''لقد حُسم صراع الأفكار في إيران''

منذ عام 2009 والنظام الإيراني يعمل على إجراء تحول في نظام الحكم، من حكم سلطوي إلى حكم "نيو" شمولي. غير أن النظام – في رأي الباحث السياسي نادر هاشمي – فقد الدعم الإيديولوجي الذي كان يجده من شعبه. لويس غروب في حوار مع الباحث هاشمي.



الأستاذ هاشمي، لقد قمت في الآونة الأخيرة بدارسة الوضع في سوريا دراسة متعمقة. كيف تقيّم الوضع الحالي هناك؟

نادر هاشمي: لقد كشف النظام السوري عن الحضيض الأخلاقي الذي يمكن أن يصل إليه كل نظام سلطوي لمجرد أن يتشبث بدفة الحكم في بلاده. لقد أضحت مدينة درعا "غرنيكا" عصرنا الحالي. إن التقارير التي تصلنا من هناك تؤكد أن المدينة أضحت مقطوعة الصلة عن العالم الخارجي. الدبابات تحتل شوارع درعا، والمناطق السكنية تتعرض للقصف، والجثث المتحللة تغطي الشوارع لأن الناس يخشون قناصة النظام وبالتالي لا يستطيعون دفنها. منذ المذبحة التي جرت في ميدان "السلام السماوي" في بكين لم ير العالم عنفاً قامت به الدولة ضد متظاهرين عُزّل ديمقراطيي التوجه كالذي حدث في سوريا.

ما هو تأثير الأحداث في سوريا على الحركة الديمقراطية في إيران؟

نادر هاشمي، الخبير بشؤون الشرق الأوسط، الصورة خاص
"لقد كشف النظام السوري عن الحضيض الأخلاقي الذي يمكن أن يصل إليه كل نظام سلطوي"

​​هاشمي: إن النشطاء ذوي التوجه الديمقراطي في إيران سيفكرون جدياً قبل أن يدعوا إلى الخروج في مظاهرات. فكما هو الوضع في سوريا فإن الحكام في إيران لديهم قوات أمن موالية لهم، وهذه القوات على استعداد لأن تطلق الرصاص على جموع المتظاهرين سلمياً إذا جاءتهم أوامر بذلك.

هل أدت حركة الاحتجاج الهائلة في العالم العربي إلى تعزيز الحركة الديمقراطية وتقوية شوكتها في رأيك؟

هاشمي: نعم، لقد فعلت ذلك، وخصوصاً الانتفاضة الشعبية في تونس ومصر.

وإلى أي مدى أثرت الانتفاضات العربية على الخطاب السياسي في إيران؟

هاشمي: في إيران يتصارع النظام مع الحركة الخضراء حول تفسير هذه الأحداث التاريخية. الطغمة الدينية الحاكمة تحاول أن ترى في الاحتجاجات تأكيداً للإيديولوجية الإسلاموية ولروح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. أما الحركة الخصراء فترى أن العكس تماماً هو الصحيح: إن الثورات العربية تشبه الاحتجاجات الإيرانية التي تفجرت عام 2009 والتي تمخضت عنها الحركة الخضراء. لقد فضح المنشقون كذب النظام ورياءه في الرابع عشر من فبراير / شباط. لقد أيّد النظام الإيراني علنياً الاحتجاجات العربية، ولهذا تقدمت الحركة الخضراء بطلب لتنظيم تظاهرة تضامن مع الانتفاضة في تونس ومصر. غير أن التظاهرة مُنعت بالطبع، ولكن هذا لم يحل دون أن يسير أتباع الحركة الخضراء في الشوارع، فكان رد فعل النظام هستيرياً مَرَضياً، وخاصةً لأنهم، رسمياً، كانوا قد اعتبروا حركة الاحتجاجات في إيران قد "ماتت".

ولكن هناك اختلافات بين الحركات الاحتجاجية في إيران وتلك في العالم العربي ...

هاشمي: الحركة الخضراء في إيران تريد إصلاحات، لا ثورة. إن قادة هذه الحركة ما زالوا يراهنون على التطور الديمقراطي في إطار الدستور، وهم يستندون في ذلك على فقرات يتحدث فيها الدستور عن حقوق المواطنين. غير أن هذه الاستراتيجية ليست محل إجماع. ففي الدستور مكتوب أيضاً أن حكم الطغمة الدينية يعلو على حكم الشعب.

معنى كلامك أن الدين، وبالنظر إلى التطور الديمقراطي في إيران، جزء من المشكلة...

مصباح يزدي
"إذا جاءك مَن يقول إن لديه تأويلاً آخر لعقيدتنا فإضربه بقضبة يدك في وجهه!"

​​هاشمي: إنه بالتأكيد جزء من المشكلة، ولكنه أيضاً جزء من الحل. إن السؤال المطروح هو: عن أي شكل من أشكال الدين نتحدث؟ وعن أي تأويل له؟ هل هو دين الطغمة الحاكمة، أم دين الحركة الخضراء؟ هذه النقطة تمس نقطة شائكة وحساسة في الدين عموماً، لأن تجليات الدين من الممكن أن تكون متنوعة ومختلفة – أي من الممكن أن تكون داعمة للديمقراطية ومناهضة للديمقراطية أيضاً. هذا شيء معروف، ونجده في كتابات جون لوك، مثلاً، أو أليكسي دو توكفيل.

أي أننا إذا أردنا تغيير الطبيعة السياسية في إيران لا يمكن أن نتجاهل الدين؟

هاشمي: التفسير الرسمي للدين في إيران تفسير سلطوي، رغم أنه يظهر في مظهر شبه ديمقراطي. إن النظام يستمد شرعيته من تأويله للإسلام، وهو يشعر بالخوف الهستيري من انتشار تأويلات بديلة. آية الله مصباح يزيدي، الراعي الروحي لأحمدي نجاد مثلما يقولون، له عبارة ذائعة يقول فيها: "إذا جاءك مَن يقول إن لديه تأويلاً آخر لعقيدتنا فإضربه بقضبة يدك في وجهه!" أو فلنتذكر آية الله الأكبر حسين على منتظري الذي توفي في عام 2009 والذي كان يعتبر الضمير الأخلاقي للحركة الخضراء. لقد كان متنظري ربيب الخميني وخليفته المُرتَقَب، لكنهم أزاحوه عن السلطة ووضعوه قيد الإقامة الجبرية لأنه كان يدعو إلى تأويل ديمقراطي للإسلام. هؤلاء الأشخاص على وجه التحديد – الذين يمثلون سلطة دينية نقية لا غبار عليها – يمثلون الخطر الأعظم بالنسبة للجمهورية الإيرانية.

الحكومة الحالية تقود البلاد بأسلوب بطريركي لا يسمح للنساء بأن يكون لهن صوت. بالرغم من ذلك فإن النساء في إيران هن اللاتي ينشطن على المستوى الاجتماعي والفني، كالمحامية شيرين عبادي والمخرجة راكسهان بني اعتماد أو تاهيمه ميلاني، على سبيل المثال لا الحصر. بل إن عدد النساء المسجلات في الجامعات يفوق منذ خمسة أعوام عدد الرجال. كيف تفسر هذه الظاهرة؟

هاشمي: تعتبر هذه الظاهرة نتيجة غير مقصودة للثورة الإيرانية. فخلافاً لنظام الشاه استثمر النظام الإيراني منذ 1979 في التعليم. ونتيجةً لذلك انخفضت معدلات الأمية بين النساء، وارتفعت نسبة الإيرانيات المتخرجات في الجامعات. لقد أصبحت هذه السياسة التعليمية الآن ذات عواقب جسيمة بالنسبة للنظام: فالحركة الخضراء تحركها الطالبات الإيرانيات بنسبة كبيرة، وهؤلاء لسن على استعداد لأن يقبلن "تمييزاً جنسياً" من النظام.

ما يلفت نظري بشكل خاص في هذا التطور هو أن هذه الحركة تضم نساء كثيرات، سواء كن من أتباع المذهب النسوي أو من المسلمات المتدينات. إننا نجد على سبيل المثال زهرة راهنافارد - زوجة مير حسين موسوي، رأس الحركة الخضراء وعقلها المفكر – وهي أستاذة جامعية ونسويّة وفنانة، وهي في الوقت نفسه مسلمة ترتدي الحجاب ومثقفة ثقافة دينية. في إيران حالياً هناك الملايين من النساء المؤيدات للحركة النسوية مثل زهرة راهنافارد، ومع هؤلاء النسوة سوف تولد الديمقراطية في إيران.

منذ عام 2009 والحكّام الإيرانيون يزيدون من حدة القمع ضد شعبهم حتى أن النظام لم يعد يخشى اعتقال شخصيات مشهورة من المثقفين مثل المخرج جعفر بناهي رغم الاحتجاجات الدولية العنيفة.

هاشمي: اعتقال المخرج جعفر بناهي ومنعه من التصوير منذ عشرين عاماً هما أمران لهما دلالة مهمة من ناحيتين. الناحية الأولى هي ما تمثله محاكمة بناهي من إعلان حرب مفتوحة على كل المثقفين والفنانين في البلاد، والرسالة هي: إذا كان بمقدرونا أن نسجن مخرجاً له شهرة دولية مثل جعفر بناهي فإن هذا يسري على كافة المنشقين في البلاد – النظام في إيران لا يسمح بوجود معارضة. إنهم يريدون إدخال الخوف والرعب في نفوس الناس وأن يكمموا أفواههم. من ناحية أخرى فإن قضية بناهي تظهر أن إيران قد تحولت منذ عام 2009 من دولة سلطوية إلى دولة "نيو" شمولية، على غرار ليبيا وسوريا.

هل تريد الحكومة في بكين الوصول إلى أهداف مماثلة عندما تقوم أمام أعين المجتمع الدولي باعتقال فنان في وزن أي واي واي وحجبه عن الأنظار بمثل هذه البساطة؟

هاشمي: هناك بالفعل أوجه شبه. إن النظم السلطوية مثل إيران والصين تعاني من نقص في الشرعية، لأنها تحكم حكماً غير ديمقراطي ولأنها تعزز سلطتها عبر القمع. ليس بناهي فناناً سياسياً منشقاً، تماماً مثل واي واي، وبالرغم من ذلك فإن النظام ينظر إليهما بعين الشك والريبة لأنهما يدعوان الناس عبر فنهما إلى الإبداع والاستقلالية في التفكير. الحكام ينظرون إلى هؤلاء الفنانين كخطر على الدولة، واعتقالهما يبيّن مدى شعبيتهما لدى الناس ومدى تأثيرهما الكبير أيضاً، وإلا لماذا تعتقلهما السلطات الأمنية؟ لا ينبغي على المجتمع الدولي أن يغض الطرف أو أن يصمت حيال مثل هذه الاعتقالات.

لكن بلاداً مثل الصين وإيران ترد دائماً على مثل هذه المطالب من المجتمع الدولي بأنها تدخل في الشؤون الداخلية. وفي الكتاب الذي أصدرته عن الثورة الخضراء في إيران يذكر الكتّاب المشاركون مراراً حدثاً كهذا، ألا وهو إسقاط حكومة مصدق بتخطيط غربي في عام 1953 …

زهراء رانفالاد، الصورة ا ب
"الحركة الخضراء تحركها الطالبات الإيرانيات بنسبة كبيرة، وهؤلاء لسن على استعداد لأن يقبلن "تمييزاً جنسياً" من النظام"

​​هاشمي: لا يمكنني أن أصف وصفاً كافياً مدى التأثير الضار لهذا الإنقلاب على السياسة الإيرانية. إن ردود الأفعال السياسية داخل إيران تتسم بالحساسية الشديدة تجاه أي تلميح بأن أحداً قد يتدخل بصورة أو بأخرى في شؤون البلاد الداخلية. آنذاك انتخب الإيرانيون مصدق على نحو ديمقراطي، ولكن لأنه أراد أن يوقف بيع المصالح الإيرانية وأن يؤمم قطاع البترول، فقد أسقطه البريطانيون والأمريكيون. بعد ذلك أتوا بالشاه، الحاكم الديكتاتوري وضعوا دفة الحكم بين يديه. قام الشاه بقمع الإيرانيين قمعاً وحشياً، واستطاع أن يأد في المهد كل تطور اجتماعي. هذا ما أعد الأرض الخصبة لإيديولوجية التعصب التي تبناها إسلاميو الثورة.

لم تستطع إيران حتى اليوم أن تتجاوز هذه الصدمة، والحكومة الحالية تستغل هذا الفصل في تاريخ البلاد لكي تجني أقصى قدر ممكن من الثمار. ولهذا يتهمون كل منتقد للنظام بأنه عميل للقوى الأجنبية، وهو ما يحدث في الوقت الحالي مع الحركة الخضراء. نظريات المؤامرة هذه أفسدت الثقافة السياسية في البلاد. يبدو الأمر من المنظور الغربي غريباً وعبثياً، ولكنه يبدو من وجهة النظر الإيرانية مقنعاً كل الإقناع.

إيران دولة تعاني في الوقت الحالي من احتقار المجتمع الدولي. لماذا أنت متفائل بالرغم من ذلك عندما تنظر إلى مستقبل البلاد؟

هاشمي: هناك عدة أسباب لتفاؤلي. فمن ناحي فإن الظروف الاجتماعية اللازمة لحدوث تطور ديمقراطي مناسبة على نحو مدهش: هناك طبقة وسطى كبيرة، ومستوى تعليمي مرتفع، وثقافة متقدمة سياسياً بالرغم من كل شيء. كما أن هناك، وبالرغم من كل القمع، مجتمعاً مدنياً حيوياً يستطيع أن يطبق الإصلاحات السياسية. بالإضافة إلى كل ذلك فإن حركات التمرد العربي الديمقراطي التي شهدها العالم العربي في الآونة الأخيرة قد خلقت سياقاً سيكون له تأثير إيجابي على التطور الديمقراطي في إيران أيضاً.

إن النظام الإيراني خائف من شعبه، وخاصة من النشطاء السياسيين الشبان المتعلمين: طلبة ومثقفون ونسويّات وعمال وفنانون. في مقدمة كتابي The People Reloaded قلتُ: "لقد حُسم صراع الأفكار في إيران." لقد ربحت الأفكار الليبرالية والديمقراطية المعركة بالفعل. هذه الأفكار ترسخت في المجتمع المدني، وهذا شيء يدركه النظام أيضاً. إن النموذج الذي يصبو إليه الناس في إيران ليس نموذج كوريا الشمالية أو بورما أو السودان. الإيرانيون يتطلعون صوب المجتمعات الديمقراطية الحرة في الغرب. غير أن التحول – وهذه هي قناعتي – لن يأتي من الخارج، بل من إيران نفسها.

 

أجرى الحوار: لويس غروب
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق الطبع: قنطرة 2011

نادر هاشمي باحث متخصص في العلاقة بين الإسلام والسياسة، وهو يعمل أستاذاً في معهد "جوزف كوربل للسياسة الدولية" في دينفر، كما يُستشار بانتظام في وسائل الإعلام الانكليزية اللغة باعتباره خبيراً في شؤون الشرق الأوسط. هاشمي يكتب لوسائل إعلام عديدة، مثل "وول ستريت جورنال" ومجلة "تايم" وصحيفة "الإندبندت"، كما يظهر على شاشات البي بي سي وسي إن إن. وقد ألّف كتاباً بعنوان "الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية" (صدر عن مطبعة جامعة أوكسفورد)، كما أصدر كتاباً نُشر حديثاً بعنوان The People Reloaded عن الحركة الخضراء في إيران (عن دار نشر "ميلفيل هاوس".