فتاوى الاغتيال والجنون: نتاج خلط الدين بالسياسة

ينتقد الكاتب خالد الحروب حالة التطرف الإسلاموي المريع الذي تعصف بالمجتمعات العربية، ويجسدها شيوخ فتاوى التكفير مثل محمود شعبان وعبدالله بدر ويتسائل: إذا قلنا إن من دمر شمال مالي وسكانها ومخطوطاتها وأرهب نساءها هم متطرفون جهلة لا يعرفون حقيقة الدين، فماذا نقول عن شيخ أزهري يحمل شهادة الدكتوراه من مؤسسة عريقة كالأزهر ويدرّس الطلاب فيها ويصدر رأياً تفاخرياً على شاشات الفضائيات يحرض فيه على قتل كل قادة المعارضة؟

نقلت وسائل إعلام عدة عن شيخ سلفي في مصر اسمه محمود شعبان، يحمل شهادة الدكتوراه ويدرس أجيالاً وطلاباً جدداً في جامعة الأزهر، فتوى تحكم بالقتل على قادة جبهة الإنقاذ المصرية بدعوى عدم خضوعهم لولي الأمر وتمردهم عليه.

الشيخ المذكور دافع عن نفسه ورأيه وما نقل عنه، وقال إنه لم يصدر فتوى تجيز القتل بل إن ما قام به هو ضرورة تبيان حكم شرعي قائم على تخليص وتجميع الأدلة الدينية من الشرع التي توضح حكم من هم في وضع قادة المعارضة «المتمردين».

والأدلة التي جاء بها وكررها في معرض دفاعه عن نفسه تدور كلها حول ضرورة تطبيق حد الحرابة في مصر لمناصرة «ولي الأمر الشرعي»، وأن منازعة ولي الأمر تستجلب ردع المنازعين بعدة وسائل آخرها القتل. وهو يقول إنه لا يحرض على القتل ولا يطلب من أحد تطبيق الحكم حتى لو انطبق على قادة المعارضة، لأن تطبيق أي حكم هو مسؤولية ولي الأمر نفسه، لكن مسؤوليته كـ «عالم» تكمن في توضيح الأحكام الشرعية.

فتوى القتل تمهيد لمعظم طريق الاغتيال

​​من ناحية عملية وواقعية تعمل فتاوى القتل والاغتيال على تمهيد تسعة أعشار الطريق للإجهاز على المعني بالفتوى. تقوم فتوى التكفير والقتل بخلق المناخ التحريضي وتسعير الغضب الديني وتثوير الغريزة البدائية عند أفراد كثيرين، لن يتأنوا في إنهاء العشر الأخير عن طريق الاغتيال.

السكين التي يدسها متعصب أو مهووس ديني في صدر معارض تكون قد شحذتها فتاوى وأخرجتها من غمدها مناخات عدائية وإقصائية واحتقارية بلغت حدودها القصوى. والرصاصة التي يطلقها مراهق إسلامي استمع لفتاوى «الشيخ الدكتور» هنا أو «العالم العلامة» هناك تكون قد خزنت بارودها من خطابات التحريض المتراكمة والتكفير المبطن.

كل عملية اغتيال قام بها متعصب ديني وسقط فيها معارض فكري أو سياسي للتيارات الإسلاموية (من فرج فودة إلى شكري بلعيد) كمنت وراءها خطابات تحريض وفتاوى تكفير مبطن أو صريح.

إجابات التفافية وفذلكات لغوية

عندما يلح السائلون على أي مُفتٍ، يطلق فتوى اغتيال مبطنة أو صريحة، بخطورة فتواه، وبأن التلميح بكفر فلان وعلان معناه بطاقة تصريح بالاغتيال، تتم إحالة السائل الى إجابات التفافية وفذلكات لغوية لا تزحزح شيئاً في جوهر العملية الاغتيالية.

في حالة محمود شعبان التي بين أيدينا ترى المفتي يتراجع قليلاً، وتكتيكياً وفذلكياً، ويقول بأن وظيفة تنزيل حكم التكفير على أي من قادة المعارضة هي مهمة «علماء مصر» الذين عليهم أن ينظروا في تصرفات رموز المعارضة ويروا مدى انطباقها مع حكم الخروج على ولي الأمر، وبالتالي استصدار «فتوى رسمية» بكفرهم أم عدمه.

شيوخ الازهر مع الثورة، الصورة د ب ا
أين دور مؤسسة الازهر العريقة والمرموقة في التصدي للتطرف الديني؟

​​

لكن من هم «علماء مصر» الذين سوف يتصدون لتلك المهمة الخطيرة في تصنيف المسلمين بين مؤمنين وكفار، وإحالة هؤلاء الآخرين إلى حكم القتل والحرابة؟ لا أحد يعرف إجابة على هذا السؤال، ويبقى الغموض إزاء التطبيق هو سيد الموقف.

الشيخ شعبان نفسه لا يعترف بأهلية الأزهر للقيام بوظيفة «تقييم» البشر، لأنه تحول إلى مؤسسة علمانية وشيخه علماني كما نقل عنه في أكثر من مرة. أي بكلمة أخرى لأن ما يفكر به الأزهر وما يقول به لا ينسجم مع فكر وأقوال الشيخ العتيد.

ومعنى ذلك أن «علماء مصر» هم أولئك الذين يتوافقون مع الشيخ نفسه في الرأي والحجة، وسوف ينتهون إلى التكفير ثم الحكم بقتل كل من يتمرد على ولي الأمر الشرعي، وهو هنا الرئيس المصري محمد مرسي.

المجرم الحقيقي ليس مَن يضغط على الزناد

المجرم الحقيقي ليس من يضغط الرصاص على الزناد في العشر الأخير من مشروع الاغتيال، بل من يمهد تسعة أعشار الطريق ويهيء المناخ لذلك الاغتيال. وهنا يقع التحدي الأكبر علينا جميعاً بلا استثناء، وهو كيف يمكن إيقاف انهيارنا المريع في قاع من التطرف والتعصب (يُضاف إلى التخلف العام والشامل) يسابق بعضه بعضاً وينتج حالة مخيفة من التدمير الذاتي التي لا نحتاج معها إلى أي عدو خارجي!

حالة التطرف المريع التي تعصف بنا، ويجسدها الشيخ محمود شعبان وعبدالله بدر وقائمة طويلة في طول وعرض المنطقة، أسبابها عدة، لكنها الآن متجسدة في الحالة الإسلاموية الفوضوية التي تضرب في كل مكان من دون عقل، وتستهدف أي شيء في طريقها، البشر والأشياء والأفكار.

صحيح أن جذور التطرف عميقة وتعود إلى حكم الدكتاتوريات الطويل، والفساد، والتدخلات الخارجية، وصدمات الحداثة، وقائمة طويلة من التحليلات والتشخيص، لكن الآن نواجه النتيجة البشعة وهي تفاقم التعصب الديني والطائفي والهوس المذهل يذهب بكل ما هو أخضر في بلادنا.

تعصب أعمى

يستهدف هذا التعصب الأعمى مخطوطات نفيسة في تمبكتو، أو فتاة يمنية في عمر الورد يتم اغتصابها بدعوى سترها لأنها غير محجبة، أو مناضل وطني عريق في تونس، أو ... كل قادة المعارضة في مصر، أو مجتمع بكامله في لبنان يتحالف ضد مجتمعه المدني رجال الدين المسلمون والمسيحيون، ويدخلون معركة إفتاء تقضي بتكفير من يريد أن يرى وطناً يقوم على المساواة وعلى زواج في المجتمع يعبر الطوائف ولا يعترف بالأحقاد الدينية المتراكمة!

إذا قلنا إن من دمر شمال مالي وسكانها ومخطوطاتها وأرهب نساءها هم متطرفون جهلة لا يعرفون حقيقة الدين، فماذا نقول عن شيخ أزهري يحمل شهادة الدكتوراه من مؤسسة عريقة كالأزهر ويدرّس الطلاب فيها ويصدر رأياً تفاخرياً على شاشات الفضائيات يحرض فيه على قتل كل قادة المعارضة؟

ثم ماذا نقول عن الرد المائع للرئاسة المصرية التي يسيطر عليها الإخوان المسلمون (المعتدلون!) والذي لم يزد عن الرفض والإدانة اللفظية لتلك الفتوى؟ أخطر ما في الفتاوى السياسية الدينية يكمن في أمرين:

فتاوى تنطلق من الدين والدستور

مسجد يجب أن يظل دائماً خارج الصراعات السياسية كي لا يفقد قدسيته
المسجد يجب أن يظل دائماً خارج الصراعات السياسية كي لا يفقد قدسيته.

​​الأول أنها تنطلق من قاعدة دينية وتزعم أنها تعبر عن رأي الدين في ما يعني سحب أي سلاح من يد معارضيها لأنهم يعارضون رأي الدين، أو جرهم إلى المربع الديني لمحاولة تقويض الفتوى المعنية، أي تحديد ميدان النقاش سلفاً. ومعنى ذلك تديين السياسة والفضاء العام وهو التعبير الأوضح على بروز «الدولة الدينية» التي يحاول أن ينكر قيامها الإسلامويون، ويكررون التمسك بـ «الدولة المدنية».

الدولة المدنية ليست الوزارات ولا الهياكل المؤسساتية ووجود برلمان والإبقاء على المسميات المدنية الحديثة (رئيس عوض ولي أمر أو خليفة، مجلس شعب عوض شورى أهل الحل والعقد، ...إلخ). الدولة المدنية هي التي يبقى الفضاء العام فيها حراً من سيطرة إيديولوجيا الدولة أو الحزب المسيطر على الدولة. أما أن يتم إخضاع ذلك الفضاء بالكلية إلى إيديولوجيا دينية تتزعم حراسة المجتمع والقيم والسلوكيات ثم تصدر أحكامها ضد من ترى أنهم «مارقون» فإن ذلك هو التجسيد الأبشع لأشكال الدول الدينية القروسطية.

الأمر الثاني الخطير في انتشار الفتاوى السياسية الدينية هو أنها تستند بشكل مباشر أم غير مباشر إلى الدستور الذي صاغته المجموعة نفسها، وبهذا تمتلك هذه الفتاوى ومن منظور منطقي بحت قوة قانونية لا يُستهان بها. سوف يعمد محمود شعبان وسواه من شيوخ الفتاوى الاغتيالية إلى نصوص الدستور التي تحاصر عملياً كل المعارضين فكرياً لأي حزب إسلامي يصل إلى الحكم. المادة الثانية في الدستور المصري الجديد تنص بشكل لا نقاش فيه على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع».

ولإغلاق المجال أمام أي تفسير مختلف لهذه المادة قامت التيارات الإسلامية في لجنة صياغة الدستور بالإجهاز على أي فضاء للمرونة من خلال إلحاق المادة 219 التي تفسر وتقيد المادة الثانية والتي تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة».

وهنا لن يجد الشيخ محمود شعبان صعوبة كبيرة في ربط «آرائه وفتاواه» في شأن الحكم على قادة المعارضة بالدستور نفسه، وعندها يظهر شعبان بأنه هو الدستوري الحقيقي فيما الآخرون ضد الدستور. هذه هي النتيجة الطبيعية والمدمرة لخلط الدين في السياسة، وخلط ما هو مدني وقانوني ودستوري خاص بتنظيم الشؤون العامة للناس بما هو خاص بتنظيم شؤونهم الفردية والروحية.

 

 

خالد الحروب كاتب وأكاديمي فلسطيني

تحرير: لؤي المدهون
حقوق النشر: موقع قنطرة 2013