حوار مع الأنثروبولوجي الألماني ديتر هالر - طنجة الكوسموبوليتية
طموح شباب المغرب للهجرة نتاج بحث عن الحريات

ديتر هالر أنثروبولوجي ألماني أصدرَ كتاباً عن مدينة طنجة المغربية مُعنون بـ "طنجة: الميناء، الأرواح، اللذة، دراسة إثنوغرافية". الصحفية كريمة أحداد حاورت الباحث الألماني لموقع قنطرة عن التحوّلات التي عرفتها هذه المدينة بعد سنتين من إصدار كتابه، الصّراع بين السكان الأصليين والوافدين الجدد، طنجة الدولية وطنجة اليوم، الإسلام السياسي في المغرب، وطموح الشباب المغربي للهجرة نحو بلدان أخرى.

بعد سنتين من إصدار كتابك "طنجة: الميناء، الأرواح، اللذة، دراسة إثنوغرافية"، ما هي التحولات التي طرأت على مدينة طنجة؟

ديتر هالر: هناك شيئان أساسيان، الأول هو التمظهر الثقافي، والثاني هو التمظهر السياسي. أرى أنّ المُحافظَة في هذه المدينة أصبحت أكثر بروزاً. عندما كُنت هنا قبل سنتين، لم تكن هناك نساءٌ كثيرات يرتدين البرقع الأسود. اليوم أصبحنا نراهنّ في كلّ مكان. من قبل، كانت هناك رغبةٌ عميقة لدى النّاس في أن يصبحوا محافظين، اليوم تحقّقت تلك الرّغبة.

التحوّل الثاني يتجلّى في تغيّر البناء والمعمار، بنية الميناء، تغيّر الشواطئ… اليوم هناك طنجة مارينا، لا بلايا وغيرها…

يمكننا أن نقول أيضاً إن المدينة أصبحت تتجه نحو التقسيم. فمثلاً، لاحظتُ أنّ النوادي الليلية التي كانت ظاهرةً للعيان في ما سبق، أصبحت الآن موجودةً في أماكن خبيئة عن أنظار المارّة.

هناك اليوم استثماراتٌ من أجل جعل المدينة أكثر جمالاً. كما أن المواطنين أصبحوا حريصين على نظافة أحيائهم وصبغها وتزيينها بالنباتات وغيرها…

هذا يذكرني بإيطاليا في ستينيات القرن الماضي حين أصبح المجتمع أكثر استهلاكاً، لكن أكثر محافظةً أيضاً.
 
لماذا اخترت طنجة بالضبط كموضوعٍ لدراستك؟ لماذا لم تختر مدينةً أخرى في المغرب أو مدينةً في بلدٍ مغاربي آخر؟
 
ديتر هالر: أولاً، هناك سببٌ مهني، لأنّني قمتُ بدراسة في إسبانيا في بداية الثمانينيات، بعد ذلك قمتُ ببحث في جبل طارق، وفي هذا المكان بالضبط كان الجميعُ يتحدّث عن الحدود وعن طنجة والمغرب. 
 
قُلتُ إذن إنه من المهمّ اكتشافُ هذه المدينة، ومعرفةُ نوع العلاقات بين الجهتين على المستوى المحلّي، لأنّ هناك العديد من الروابط التي تجمعهما.

من جهة أخرى، عرفتُ طنجة في جانبها الأسطوري عن طريق كتابات الأوروبيين، وهذا شجعني أيضاً على دراستها.

جبلُ الطارق مدينةٌ تشهد تعايشاً كبيراً بين مختلف الديانات، وكان الجميعُ هناك يخبرني أن طنجة كذلك كانت تعرف تعايشاً بين المسلمين واليهود والمسيحيين. وكان هذا مهمّا جداً بالنسبة لي، لأنني لم أؤمن يوماً بفكرة الهوية الموحّدة والتقسيم بين الديانات. بالنسبة للأنثروبولوجيين، لا يهم الخطاب الأيديولوجي، بل ما يفعله ويعيشه الناس.
 
قُلتَ في إحدى المُقابلات إنك وقعتَ في "خطيئة"، وهي مرتبطة بمفهوم النوستالجيا، أي ذلك الحنين الذي يستبدّ بالأوروبيين إلى طنجة وعوالمها. هل يمكن أن تفسّر لنا هذه الفكرة أكثر؟
 
ديتر هالر: طيلة بحثي ودراستي، لم يكن ممكنا بالنسبة لي التخلّصُ من التاريخ ونظرة الأوروبيين إلى هذه المدينة. في جبل طارق أخبروني أنّ طنجة كانت مدينة تعايشٍ من قبل. يشدّني الحنين كثيراً إلى المدن التي عاشت نوعا من التعايش بين الثقافات والديانات.
 
طنجة - المغرب. Photo: Karima Ahdad
"الهجرة والهروب من المغرب، هو أمرٌ ليس مرتبطاً فقط بالجانب الاقتصادي، بل أيضاً بقضايا الحرّيات وإثبات الذات": يرى الباحث ديتر هالر أن المشاريع في طنجة المغربية خلقت فرص شغلٍ كثيرة، وجذبت الكثير من الناس من الخارج للمساهمة فيها، خاصّة مشاريع "طنجة تِك" وغيرها… لكنّ هذا ليس كافياً، لأن أغلبية الفقراء لم يستفيدوا من هذه المشاريع، بالرغم من أنّهم كانوا يعلّقون آمالهم عليها. اليوم، يتحّدث هؤلاء الناس، وخاصّة الشباب منهم، عن الهجرة والهروب من بلدهم، وهو أمرٌ ليس مرتبطاً فقط بالجانب الاقتصادي، بل أيضاً بقضايا الحرّيات وإثبات الذات. الشباب أصبحوا يعانون جدّا من عدم قدرتهم على التعبير على أنفسهم وعجزهم عن الخلق والإبداع.
 
في كتابك، أعطيتَ صوتاً للناس الذين بدون صوت وبدون تاريخ، للناس البسطاء في طنجة. لماذا هذا الاختيار؟
 
ديتر هالر: عندما بدأت بحوثي حول مدينة طنجة، وجدتُ نصوص الأمريكيين والأوروبيين حول المدينة، أو نصوصاً تحليلية لمثقفين مغاربة حولها، أو نصوصاً رسمية حول المشاريع التي تشهدها المدينة، صحيحٌ أنّ هذه النصوص مهمّة بالنسبة لي كأنثروبولوجي، ولكن لا ينبغي الانسياق والتأثر بالخطابات الرسمية وخطابات المثقفين، بل يجب معرفةُ ما يقوله الناس في الشارع، كيف يرى هؤلاء الناس البسطاء العالم والأشياء من حولهم.
 
صحيح أن المشاريع التي شهدتها المدينة ساعدت الكثيرين على إيجاد فرص شغل، ولكن ماذا يفعل البحّار الصغير وكل أولئك الذين يبيعون السلع المهرّبة في الشارع؟ كيف يعيشون؟ لقائي وحديثي مع الناس في الشارع نابعٌ من واجبي كأنثروبولوجي في النزول إلى الميدان، فأنا مهتمّ بالتطبيق وليس بالكلام.
 
كتبتُ في مقدمة الكتاب أنني فعلتُ كل ما في وسعي كي لا ألتقي المثقفين، وهذه كانت طريقاً طويلة وشاقة بالنسبة لي طيلة مدّة البحث والدراسة، لأن الأكاديميين والمثقفين لديهم أجوبة على كلّ شيء، أما أنا فلا أملك غير الأسئلة.
اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة