كاميرات الثورات...تذكير بسنوات القمع والقهر المتجددة

ما أهمية الأفلام أثناء وفي أعقاب الثورات؟ ظهر في مصر وفي تونس في السنوات الأخيرة عدد كبير من الأفلام، إلا أن رؤى صانعي تلك الأفلام لا يختلف بعضها عن بعض. فالأفلام الوثائقية لا تعطي إجابات عن أسباب تلك الانتفاضات وضرورتها وماهية النظام الاجتماعي الذي ينبغي أن تؤدي إليه؟ كما تتساءل إيريت نايدهارت في عرضها التالي لبعض أفلام الثورات.

الكاتبة ، الكاتب: Irit Neidhardt

يطغى على صور الانتفاضة في تونس وفي مصر في العامين ٢٠١٠ و٢٠١١ منظر المتظاهرين السلميين، وهي مأخوذة عادة من أعلى أو من منظور بانورامي، وأحيانا من مقربة نسبية من الجموع. كما توجد أفلام توضح العنف الذي استخدمته الشرطة تم تصويرها من على مسافة آمنة تجعل الصورة تعطي منظرًا شاملًا لأقصى حد. توضح هذه الأعمال أن كثيرًا من الناس اعترضوا على حظر التجمع المعمول به منذ عقود في ظل قانون الطوارئ وخرجوا إلى الشوارع معبرين عن غضبهم.

ولكن الأفلام الوثائقية لا تعطي إجابات على الأسئلة التالية: ما الذي أدى تحديدًا إلى انطلاق تلك الانتفاضات التي يسميها المتظاهرون ثورات، وما الذي جعلها ضرورية وما هو النظام الاجتماعي الذي يجب أن تؤدي إليه؟

تحديات التحول وما بعده

ما الذي يمكن أن نتوقعه من أفلام الثورة؟ يُعد فيلم "المدمرة بوتمكين" للمخرج السوفييتي سيرغي أيزنشتاين (١٩٢٥) وفيلم "معركة الجزائر" للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو (١٩٦٦) من أهم الأفلام العالمية من هذا النوع، حيث تم إنتاج كلا الفيلمين في أعقاب ثورة: "المدمرة بوتمكين"، من الإدارة السوفييتية للأفلام، و"معركة الجزائر" من شركة "كوسبه للأفلام" وهي شركة سعدي ياسف لإنتاج الأفلام، قائد جيش التحرير القومي الجزائري، الذي كان أيضًا قائد معركة تحرير الجزائر عام ١٩٥٧ ويُعد حتى اليوم بطلًا قوميًا.

إعلان فيلم المدمرة بوتمكين
يُعد فيلم "المدمرة بوتمكين" للمخرج السوفييتي سيرغي أيزنشتاين (١٩٢٥) وفيلم "معركة الجزائر" للمخرج الإيطالي جيلو بونتيكورفو (١٩٦٦) من أهم أفلام الثورات في العالم.

وكلا الفيلمين يحاول إعادة بناء مرحلة الصراع الثوري، أو بالمعنى الحرفي للكلمة استعادة ذكرى المعارك الخاسرة. وقد ساعدت هذه الأفلام على تكوين هوية جمعية جديدة في الداخل، في حين ساعدت في الخارج على الإعلان عن سيادة أهل البلد على صياغة تاريخهم. ومن القضايا الجوهرية في هذه المعالجات التساؤل عن مدى ضرورة وشرعية استخدام العنف الثوري. ورغم الهدف الدعائي نجد أن تعدد مستويات الحكي وعدم الارتباط الشرطي بزمن محدد يُفسحان المجال أمام قراءات متعددة للمشاهد.

التأكيد على الذات

ومن أهم السمات المميزة للأفلام الثورية في مرحلة الصراع ضد الاستعمار هي محاولة تأكيد الذات واستعادة الثقافة الخاصة بعد سنوات طويلة من سيطرة الآخر الثقافية. إنها أفلام البحث ومراجعة ما تم إنجازه. إنها تُشجع على التأمل مثل المرآة الجديدة التي مازالت صورتها تحتاج إلى أن نستوضحها. كثير من المتظاهرين في ميدان التحرير بالقاهرة شعروا بأهمية كُبرى لمقاطع الفيديو التي تضم صورهم والتي كانت تُعرض على شاشات كبيرة في معسكر الاعتراض.

قام بعض صُناع الأفلام في أعقاب الانتفاضات بشحذ نظرتهم ووجهوها إلى محيطهم. بينما جرب آخرون شحذ عدسات كاميراتهم. تعرفت كاتبة السيناريو التونسية هند بوجمعة في إحدى المظاهرات على عايده كعبي التي لا مأوى لها، ولولا التظاهرات ما التقت بشخصية مثلها قط. وتقول بوجمعه في أثناء مهرجان "أيام بيروت": قررت فجأة أن أصبح مخرجة وأن أصور فيلمًا، لأن الشعارات التي كانت تهتف بها الحشود كانت تنادي بحياة أفضل للجميع ولأن كعبي كانت تقول إنه بالنسبة لها لن يتغير شيء. أصبح فيلم "يا من عاش" (تونس ٢٠١١) لوحةً خام فيها ملامح مما يُسمى بـ "سينما الاستغلال". وهو يوثق بطريقة غير لافتة لحالة الاغتراب والمطلب المُلح لدى المخرجة للتعرف على مجتمعها.

نقاط الانفصال والاتصال في الحياة اليومية

"بابل" (تونس ٢٠١٢) لإسماعيل يوسف شيبي وعلاء الدين سليم، اللذين يعتبران نفسيهما كيانًا جمعيًا في بناء الفيلم الذي يقوم على ملاحظة دامت مدة ثلاثة أسابيع لمخيم شوشة للاجئين على الحدود التونسية الليبية التابع لمفوضية الأمم المتحدة العليا للاجئين. وكان المخيم يضم قرابة المليون لاجئ من العمال الأفارقة والجنوب آسيويين الذين هربوا إليه فور بداية الانتفاضة في ليبيا عام ٢٠١١. ويقدم الفيلم من خلال جوه الهادئ وسط جو المخيم الهستيري ومن خلال المراقبة الدقيقة صورةً لهياكل الحياة التي نشأت في هذا المجتمع الضخم المتأزم: سواء كانت تلك الهياكل سياسية أو ثقافية أو اقتصادية أو دينية. ولا يُعطي الفيلم للجمهور أي مساعدة على إيجاد الوجهة، حيث لا يذكر لا الزمان ولا المكان.

تعمل تهاني راشد منذ أربعين سنة كموثقة. وفيلمها "نفس طويل" (مصر ٢٠١٢) لم يلق حتى الآن الاهتمام الكافي. كتبت عنه صحيفة الأخبار اللبنانية أنه سطحي بصورة صادمة وتقليدي. ولكن اتضح بعد ذلك أن أهمية الفيلم تعود ربما تحديدًا إلى هذه الصفات. عن طريق نموذج عائلة مهندس الصوت الذي يعمل مع تهاني راشد جمعت المخرجة ما كان يدور من لقاءات عائلية يومية وأحاديث سياسية في الأشهر التي تلت تنحي مبارك. ويُركز الفيلم على والدَيّ الزميل اللذين ينظران إلى الأحداث الراهنة ويفهمانها انطلاقًا من خبرات حياتهما بصورة تختلف تمامًا عن المتظاهرين، الذين كان معظمهم من الشباب، وكانت المخرجة قد صورتهم وأجرت معهم حوارات صحفية في أثناء اعتصامهم في ميدان التحرير الذي دام ١٨ يومًا في بداية عام ٢٠١١.

والموقف الهادئ نسبيًا في أثناء قيام تهاني راشد بتصوير الفيلم أتاح لها محاولة التعرف على نقاط الانفصال والاتصال في الحياة اليومية وأن تجد السياق والرابط الذي يجمعها بعضها ببعض. وتتضح أهمية تلك السياقات والعلاقات فيما بعد حتى يتسنى الحصول على فهم للموقف العام، في حين ساعدت صور المظاهرات الحاشدة على إلهاب الحماسة.

محاولة استعادة الثقافة

فيلم "في الطريق لوسط البلد" (مصر ٢٠١١) يقدم لوحة لحي من أحياء القاهرة، حيث يعيش ويعمل عدد كبير من المثقفين، وفي مركز هذا الحي يقع ميدان التحرير. يرسم الفيلم ملامح تاريخ والحياة اليومية في ذلك الحي من خلال ست شخصيات والبناء المعماري للمكان. كان شريف البنداري قد خطط لهذا الفيلم قبل اندلاع الانتفاضة وأجل تصوير الفيلم الذي كان مقرراً له نهاية شهر يناير ٢٠١١.

 ولم يغير البنداري تصوّر مشروع الفيلم ولكنه أضاف إليه الأماكن والمواقف التي أثرت فيها المظاهرات في حياة الشخصيات. وتتميز الأعمال الفيلمية الوثائقية المصرية في الأعوام الماضية لحد كبير بالملاحظة الدقيقة للأماكن وتاريخها وتأثير ذلك على الحاضر. وقد بدأ ذلك في أعقاب الانتخابات الرئاسية عام ٢٠٠٥ التي كانت مثار جدل كبير، كما كان ذلك بمثابة نظرة تُلخص الواقع ومحاولة استعادة الثقافة الخاصة بعد سنوات من القمع والقهر.

 

إيريت نايدهارت

ترجمة: صلاح هلال

حقوق النشر: معهد غوته 2013

إيريت نايدهارت: صحفية حرة ومنسقة ومحررة قسم السينما والشرق الأوسط في شركة مك فيلم المتخصصة في توزيع أفلام العالم العربي السينمائية.