الشرق بريشات غربية

في القرن التاسع عشر اكتشف فن التصوير الأوروبي الشرق. وكانت مصر على وجه الخصوص هي أرض الأحلام بالنسبة لكثير من الفنانين. في فيينا تقدم أحد المعارض أعمال رسام الشرق ليوبولد كارل مولر. نيكلاس ماك شاهد المعرض ويقدمه لنا

.

كان مولر مختلفا. ويمكننا رؤية ذلك عندما نشاهد صورة له في شتاء عام 1875 مع بعض زملائه في القاهرة وهم الرسامون فرانتس فون لينباخ وهانس ماكارت وكارل رودلف هوبر، وقد جلسوا في غير سعادة على ظهور الجمال، قبعاتهم السوداء كانت مائلة والبدل المكونة من ثلاث قطع مغبرة وثقيلة، والرمال العاصفة تتخلل ذقون الفنانين.

الوحيد الذي ظهر مبتهجا أمام الكاميرا كان مولر، فلم تكن له ذقن نابتة ولم يلبس قبعة- وعلى عكس زملائه الذين عاندوا وارتدوا ملابسهم الأوروبية وسط الصحراء الرملية- ارتدى مولر طربوشا على رأسه. يبدو للوهلة الأولى كعربي، وإذا ما دققنا النظر يبدو مثل مهرج لطيف. كان في الأربعين من عمره، ولم يكن قد مر عليه وقت طويل كرسام للشرق.

تصوير الشرق مربح

جاء مولر متأخرا. لقد عمل لمدة ثمانية سنوات كرسام للكاريكاتير في صحيفة "فيغارو" الأسبوعية الساخرة من أجل كسب قوته اليومي. وفي الأثناء التي كان ماكارت قد غزا فيها الصالونات بصوره الفانتازية الملتهبة عن الشرق، حيث حصّل أموالا طائلة من صوره عن كليوباترا المتمطية في أجواء شرقية، كان مولر المولود في دريسدن عام 1834 والذي تربى في النمسا يحصل أجرا زهيدا جدا عن رسومه المضحكة.

ولم يكتشف مولر مصر إلا بعد المعرض العالمي بفيينا حيث تأثر بالبنايات الشرقية، واكتشف معه رسم الشرق كمصدر لكسب المال. في عامي 1873 و1874 سافر في البداية مع كارل رودلف هوبر إلى مصر، وبعد ذلك بعام سافر مع مشاهير رسامي الصالونات الأوروبية إلى القاهرة وأقام بفندق "أوتيل دو نيل". وكان للتحرك الجماعي للفنانين أسباب اقتصادية، فلم يكن هناك شيء يعادل المكسب الناتج عن اللوحات التي تصور الشرق.

معرض عن الانجذاب الأوروبي إلى الشرق

تُعرض أعمال مولر الآن بين أعمال إدوارد شارلومونت وكارل رودلف هوبر ويوهان فيكتور كريمر وألويس شون في معرض صغير للغاية عن "فن التصوير والغرائبية في أواخر القرن التاسع عشر" بفيلا هرمس بالقرب من فيينا، وهي عبارة عن قلعة صيد بناها القيصر فرانتس يوزف في حديقة حيوان ليانتس عام 1886 لزوجته إليزابيت لكي تكون مقرا لإقامتها في فترة الشيخوخة.

ولا يقتصر المعرض فقط على اللوحات والرسومات غير المعروفة عن الانجذاب الأوروبي إلى الشرق والتي يبلغ عددها حوالي 50 لوحة، بل يضم أيضا المواد التي استلهم منها الفنانون والزبائن خيالاتهم عن الشرق. صور فوتوغرافية من الورشات الخاصة بالفنانين، والبطاقات البريدية التي قاموا برسمها بأنفسهم، والتي قام فنانون مثل هوبر بإرسالها من مصر إلى بلاده.

الترحال في الشرق

كان القيصر النمساوي وزوجته أيضا من زبائن مصوري الشرق من فيينا. وكان نبلاء الامبراطورية النمساوية- المجرية هم زبائن الفنانين بالدرجة الأولى. في القاهرة عاش الدُوق الشبان استرتسي وكينسكي وفيلزرهايم، وكما يقول مولر فإنهم كانوا "شبانا محبين للحياة"، يقضون وقتهم في القاهرة، على طريقة الجيل الضائع في باريس بعد ذلك بنصف قرن. لكن الفارق بينهم وبين بوهيمي باريس أنهم كانوا يملكون المال وينفقونه بسخاء على اللوحات.

ومن بين المسافرين إلى القاهرة في شتاء عام 1875 كان ماكارت الذي قام بتصميم غرفة النوم في فيلا هرمس. دخل ماكارت التاريخ باعتباره عبقريا في التسويق، فهو واحد من أوائل الفنانين المحدثين الذين استغلوا الصحافة لأغراضهم.

عندما جاء ماكارت ولينباخ، وهما فنانان حققا نجاحا جماهيريا في بلدهم، إلى مصر، أقاما في المسافر خانة وهو القصر الأسطوري لنائب الخديوي، واستدعيا الصحافيين، وعرضا أمامهم دائما موديلات عارية للرسم.

موديلات غير محترمة

في عام 1876 قام كاتب من جريدة "ألغماينه تسايتونغ" بزيارة ماكارت في الورشة الخاصة به في القاهرة وكتب في تقريره يقول: "فتيات الموديل العربيات يظهرن في أول الأمر شديدات الخجل، ثم يتجردن من حيائهن، ويسرن عاريات. وتُلتقط لهن الصور الفوتوغرافية باستمرار، ويتخذن أوضاعا رائعة، أوضاع أقل ما يقال عنها أنها غير محترمة."

كان ذلك أيضا جزءا من استراتيجيات التسويق الناجحة. باع ماكارت أثناء تواجده في القاهرة لوحات إيروتيكية بمبلغ إجمالي قدره 10 آلاف غولدن. وكتب مولر يقول: "ماكارت كان مجتهدا، رسم هنا ثمانية لوحات، وكلها لوحات كبيرة، أما لينباخ فقد اقتصر عمله على التجريب".

لكن مولر نفسه كان يجرب. في الصور الفوتوغرافية نراه يجلس على الرمل في قيظ الصيف، وينظر من وراء نظارته بعين ناقدة، ويرسم. كتب مولر متضايقا: "أنا أعمل دائما في الأماكن المفتوحة. من العبث رسم لوحات عن أوقات لا يعرفها المرء مطلقا. "

اليومي العادي مقابل الإيروتيكي

أراد مولر على العكس من ماكارت أن يصور الحياة في الشرق المعاصر، بألوانه المتنوعة وقد قام بذلك بحماس إثنولوجي لم تشاركه فيه إلا قلة من أقرانه. رسم المدارس ومشاهد من الشارع، لكنه وضعها داخل بناء صحراوي خيالي، كان يرسم الأزياء والأطفال والأسوار المتهدمة والملامح العربية والضوء الضبابي لدلتا النيل وانعكاساته على الأجساد والملابس، بدقة رسام الخرائط.

في محاولاته اليائسة لالتقاط أضواء الفجر والغسق المرتعشة التي تختفي بسرعة كان مولر أقرب إلى الإنطباعيين، أكثر منه إلى رسامي البودوار من أبناء عصره الذين صوروا الشرق عموما على أنه بيت دعارة مثير ومزخرف، وتمادوا في خيالاتهم العنيفة المتطرفة نظرا للنجاح التجاري الذي حققوه، فمثلا رسم إدوين لونغ سوق زواج بابلي، تنتظر فيه النساء مثل بضاعة حتى يأتي المشتري. جون ليون جيروم وفيرينتش أيزنهوت صوروا أسواق للعبيد، يقوم فيها المشترون باختبار أسنان وأثداء الجواري العاريات بأيدي غليظة وخشنة.

في لوحات مولر ذات الألوان الناعمة نرى أناسا آخرين، شخوصا غير محددة الجنس، غرباء لا يمكن القرب منهم وهم يحتفظون بالمسافة بينهم وبين الرائي. ذات مرة رسم مولر لوحة جذابة "لأبي الهول المعاصر" في صورة رجل له ملامح يمكن أن تكون أنثوية أيضا.

في رحلته الأخيرة إلى القاهرة رسم مولر "نفوسة" وهي بربرية ترتدي عباءة سوداء مفتوحة ونظرة معلقة، صورة تعود بمولر إلى ماضيه كرسام كاريكاتير، حيث تعطي رموش نفوسة انطباعا زائفا بالنعومة والإغراء، وتكاد اللوحة أن تكون استهزاء غريبا بلوحات غرف النوم التي رسمها زملائه. إنها السخرية الفيناوية تلك التي نراها في عيني الحسناء الشرقية الفاتنة في لوحة مولر. السيجارة في يدها اليمنى وتستند باسترخاء في الركن، إنها تجسد نموذجا من النساء، ندر أن نراهن في لوحات الشرق في نهاية القرن التاسع عشر.

"مولر المصري" بالطربوش

بلوحة "نفوسة" ودع مولر مصر. لم يتح له منصبه الجامعي "بمكافأته الزهيدة" التي طالما اشتكى منها، أن يقوم بأية رحلات مجدية إلى الشرق، مرة واحدة أخذ إجازة وسافر في الشتاء إلى القاهرة.

حتى وفاته عام 1892 ظل "مولر المصري"، كما يلقبه تلاميذه، أستاذا لكرسي التصوير التاريخي خلفا لماكارت. لكن حتى في هذه الفترة اهتم أكثر بتصوير الحاضر الملغز المليء بالأسرار أكثر من اهتمامه بتصوير ما هو ماض. وبالطبع كان يفعل ذلك وهو يرتدي طربوشا على رأسه.

بقلم نيكلاس ماك
ترجمة أحمد فاروق

عن صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ" بتاريخ 15/1/2004