Fikr wa Fann

Kurztext des Artikels.

خمسة وسبعون عدداً من " فكر وفن "

في عام 1963 أي قبل حوالي أربعين سنة صدر العدد الأول من مجلة " فكر وفن ". كان مشروعاً عجيباً؛ مجلة من نوع لم يعهده العالم من قبل، مجلة ألمانية للعالم العربي. تميزت هذه المجلة بأنها لا ترمي إلى هدف سياسي أو اقتصادي مباشر. لم تكن دعاية للسياحة في ألمانيا أو ترويجا لصناعتها. لم تكن أيضاً وسيلة دعائية سياسية في خدمة حكومة ما، كما هو الحال بالنسبة للمحطات الإذاعية التي تبث برامجها بلغات أجنبية والتي نشطت بعد الحرب العالمية الثانية وما زالت قائمة حتى اليوم، كإذاعة الـ "دويتشه فيلله" أو إذاعة الـ "بي.بي.سي". تعود فكرة إصدار المجلة بالدرجة الأولى إلى الرغبة في التبادل الثقافي وتحقيق التفاهم بين الشعوب. ولقد تزامنت هذه الرغبة في أوائل الستينات مع توفر شروط ذات طابع سياسي. ولم يكن لهذه الرغبة أن تنقل إلى حيز الواقع لولا تواجد وضع سياسي عالمي معين تمثل في الصراع بين الشرق والغرب ليس بمفهومه الحالي بل كصراع بين دول ذات إيديولوجيات مختلفة ونظامين اقتصاديين متباينين، الشيوعي والرأسمالي. وإذا استرجعنا أجواء تلك الفترة تراءى لنا أن تأسيس المجلة عام 1963 بالذات لم يكن بمحض الصدفة. إذ أن الحرب الباردة بلغت ذروتها مع تشييد جدار برلين سنة 1961 وأزمة كوبا سنة 1962. فأخذ العالم ينقسم تدريجياً إلى دول تنحاز للغرب وأخرى توطد علاقتها بالاتحاد السوفييتي. وهكذا بدأ التنازع على العديد من دول العالم الثالث. أي تحالف، الرأسمالي أم الشيوعي سيحظى بولاء عدد أكبر من هذه الدول؟ وفي أي اتجاه ستسير الدول النامية في آسيا، إفريقيا وأمريكا اللاتينية ؟ والسؤال الأهم: أي اتجاه ستختار الدول العربية والإسلامية بثروتها النفطية الهائلة وموقعها الجغرافي المتميز ؟ لقد كان من المؤكد أنّ مجلة كـ" فكر وفن" تعنى بالعلاقات الثقافية بين ألمانيا ( الغربية سابقا ) والبلاد العربية من شأنها أن تقوم بأداء دور هام في الوضع السياسي السائد آنئذ.

في مطلع الستينات وأمام هذه الخلفية نجح الصحافي المتخصص بتاريخ الفنون ألبيرت تايله ( 1904 - 1986 ) في إقناع دائرة الصحافة الألمانية بدعم مجلة ألمانية للعالم العربي إضافة إلى الإذاعة. كان تايله قد فر هارباً من النازيين وويلات الحرب في رحلة مليئة بالمخاطر قادته إلى تشيلي حيث عمل أستاذاً جامعياً وأسس هناك قبل أن يستقر في سويسرا عام 1952 مجلة ألمانية لأمريكا اللاتينية سماها "هومبولد" (نسبة إلى عالم الطبيعة والرحالة الألماني ألكسندر فان هومبولد الذي قام بجولات عديدة في أمريكا اللاتينية). واثر النجاح الكبير الذي لاقته مجلة "هومبولد" أصدر تايله عام 1963 مجلة " فكرٌ وفنّ."

وجد تايله منذ البداية في شخص آن ماري شيمل مستشرقة ذات معرفة واسعة بالعالم الإسلامي لا يتمتع بها إلا القليل من المستشرقين الألمان. انعكس شغف آن ماري شيمل بالثقافة العربية منذ أول عدد على المجلة سواء من حيث المضمون أو الشكل. فصدرت المجلة في طبعة فخمة وتصميم أنيق بالقياس إلى الستينات خصوصاً. حتى أنها كانت في بعض الأحيان أقرب إلى الكاتالوج الفني. فقام كثير من القراء بجمع المجلة ولم يتردد بعضهم في دفع ثمنها لاقتنائها. ونظراً للطلب المتزايد عليها أعيد عقب صدور العدد السادس طبع أفضل المقالات في عدد خاص بعنوان "الأفكار والفنون". كان مقر دار طباعة ونشر المجلة آنذاك في شمال ألمانيا بالقرب من مدينة هامبورغ. على أن عنوان مكتب إدارة التحرير كان في سويسرا، مكان إقامة ألبرت تايله. في تقديمه للعدد الأول صاغ تايله مهام المجلة تحت عنوان "هدفنا" على النحو التالي: " إنّ مجلتنا مرتبطة بقيم الماضي المأثورة ولكنّ مهمتها الأولى هي بحث مسائل زماننا هذا بحثاً علمياً كان أم عملياً ونحن في طلب الجواب عنها في مقالاتنا." تايله لا يتعرض في سياق كلامه لذكر الوضع السياسي العالمي. في تلك الفترة كانت كلمة " المشاركة " شعار السياسة الدولية. يؤكد تايله على البعد الفكري لتلك المشاركة المتوخاة فيقول: " لامعنى للمشاركة ولا دوام لها إلا إذا كان مبدأها روحياً ولا يزال ارتباطها بالقوى الروحية" . إلا انه يبدو لنا واضحاً من أول مقالة مطولة في العدد الأول أن الصراع القائم بين الشرق والغرب هو الذي حدد منذ البداية مضمون المجلة. إذ أنها لم تختر موضوعا ثقافيا ما بل تناولت دور المثقف في البلاد النامية التي تواجه تطورات اقتصادية جديدة. وبينما كانت أفكار الثورة والنضال ضد الاستعمار تمثل محور اهتمامات المثقفين في الدول العربية المتواجدة تحت تأثير الاتحاد السوفييتي كتب المثقف العربي أحمد مدثر المقيم في ألمانيا ( الاتحادية ) عن ضرورة التمهل في عملية التنمية: مسار هذه العملية يجب أن يتم بشكل تطوري وليس ثوري.

على أن انفتاح المجلة العقائدي وموقفها المحافظ نسبياً لم يخل من الإشكالات. ذلك أنّ المشروع كان يفتقد خطة واضحة ذات أهداف أعمق دلالة من "بناء جسور معنوية" و "استدامة التقاليد العريقة بين الشرق والغرب أي التبادل الروحي الخصيب الذي شاهدناه في العصور الماضية." على ذلك أصبحت المجلة بمثابة وعاء يحتوي كل مقال من شأنه أن ينمي - حسب تقدير الناشرين البرت تايله وآن ماري شيمل - هذا التبادل الفكري. كانت المجلة تخاطب بدرجة أولى القراء العرب الملمين باللغة الألمانية والمستشرقين فلم تقتصر على النصوص العربية بل تضمنت أيضاً نصوصا ألمانية: ترجمات من العربية لآن ماري شيمل أو مراجعات باللغة الألمانية لكتب عن العالم الإسلامي. بل إنها قامت بنشر بعض المقالات الإنجليزية المتعلقة بالعلوم الإسلامية. لم تصبح مجلة "فكر وفن" مجلة عربية بحتة إلا ابتداء من السبعينات ولكن ظلت تتخللها بين الفينة والفينة قصائد عربية مترجمة إلى اللغة الألمانية.

والجدير بالملاحظة أن مجلة " فكر وفن " لم تكن أيضاً في بداياتها مجلة ثقافية بحتة. في العدد الثاني مثلاً عالج مقال مفصل تضمن مصطلحات علمية كثيرة حول طرق تحلية مياه البحر والاستفادة منها. كذلك كان بإمكان القارئ أن يوسع دائرة معلوماته في علم الفلك أو أن يعرف المزيد عن عالم النبات و قصور الباروك في ألمانيا. أحياناً كانت المجلة تطالعنا بمقال مصور عن عالم الخيل، على الأرجح ظنا من ناشريها أن جميع العرب شغوفين بالخيل. اليوم يبدو لنا غريبا أن نجد مثل تلك المقالات ضمن صفحات مجلة ثقافية تتوخى مخاطبة المثقفين. مثل تلك المقالات المفصلة عن الخيل قد تلقى في أحسن الأحوال اهتماما لدى بعض أفراد المجتمع البدوي في دول الخليج أو بعض الأشراف بالغي الثراء.

ويظهر تأثير آن ماري شيمل واضحاً في ملف العدد 32 عن الأديب الباكستاني محمد إقبال والعديد من المقالات عن الصوفية أو عن تلقي الشرق في ألمانيا في العصر الكلاسيكي والرومانسي. وبالرغم من النـزعة المحافظة في انتقاء المواد الثقافية والتركيز على النخبة التقليدية دون مراعاة الجيل الجديد من القراء وميوله الثورية فإنه لا يمكننا نعت المجلة بضيق الأفق. فلقد قامت المجلة بنشر الشعر العربي الحديث وعدة قصص قصيرة من الأدب الألماني المعاصر. وعلى العموم كانت أي مادة ثقافية تنال إعجاب الناشرين وتتعلق بألمانيا، بالعالم الإسلامي أو بكليهما معاً يمكن أن تجد طريقها إلى النشر في المجلة. هذا الانفتاح المدهش لـ"فكر وفن" كان يشكل في الوقت نفسه نقطة ضعفها. إذ ارتبطت المجلة ارتباطا وثيقاً بشخص تايله وشيمل مع غياب النهج الواضح وخطة مفصلة معدة وفقا لمقتضيات وإمكانيات المجلة. بالرغم من كل ذلك فإن " فكر وفن" تدين على أي حال بشهرتها إلى ناشريها الأولين.

في العدد 37 (1982) ورد للمرة الأخيرة ذكر آن ماري شيمل وألبرت تايله كناشرين للمجلة. مع صدور العدد الثامن والثلاثين حدث تغيير كبير في المجلة إذ عينت الصحافية المختصة في الأدب التركي إردموته هيلر من مدينة ميونيخ مديرة للتحرير. كما أصبحت المجلة تصدر عن إنتر ناسيونس بعد أن كانت (وإن لم يكن بشكل علني) تابعة لدائرة الصحافة الألمانية. كان أحد الأعضاء الفاعلين المقربين من إردموته هيلر، الباحث المصري المقيم في المانيا ناجي نجيب الضليع في الأدبين العربي والألماني. ولقد أصبح ناجي نجيب ابتداء من العدد 39 بشكل رسمي ناشراً إلى جانب هيلر. تحت إشراف إردموته هيلر اكتسبت المجلة طابعاً جديداً فتراجعت نزعتها المحافظة وارتفع مستواها الثقافي ارتفاعاً ملحوظاً كما خلت أعدادها إلى حد كبير من المقالات ذات النكهة الاستشراقية. فجأة برزت أسماء شخصيات ثقافية مشهورة ما كانت لتظهر في المجلة من قبل، من أمثال الفلاسفة ميشيل فوكو، مارتين هايديغر، يورغن هابرماس والكتاب غونتر غراس، هانس ماغنوس إنتسنسبـيرغر والناقد الأدبي مارسل رايش - رانيسكي والسينمائيون فولكر شلوندورف ومارغريت فون تروتا والفنان جوزيف بويس إضافة إلى كتاب عرب معاصرين (من قبل كانت المجلة تكتفي في أفضل الحالات بنشر الشعر الحديث) كالطيب صالح ويحي حقي وعدد من شعراء الجيل الجديد كمحمد بنيس أو محمد الغزي - وجميعهم شخصيات لعبت دوراً هاماً في الحياة الثقافية المعاصرة في ألمانيا وفي العالم العربي. وفجأة أصبحت الصورة التقليدية التي رسمها المستشرقون للعالم العربي والتي ساهمت المجلة نفسها في نشرها سابقاً - ولو عن حسن نية - موضعاً للنقد. فنجد مثلاً في العدد رقم 40 (1984) مقالاً ناقداً لصورة كارل ماي عن الشرق ومقالاً آخر بعنوان عميق الدلالة: " إمبريالية ثقافية أم جسور للتفاهم ؟ دراسات الاستشراق في ألمانيا (الاتحادية). البنية والأهداف."

في عام 1988 انتهت تلك الفترة الخصبة وذلك بعد صدور العدد رقم 47، الذي يمكن اعتباره من أفضل أعداد مجلة " فكر وفن " على الإطلاق. ضم العدد ملفاً ضخماً اشتمل على مداخلات فلسفية ومناقشة لأفكار هايدغر ونيتشه، في فترة لم يكن هايدغر معروفاً فيها إلا لدى القلة القليلة من المثقفين العرب. بعد صدور هذا العدد نشب خلاف داخلي بين الناشرين ووزارة الخارجية وهيئة التحرير توقفت على أثره إردموته هيلر عن العمل في المجلة.

بعد مرور سنة تولت إدارة تحرير المجلة الصحافية روزماري هول ذات الخبرة الواسعة والجديرة بتسلم مهام إردموته هيلر. استمرت المجلة بمعالجة المواضيع المعاصرة واستبعاد المقالات ذات النظرة الاستشراقية إلا أنها لم تعد تتطرق إلا لماماً إلى تلك المواضيع المتميزة التي ثابرت إردموت هيلر على تناولها خشية أن تثير المقالات الناقدة أو المواضيع الحساسة تحفظات العالم العربي. من الآن فصاعداً غلبت المقالات ذات المواضيع العامة على أعداد المجلة: من " الذكرى المئوية على ابتكار آلات البيع الأوتوماتيكية العاملة بالقطع النقدية" إلى نجاح قصص الولدين "ماكس وموريتس" وصولاً إلى " الأبنية المرتفعة على الأعمدة الخشبية ؛ أنصاب أثرية من العصر الحجري الحديث في ألمانيا ". وهكذا شقت أكثر من مقالة من هذا القبيل طريقها مجدداً إلى النشر في المجلة وإلى قلوب القراء المولعين بـ"عالم الخيل ".

في الأعوام الثلاثة عشر التي تلت كانت "فكر وفن"بمثابة صخرة راسخة في مهب الرياح في تلك الأجواء السياسية التي عصفت بالعالم. بُعيد صدور العدد المزدوج 48/49، أول عدد تم إنجازه تحت إشراف روزماري هول، سقط عام 1989 جدار برلين، أهم حدث في تاريخ ألمانيا الحديث. إلا أن هذا الحدث لم يجد صدى له في المجلة فكان لا بد من مرور سنتين قبل أن نتمكن من قراءة مقال في العدد 52 يتناول موضوع الوحدة الألمانية. في عام 1991 تركت حرب الخليج أثراً عميقاً في علاقة العالم العربي بالغرب ومع ذلك من ذلك فإننا لا نجد لهذا الحدث البالغ الأهمية أي انعكاس يذكر في المجلة. قرار هيئة تحرير المجلة بتجاهل الأحداث السياسية يمكن بالطبع تبريره باعتبار أن "فكر وفن" ليست مجلة سياسية. إلا أنها - على الأقل من منظور اليوم - تخلت أيضاً عن معالجة البعد الفكري والثقافي للأحداث السياسية الهامة. شغلت روزماري هول منصب رئيسة التحرير لغاية صدور العدد 74 (2001). وإليها يعود فضل إدارة المجلة في فترة حافلة بالتحولات والاضطرابات بالكثير من التروي والرزانة.

أما اليوم فإن أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) سنة 2001 ونتائجها تضع مجلة " فكر وفن " في مواجهة تحديات ومهام جديدة. حيث يبدو لنا ان المجلة هي أفضل وسيلة لتجاوز الهوة المتزايدة بين الشرق والغرب. لذلك تسعى هيئة التحرير الجديدة للقيام بهذه المهام بجدارة ومعالجة المواضيع الحيوية والهامة بالنسبة للشرق والغرب على حد سواء معالجة نقدية وصريحة. ترمي المجلة إلى مخاطبة القراء العرب الراغبين بالتحاور مع الغرب الذي هو من جهته في أمس الحاجة إلى حوار جاد مع الشرق. مثل هذا الحوار يتطلب كماً كبيراً من الجهد والتأمل والإبداع ويدعو إلى المزيد من التعاون والتبادل الثقافي بين الطرفين العربي والألماني. من أجل كل ذلك تطمح مجلة فكر وفن إلى أن تكون الآن وأكثر من أي وقت مضى مجالا رحبا للنقاش والحوار.

بقلم شتيفان فايدنر، ترجمة ماجدة بركات