مساءلة الماضي والحاضر

المخرجان الفلسطيني ميشال خليفة والإسرائيلي إيال سيفان صورا فيلما وثائقيا "الطريق 181" على الحدود التي رسمها قرار 181 للأمم المتحدة عام 1947. على هامش النقاش الذي دار بعد عرض الفيلم في برلين كان هذا الحوار مع المخرج ميشال خليفة

ميشال خليفة

​​المخرجان الفلسطيني ميشال خليفة والإسرائيلي إيال سيفان صورا فيلما وثائقيا "الطريق 181" على الحدود التي رسمها قرار 181 للأمم المتحدة عام 1947. على هامش النقاش الذي دار بعد عرض الفيلم في أكاديمية الفنون في برلين برعاية غوتة فوروم كان هذا الحوار مع المخرج ميشال خليفة

هناك المشهد للمجندة والمجند الإسرائيليين اللذين يقفان على الحاجز في الضفة الغربية ويعبران عن حالة عشق بينهما، وهي حالة فعلاً جميلة وإنسانية لو كانت في مكان آخر؟ كذلك الشاب الانتحاري الذي تدمع عينه حين تزوره أمه في السجن بعد فشل عمليته؟ هل تريد فعلاً ان تقول إن الحالة الإنسانية هي ذاتها بين الإنسان الفلسطيني والإسرائيلي؟

ميشال خليفة: بالفعل هناك موازاة في إنسانية الإثنين. الجندي عمره 18 سنة مثله مثل الشاب الذي أراد القيام بالعملية الإنتحارية. أعدنا الإثنين إلى إنسانيتهما أولاً. لكن الصورة تظهر في نفس الوقت أن الجندي يقف مدججاً بالسلاح على الحاجز ويمتلك السلطة بينما الفلسطيني مسجون. إنه فيلم ويجب قراءة الصورة فيه وليس ما يقال لفظا فقط. هدفي ان لا يتخلى الإنسان العربي عن إنسانيته. قوة حضارتنا هي في إنسانيتنا. حين تكون إنسانيتنا هي الأساس بإمكاننا حينها أن نستوعب أناسا آخرين بدون مشكلة.

الصحافة تعاملت مع الفيلم بأوجه مختلفة، منها من اعتبر أن الفيلم يسمم النقاش الدائر حول الصراع العربي-الإسرائيلي ومنها من اعتبره رائدا في طرحه لموضوع التعايش بين الأطراف المتنازعة.

خليفة: الاحتلال واضح في الفيلم. أعدنا الصورة إلى بداياته، الى 1947، هذا سبب هذه الهجمة على الفيلم. الأمر واضح بالنسبة لي، هذا كلام صهيوني لا يرتاح للطرح الإنساني في الفيلم ولذلك يحرض ضده. من ناحية أخرى لم نشاهد حتى الآن فيلماً أرانا فلسطين كهذا الفيلم. نرى فلسطين موجودة في كل مكان من بداية الطريق/الشريط وحتى آخره.

لا يعرض الفيلم الجانب الإنساني فقط، ألا تقلبون المعادلة سياسيا؟

خليفة: أخرجنا ذاكرة الأشياء الى السطح ولكننا لا نستطيع ان نلغي الواقع القائم. يجب ان نكون صادقيين مع الأشياء لنُظهر التناقضات من خلالها. في البداية اظهرنا كيف انه في الجنوب لم يعد هناك تواجدا فلسطينيا. من تحت تبدأ الحقائق بالطوفان على السطح، وتراكمها يقلب المعادلة كلها في نهاية المطاف، عدا أن الرواية الصهيونية التي كانت تقول اننا اردنا ان نرميهم في البحر. لأول مرة نرى ونسمع ومنذ 1948 وحتى اليوم أناس اسرائيليين شاركوا بالتنظيف الأثني ضد الفلسطينيين ويعلنون ذلك جهارا امام عدسة الكاميرا.

أخرجنا إلى السطح حقائق لم يظهرها حتى الآن احد بهذا الشكل. لكني أقول صراحة أنا ليس لدي كراهية. نضالي هو سياسي وتناقضاتتنا في العالم العربي قائمة. لا يجوز ان نبني في داخلنا فكرة إلغاء الآخر وهي اساسا فكرة صهيونية وليست ناتجة من المجتمع العربي. سندخل في لعبة المرآة حيث لن نشبه انفسنا بل نشبه اعدائنا، هذه هي المأساة الحقيقية، وهذا ما حاولنا كسره.

جزء من الواقع الذي صورته هو وجود فلسطينيين في الجيش الإسرائيلي، كيف كان رد الفعل في الدول العربية على ذلك؟

خليفة: لم يعرض الشريط هناك بعد لكن هذا معروف. ألا تعمل دول عربية ومخابرات عربية وشركات عربية مع إسرائيل! إذا عدنا إلى بنية الصراعات التاريخية، سنجد أن الأشياء تتداخل عادة ببعضها. يعني إذا عدنا الى الفترة الصليبية لوجدنا انه في مرحلة ما كان الصلييبون يحلون المشاكل بين الأمراء العرب. حين يغيب المشروع الحضاري، يقرر من لديه مشروع. ونحن ليس لدينا مشروع الآن، مشروعنا رومانطيقي: وهو اننا نريد ان نعود. لكن كيف سنتحول من -نريد العودة- الى بناء الأشياء كي نعود وكي نخلق واقعا جديدا؟ كان هناك إجابة في فترة السبعينات الى حد ما لكنا الآن فقدنا كل شيء.

خلال تصويركم الفيلم وانتقالكم بالسيارة من مكان لآخر على طول الحدود التي رسمها قرار الأمم المتحدة 181 لتقسيم فلسطين كانت عدسة الكاميرا تلتقط المرآة الجانبية للسيارة وتنتقل بعدها للأمام بسرعة كبيرة وكأنكم اردتم ان تقولوا للمشاهد هذا تاريخ لكننا على الطريق الى الحل، لكنكم انتهيتم على الحدود اللبنانية المغلقة، بمعنى آخر الى طريق مسدود.

خليفة: هذا هو الواقع. في مجتمعاتنا وفي علاقتنا مع انفسنا نخاف من الحقيقة. لا تجد عندنا من يكتب يومياته، حتى هؤلاء الذين قرروا أقدارنا وكان لديهم سلطة ان يتخذوا قرارات مهمة في حياتنا، لا يكتبون.

تطرق الفيلم إلى مواضيع سياسية عدة، قبل مشهد الحدود الذي ينتهي به الفيلم هناك مشهد لأم إسرائيلية فقدت ابنها أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وهي تونسية وزوجها مغربي تقول اننا كنا نعيش بشكل جيد في تونس والمغرب ونعتبر أنفسنا عرب في نهاية المطاف. أين مسؤوليتنا؟ وكيف خسرنا بعضا منا؟ كونهم يهوداً؟ إذا كان الأمر كذلك فنحن عنصريون.

كيف تتعاملون مع النقد الموجه من قبل بعض المثقفين؟

خليفة: هذا جزء من الواقع. الثقافة مستهدفة أيضا من الجيش الأسرائيلي، على صعيد السينما مثلا نذكر انهم حطموا مؤسسة السينما وأرشيفها الضخم آنذاك أثناء إجتياح بيروت عام 1982 والفيلم اليوم يُحارَب على مستوى مثقفين مثل برنارد هنري ليفي. نحن في صراع كما اعرفه منذ كنت طفلا في الناصرة. الفرق انني كنت حينها ابن لعائلة عمالية فقيرة والآن أدرِس في نيويورك وباريس وبروكسل. استمديت من إيماني بعدالة قضيتي وبعملي السينمائي المنتمي قطعا الى هذه القضية الطاقة ووصلت الى ما انا عليه الآن. يجب أن نحرر أنفسنا وان نكون مسؤولين امام الواقع.

لا يجب ان نضع الضحية بمساواة الجلاد. ولم نفعل ذلك في الفيلم. لكن الضحية تتحمل نوع من المسؤولية إذا ما استمر الجلاد بجلدها. ما دام حول إسرئيل شعوب عربية هابطة ستستمر هي بالجلد ولن تعطي شيئاً. أما إذا تحملت الضحية مسؤوليتها بنفسها، عندها بإمكانها ان ترى الأخطاء وأين يكمن الضعف والشلل، وحينها تبدأ الاشياء بالتغيُّر. اليس عجيبا ومخزيا ان نصاب بالهزيمة لعدة أجيال متتالية؟

مشهد الحلاق الذي يتحدث عن مجزرة اللد وعن حرق جثث 300 من القتلى الفلسطينيين بأمر من ضابط إسرائيلي تليه مباشرة لقطة للسكك الحديدية والتي ترمز لنقل اليهود في زمن النازية الى أفران الغاز، لماذا؟

خليفة: بعض الصهاينة في باريس يريدون التحريض ضد الفيلم فركزوا على هذا الربط المزعوم ليصرفوا الأنظار عن باقي الفيلم. المشهد مدته بضع ثواني اما الفيلم فأربع ساعات. هذا تاريخنا في فلسطين ولنا الحق ان نصور هذا التاريخ ولن نسمح لأحد بمنعنا من ذلك. هذا الحلاق وجدناه بالصدفة لم نقُم "بكاستينغ" على حلاقين البلد لنختار احدهم. الفيلم يتحدث عن إستعمار فلسطين لا أكثر وهم لا يريدون لأحد ان يرى هذه الحقيقة وهذا الواقع.

غادرت الناصرة ولك من العمر 20 سنة، ما هو سبب هذه المغادرة المبكرة؟

خليفة: هاجرت لأسباب عدة، منها السياسي والإنساني والوجداني والوجودي. أردت ان أعيش حياة أخرى إذ كانت الحياة مغلقة في وجهي. سافرت إلى بروكسل لأدرس في الجامعة ولأني كنت ولا ازال أؤمن بأن الثقافة هي الشيء الأهم بالنسبة لي ولكل عربي وفلسطيني. المعرفة بالنسبة لي على الأقل هي أهم أوجه النضال وأهم أسس التغيير.

السينما الفلسطينية ولدت داخل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وكان الطابع السياسي هو الطاغي. المخرج ميشال خليفة قدم منذ بداياته فيلماً مغايراً مستقلاً إن جاز التعبير. من أين جاء هذا الوعي المبكر لأهمية السينما من المنحى الثقافي؟

خليفة: أنا على قناعة تامة بأنه لا يمكن السيطرة على الأشياء إلا بالعلم والمعرفة ولا يمكن تحقيق تغير وطني إلا بربط التجربة الإنسانية الفلسطينية بالتجربة الإنسانية العالمية. هكذا افهم الأمور وهذا هو خط عملي.

لدينا اليوم خمسة أجيال قد عانت الأمرين، لكن من جهة أخرى يجب أن نحول هذا التحدي إلى تحدٍ حضاري. ما يعني تحدٍ بالعلم والمعرفة والإبداع والإنتاج، هكذا فقط نغير الأشياء. الأساس أن يُحترم الفرد الفلسطيني والعربي ليكون له كيانه وليكون متحررا. سؤلك كان بمعنى أنني مثلت توجها مستقلا منذ البدء، هذا صحيح وهذا هو الصراع الذي اسخر له كل إمكانياتي، وأملي ان يكون لدينا فرد حر وقادر ان يعبر عما يعتمل بداخله وان يتحمل مسؤولية أخطائه. ليست المشكلة بالأخطاء، هذه صفة الإنسان، أما الشخص المؤدلج فلا يعترف بخطئه رغم انه يقود شعبه للحضيض. هذه هي أنسنة العلاقة بالواقع والعالم المحيط والتساؤل عن الواقع.

السينما بالنسبة لك هي طريقك للتحرر؟

خليفة: لنأخذ بشكل حسابي كم صرفنا من الأموال على السلاح؟ المليارات. ماذا لو صرفت هذه الأموال على تحديث العالم العربي والمجتمع الفلسطيني وعلى التعلم بطرق حديثة ومتطورة؟ هنا التحدي الحقيقي. على ماذا نخاف؟ نحن نعرف انه ليس هناك عدل ولكن لا يجب أن نضيف إليه إجحافاً. نحتاج إلى مفهوم آخر يعطي الإنسان الفلسطيني ثقة بذاته وقدرة على كسب العلوم والمعرفة ليصبح قادرا على المواجهة.

أنا غادرت بهذه الأفكار ومع الوقت تبلورت لدي الفكرة انه سينمائياً ليس المهم ان تحارب من اجل الشعار. ليس الصراخ هو الشيء الجميل، بل الحالة الإنسانية والتجربة الإنسانية التي أوصلت إلى الشعار. الذي يهمني التجربة الإنسانية الفلسطينية والعربية ولدي عشقا لها بكل معنى الكلمة. بعد 34 سنة من الغربة ما زلت كما تسمع أتكلم جيدا اللغة العربية التي أحبها وهي لغتي وهويتي بدون تعصب. هويتي غير المبنية على إلغاء الآخر بل بالعكس على استيعاب الآخر.

من هنا كان عملك المشترك مع المخرج الإسرائيلي إيال سيفان؟

خليفة: الفيلم عملنا المشترك الأول وأنا اعتبره عمل سياسي إضافة لكونه عمل فني. أردنا ان نقول به إن اليهود ليسوا قذرين، ليس كل الإسرائيليين قذرين ليس كل العرب المسلمين أو المسيحيين قذرين. لا! هناك مشاريع مشتركة من الممكن أن نبنيها على أساس احترام الآخر والحقوق المتساوية والتامة بين الناس لإعادة بناء إمكانية التطلع إلى مستقبل أفضل.

أجرى الحوار يوسف حجازي، قنطرة 2004