نساء ضحية ما يسمى "جهاد النكاح" ونسوة عائدات "من السبي" إلى تونس

التكفير عن الآلام هو أحد سبل الالتئام. في فيلمه يعارك المخرج التونسي نوري بوزيد – الحاصل على عدة جوائز سينمائية – صدمات وجراح النساء اللواتي تم سبيهن من قِبَل متطرفين إسلامويين، تلك النسوة اللائي وقَعَن ضحية ما يسميه البعض "جهاد النكاح" في سوريا. كما يتقصى بوزيد "النفاق الأخلاقي" في المجتمع التونسي الذي مازال يواجه صعوبة في التعامل مع النسوة العائدات "من السَّبي". أَدِيلا لُوڤرِيتش شاهدت الفيلم لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: Adela Lovric

في حين نجدنا نتجه صوب وعي متصاعِد على المستوى العالمي بخصوص التفاوتات الجنسانية والقضايا الأخرى التي تخص المرأة، ما يزال السؤال الملحّ في الوسط السينمائي هو التالي: من هو الطرف الأجدَى بمعالجة قضايا المرأة وبسَرد حكاياتها؟ وفقًا لمدير "مهرجان البندقية السينمائي الدولي" أَلبِيرتو باربِيرا، ما تزال الإجابة الحاضِرة بأن أغلب هؤلاء هم من الرجال. 

في دفاعه عن السينمائيين المشارِكين في المهرجان بنسخته هذا العام 2019 الذين تُشَكِّل نسبة الذكور فيهم الحضور الأعلى، أضاف باربِيرا بأن "الأعمال التي تُصَوِّر قضايا المرأة، حتى حينما تكون من إخراج الرجال من السينمائيين، من شأنها أن تُظهِر إحساسيةً جديدة تجاه العالَم الأُنثوي، وبصورة نادرًا ما كُنا نراها في الماضي.

" يُمَثِّل هذا وَضعًا مُلتَبِسًا للحالة السينمائية، إلا أن الحالة التأمليَّة هذه تبدو أنها على درجة من الصَّواب في فيلم "عرايس الخوف" لنوري بوزيد، والذي افتُتِح العرض الأول له في قسم "سكُونفِينِي" للمهرجان

ʺإعلان لفيلم "عرايس الخوف" للمخرج التونسي نوري بوزيد. (source: official Facebook page)
فيلم "عرايس الخوف" عمل نسوي في جوهره. إذ يُوَظِّف بوزيد طاقمًا تمثيليًّا أغلبه من الإناث، ويرسم لنا صورة مَصُوغة بحرصٍ شديد للنساء المنكوبات، وكذلك للواتي تَوَلَّين مَناصِب عالية في مجتمعاتهن. كما يُلقِي بالضوء القوي الكاشِف على السِّمات السامَّة للمجتمع التقليدي الأَبَوي الذي يُلبِس النفاق رداء التقوى، إلا أن محاولات بوزيد في التكفير عن آلام قرون من الاجحاف بحق المرأة ضِمن فيلم روائي وحيد قد تبدو مُوَتَّرَة نوعًا ما.

في فيلم "عرايس الخوف"، يحدِّثنا بوزيد على لسان النساء اللواتي تم إخراس وتجاهُل شهاداتهن من قِبَل الكثير بشأن الاستغلال الجنسي الذي عانين منه على يد مُقاتِلي ما يسمى بـ "الدولة الإسلامية" [المزعومة] حوالي عام 2013، وذلك على أساس أنها دعاية سياسيَّة لا أكثر.

كما أن الظاهرة التي لُقِّبَت بـ "جهاد النكاح" خَلَّفَت وراءها الكثير من الضحايا، بما فيهن نساء قُتِلن خلال فترة سَبيِنهن، وأخريات ممن قُمن بالانتحار فور عودتهن للعيش مع عائلاتهن.

نبذ المجتمع  

يحكي لنا الفيلم قصة زينة (نور الهاجري) ودجُو (جمانة الإمام)، فتاتان عشرينيّتان يتم إطلاق سراحن من قِبَل الشرطة التونسية عام 2014، وذلك بعد هروبهن من العبودية الجنسية التي عِشنَها على أيدي مجموعة جهادية قتالية في سوريا.

تُفصَل زينة عن وليدها بالقوَّة، وتَدخُل إثر ذلك في حالة حِداد. وتُضحِي دجُو، الفتاة الحُبلى بطفلٍ غير مرغوب به، اِمرأة بَكماء لا يسعها أن تُعَبِّر عن مأساتها سوى عن طريق الكتابة، في محاولةٍ منها لإعادة تركيب الأحداث التي عاشتها.

تقوم نادية (عفاف بن محمود)، وهي محامية وناشطة اجتماعية، وكذلك دُرَّة (فاطمة بن سعيدان)، وهي طبيبة تعمل في المُساعَدات الإنسانية، بالعناية بالفتاتين، كما تتكفَّلان بقضاياهن القانونية، إلا أن زينة ترزخ تحت تهديد دائم بإرسالها إلى مخيم إسلامَويِّ السُّكانِ في حال فَشِلَت في إثبات عدم رغبتها في الانضمام للقِتاليين.

 

 

تقوم نادية بمساعدة إدريس، وهو شاب مِثلِيّ في الحادية والعشرين من عمره، يعاني بدوره من الاضطهاد وكذلك من الاقصاء عن كافة المؤسسات التعليمية. تتطور الصداقة بين إدريس وزينة – بحُكم كونهما منبوذَين من مجتمعهما – ويتمكَّنان عبر ذلك من مشاركة أحزانهما ومساعدة بعضهما البعض. 

في حين ما انفَكَّت دجُو تصارع ضغوظ جَمَّه وتعاني من وَبال استحضار الماضي، فينتهي بها الأمر إلى الانهيار ثم الانتحار. 

أثناء محاولتها أن تتعافَى من ثقل مأساتها، تتعرض زينة إلى تعنيفٍ متواصِل على يَد أكثر من رجل في بلدتها، بما فيهم والدها الذي يحاول اِضرام النار فيها وهي حيَّة، مُفَضِّلًا أن يشهد مماتَها بدلًا من أن يتصدى للعار الذي لازَمها.

مع توالي أحداث الفيلم، نكتشف أن زينة كانت مَحَطّ غضب والدها منذ سنواتِ تمرُّدها في المرحلة الثانوية، "تختالُ بجِسمها"، كما تتذكر والدتها، مستعرِضة غريزتها الجنسية بكل حرية، رغم معارضة والدها. 

 

 

في المشهد الأخير، تنجح والدة زينة في مساعدة ابنتها على الهرب من الوالد المُتَخَبِّط في طبعه، في حين أن الوالدة لن تتمكن من مساعدة نفسها. تأخُذنا أحداث الفيلم إلى خاتِمة بائِسة وآمِلة بعض الشيء. قد يكون جيل النسوة أمثال زينة قد تَمَكَّن من التحرُّر من المجتمع الأبوي، إلا أن الأمر باتَ متأخرًا جدًا لمن هُنّ في جيل والدتها.

فيلم "عرايس الخوف" عمل نسوي في جوهره. يعمل بوزيد وَفق مِنهاج واضح، يعكس من خلاله كلمات مدير المهرجان بخصوص الأعمال السينمائية من إخراج الرجال التي تتناول قضايا المرأة باحترامٍ مهني وسَردي.

يُوَظِّف بوزيد طاقمًا تمثيليًّا أغلبه من الإناث، ويرسم لنا صورة مَصُوغة بحرصٍ شديد للنساء المنكوبات، وكذلك للواتي تَوَلَّين مَناصِب عالية في مجتمعاتهن. كما يُلقِي بالضوء القوي الكاشِف على السِّمات السامَّة للمجتمع التقليدي الأَبَوي الذي يُلبِس النفاق رداء التقوى.

 

 

تجربة المرأة من منظور الرجل

للأسف، تتطلب تجربة بوزيد – التي تتناول أكثر من مَنحى في حياة التونسيات عبر مشاهد نَمَطِيَّة عن معاناة المرأة في هيئة كابوسٍ عليل – الكثير من تركيز المُشاهِد. رغم نواياه الجيدة، يبدو بوزيد وكأنه يحاول أن يُكَفِّر عن آلام قرون من الإجحاف بحق المرأة، والتي طَرَح أحداثها مَرصُوصَةً تلو الأخرى ضِمن فيلم روائي ليس طويلًا بما فيه الكفاية.  

عوضًا عن النَّمَط الصريح والمُجاهِر في الطرح، كان من الممكن أن يأتي الفيلم بنتيجة أكثر إمتاعًا عبر البحث في الصراعات الداخلية لِكلْتَا الشخصيتين الرئيسيتين، وذلك بأسلوب أشد عمقًا وأكثر كِياسة.

بالتأكيد، نجح بوزيد عبر استعماله الكثير من الصور المُقَرَّبَة والقويَّة في إدخالنا إلى الحَيِّز الخاص لبَطَلات الرواية، مُضَخِّمًا بذلك مَرأَى كل دمعة وكَدَمَة وتشنُّج عضلي، إلا أن هذا لا يضمن اندماج المُشاهِد لدرجة تُمَكِّنه من مشاطرة شخصيات الرواية أزماتها العاطفية. بينما تتمكن صَنعة حاتم نِيشِي التصويرية من التقاط هذه الحميميَّة بعين ثاقبة، لا تتوانَى صَنعة بوزيد عن اعتراضها في أغلب الأوقات.  

 

 

قد لا تُقَدِّم لنا معالجةُ بوزيد في "عرايس الخوف" تجربة سينمائية متماسِكة في بنيتها وخياليَّة في تأثيرها، إلا أن كل دقيقة عرض على الشاشة لهذا الفيلم هي جديرة بالمشاهدة. فالحديث العام -الذي يحيط بالقصة الحقيقية لضحايا [ما يطلق عليه البعض] "جهاد النكاح"- وكذلك المعاملة المُلتَبِسَة والجائِرة للمرأة في تونس: يجب أن لا يكونا رهينة طَفرات إعلامية قصيرة الأمد. 

رغم أن تونس تُعتبَر أكثر دولة تقدُّميَّة في العالم العربي فيما يخص حقوق المرأة، إلا أنه مازالت هناك نسبة كبيرة من اللامساواة بين الجنسين. يستوفي فيلم "عرايس الخوف" الجزء المفقود من حكاية تاريخ تونس الحديث ثم ينقله بصدق إلى الشاشة.

كما أن هذه ليست المرة الأولى التي يَنظُر فيها بوزيد بعين ناقِدة إلى المجتمع التونسي. في فيلمه الأول، "رجل الرماد" (1986)، يُسَلِّط المُخرِج الضوء على المِثلِيَّة الجنسية. في حين تُرَكِّز أفلام له مثل "مِيلفُوي" (2012)، على نضالات المرأة من أجل الحصول على الحريات المُتاحة للرجل.

 

 

إذا كانت فكرة إفساح المجال للنساء لسرد قصصهن ما زالت صعبة التقبُّل بالنسبة لمهرجان البندقية السينمائي المعروف بمقاوَمته للتغيير، أو كذلك بالنسبة للتونسيين الذين قد يساندون حصريًّا قضايا المرأة التي تحظى بتأييد الرجال، هنالك على الأقل نفر من المخرجين السينمائيين أمثال بوزيد ممن يملؤون هذا الفراغ، وذلك عبر أعمالهم التصورية المَحبُوكة بعناية بالغة مِن شأنها أن تَصدَح بتلك الأصوات التي تَصرُخ كي يسمعها السامعون.

 

أَدِيلا لُوڤرِيتش

ترجمة: ريم الكيلاني

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de