسرت الحكومة العرض المقدم من جانبنا على أنه تدخل في عملية إعداد الدستور". هذا على الرغم من أن الدراسة المقدمة من المعهد لم تتضمن سوى شرح ملخص للأحكام الواردة في البروتوكولات المتعددة لاتفاقية السلام

أما فيما يتعلق بإعداد دستور مؤقت للولايات العشر لمناطق الجنوب فقد حقق المعهد مردودا أكبر نجاحا. كان المعهد قد أعد في مرحلة أولية على قاعدة اتفاقية السلام المبرمة مسودة لدستور القسم الجنوبي من البلاد. وتمت متابعة إعداد تلك المسودة على نحو مفصل في إطار مجموعات عمل متعددة تألفت من خبراء قانونيين كما شارك بها ممثلون عن حركة التحرير الشعبي السوداني.

يتعين الآن على الدستور الوطني المؤقت أن يثبت نجاحه واستحقاقه في الحياة السياسية اليومية. لكن هذا الأمر يتطلب وجود محكمة دستورية قوية وقضاة ذوي كفاءة عالية وقادرين على التعامل مع النزاعات المحتدمة.

يتوجب على الدستور المؤقت هذا أن يوضح الأمور إزاء العديد من المجالات كالحكم الذاتي في الجنوب وتوزيع الثروات النفطية بين الشمال والجنوب والعلاقة بين المجموعات الإثنية لكلا قسمي السودان وأخيرا طبيعة العلاقة بين الدولة والدين.

سيقوم المعهد في غضون الفصل السنوي الحالي بتنظيم مجموعات عمل أخرى يشارك بها القضاة الدستوريون. هدف ذلك خلق الثقة في التعاون المستقبلي بين الأجهزة المختصة لكي يصبح في مقدور الدستور المؤقت ضمان تكريس سلام آمن.

نظرا لكون المحكمة الدستورية تتألف من ستة قضاة من الشمال وثلاثة فقط من الجنوب كان من السهل التصويت ضد الجنوب حيث تتخذ القرارات بصورة عامة على قاعدة الأغلبية البسيطة. هنا يقول بوكينفورده "من هنا احتلت كيفية اختيار القضاة أهمية قصوى".

لدى معهد ماكس بلانك قناعة بأن القضاة الذين تم تعيينهم حتى الآن لا يتبعون لكادر سياسي ما : "إن الأمل يحدونا في أن يأتي صنع القرار انطلاقا من الأرضية القانونية . لكن الأمر سيعتمد في المستقبل على مدى قوة الضغط السياسي الذي سيخضع له القضاة والذي قد لا يكون بوسعهم التصدي له".

يجري تمويل عمل المعهد بنسبة 80% من الاتحاد الأوروبي فيما تتحمل وزارة الخارجية الألمانية بقية التكاليف . يقول بولين بونشيون أوال وهو أحد القضاة الدستوريين الجنوبيين "يشكل الدستور بندا هاما من بنود تطبيق أحكام اتفاقية السلام".

كما أنه يعتقد بأن لهذا الدستور أهمية أيضا بالنسبة للسكان الجنوبيين، حيث يقول "فيما صدر القانون الوطني السابق على قاعدة الشريعة الإسلامية فإن الأوضاع السائدة في الجنوب قائمة على حقوق الأعراف والتقاليد لدى المجموعات الإثنية المختلفة".

بولين بونشيون تحدوه السعادة حيال المشروع الذي يشرف عليه معهد ماكس بلانك. إنه يقول إن هذا المشروع لا يعني فحسب توفير أجهزة كومبيوتر جديدة لمكاتب المحكمة الدستورية بل إنه يتيح أيضا للقضاة فرصة المشاركة بشبكات المعلومات الدولية مما يجعلهم يطلعون على مجريات الأمور الواقعة خارج حدود بلادهم.

من نقاط ضعف الدستور المؤقت لجنوب البلاد كونه لا يتضمن في الوقت الحاضر آلية لتوزيع السلطة بين المجموعات الإثنية المختلفة على نحو عادل. هذا يغذي مخاوف السكان في الجنوب في أن تهيمن أقوى المجموعات الإثنية أي "دينكا" على كيان الدولة الجديد المحتمل تأسيسه مما يعني التهميش السياسي للمجموعات الإثنية الأخرى هناك.

حتى أثناء اندلاع الحرب الأهلية التي استغرقت 21 عاما تداعى مركز الجنوب بصورة متواصلة نتيجة للمنافسة القائمة بين المجموعات الإثنية المختلفة. هذا وبوسع الجنوب أن يقرر بعد ست سنوات عما إذا كان يريد تكريس استقلاله أم لا، وتدل المؤشرات الحالية على أن المؤشرات ليست سيئة في هذا السياق.

فريدريك ريشتر
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2006

قنطرة

بعد مرور عام على اتفاقية السلام في السودان
عملية الترجمة العملية لاتفاقية السلام في السودان تشكل تحديا جبارا سواء للحكومة أو للسكان المقيمين على ضفاف النيل الأبيض والنيل الأزرق، فيما تنشط المجموعة الدولية في هذا السياق وتقدم معونات شتى. تقرير لينارت ليمان من الخرطوم

دارفور إلى أين؟
لم تفرز المفاوضات المتعلقة بمنطقة دارفور والتي أشرف عليها الاتحاد الأفريقي أية نتائج إلا بعد قرابة عامين من البدء فيها. هذا وإن لم يوافق على الاتفاقية المبرمة حتى الآن إلا عدد قليل من الثوار. فالكثيرون منهم تساورهم الشكوك حيال جدية نية حكومة الخرطوم في إحلال السلام. مقال كتبه مارك إنغلهارد

اتفاقية السلام في السودان
مازال السودان بعد انقضاء أكثر من عام على توقيع اتفاقية السلام الخاصة بالجنوب منقسما على نفسه كالحال في الماضي. وفيما تدعو الخرطوم إلى اعتماد المزيد من الصبر تبدو وحدة الدولة في جوبا مهددة.