"لسنا بحاجة إلى خارطة طريق، بل الوصول إلى نهاية الطريق"

سُلطت الأضواء على السياسة الخارجية التركية في الأشهر القليلة المنصرمة، حيث عبَّر كثير من المعلقين الغربيين عن قلقهم حيال هذه السياسة، لكنهم لمسوا أيضًا تغيُّرًا في سياسة تركيا إزاء الشرق الأوسط. في حوار خص به موقع قنطرة يتحدث وزير الخارجية التركي أحمد داود أغلو في هذا الحوار الصحفي مع عائشة كارابات عن دور بلاده الإقليمي الجديد.

وزير الخارجية التركي أحمد داود أغلو، الصورة: ا.ب
يؤكد وزير الخارجية التركي أن بلاده "تخلق توازنًا في سياسات الشرق الأوسط "

​​ لم تكُن تركيا في الماضي تلقي بالا للصراعات العربية الداخلية، بيد أن الحال اختلفت كليًا اليوم. ما الذي تغيّر؟ وما الغاية من تغيير نهج تركيا السياسي بهذا الخصوص؟

أحمد داود أغلو: فعلاً كانت تركيا في الماضي تفضل أن تبقى على مسافة من الصراعات العربية الداخلية. هذه السياسة التي كان لها ربما تبريراتها السليمة في السابق، انتفت أسبابها تمامًا اليوم. ونحن نبذل جهودنا لحل الصراعات العربية الداخلية، لأننا نعي تمامًا أن التوترات التي تحصل أحيانًا بين دولتين من شأنها أن تخلق حالةً من عدم التوازن في مجمل المنطقة من جهة، كما يمكن لها أن تؤدي إلى مشاكل إقليمية إضافية من جهةٍ ثانية. ولا تُعتبر وساطتنا تدخلاً خارجيًا، بل يُنظر لها على أنها عامل استقرارٍ داخلي. كما تطمح الدول العربية أحيانًا لإضفاء الشرعية على بعض سياساتها من خلال سعيها للحصول على تأييد تركيا لها، وبهذا أصبحت تركيا بلدًا يخلق توازنًا في سياسات الشرق الأوسط من خلال السياسة التي يتبعها.

ويعود نجاحنا في تحقيق ذلك لسببين رئيسيين أولهما اقتصادنا القوي وثانيهما صيرورة الدمقرطة التي تجري عندنا. وكان يُنظر في الماضي لمن يتكلم باللغة الروسية على أنه شيوعيٌ وبالتالي يُعتبر خطرًا، ناهيك عن أن عدد الشخصيات العامة التي تتكلم الأرمينية أو العربية كانت قليلة. أما اليوم فقد تمكنّا من تغيير هذه الصورة. وكلما تطورت الحالة الديمقراطية عندنا، زادت ثقتنا بأنفسنا.

سأعطيك مثالاً آخر: لقد طالبنا الاتحاد الأوروبي بأن يلغي كل إجراءات تأشيرات الفيزا وليس تخفيفها وحسب، لكن الأمر طال كثيرًا. هل تعلمين متى قرر الأوروبيون فرض تأشيرات الفيزا؟ كان ذلك في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر من عام 1980، أي بعد أسابيع قليلةٍ على الانقلاب العسكري الذي حدث في الثاني عشر من أيلول/سبتمبر من العام ذاته. جاء نظام تأشيرات الفيزا حيالنا كنتيجةٍ للقوانين المنافية للديمقراطية في تركيا، ولكن الوقت قد حان للمطالبة بتغيير ذلك النظام والتراجع عن القرار.

رفعتم شعاري "لا مشاكل مع دول الجوار"، و "رفع درجة التعاون إلى الحد الأقصى" هدفين رئيسين لسياستكم الخارجية، لكن هل هذان الشعاران واقعيان، وبخاصةً في منطقةٍ كالشرق الأوسط؟

الصورة: ا.ب
السياسة الخارجية تحكمها عدة منطلقات منها: الاعتماد الاقتصادي المتبادل، والتفاهمات الأمنية المشتركة، والحوار الاستراتيجي على مستوى عالٍ، وفق الوزير التركي

​​ أغلو: أنت محقة، هذه هي أهدافنا الرئيسة. ولكن قبل كلِّ شيء لا بدَّ من وجود توافقٍ على تشكيل إرادة سياسية بالطبع. ونحن لا نقصد أنه لن يكون لدينا مشكلات بعد ذاك، ولكننا نسعى في المقام الأول لبناء علاقات مع الدول الأخرى بحيث تنشأ أجواءٌ مُرْضيةٌ تساعد على إيجاد حلولٍ للمشكلات بدلاً من أن تتحول إلى صراعات. كما أن التكامل هو أهم قضية بالنسبة لنا على الإطلاق في هذا السياق. وإذا ركز المرء دائمًا على المخاطر وتوهم وجود تهديدات سوف يرى الخطر محدقًا باستمرار وفي كل مكان. نحن نسعى لمحو هذه الأخطار الوهمية ولإعادة التكامل بين دول المنطقة.

هنالك بالطبع مخاطر، ولكن نظرتنا للأمور لا يجب أن تنطلق من الأزمات، بل ينبغي أن تتأسس على رؤيا تقوم على أربعة مبادئ ألا وهي الاعتماد الاقتصادي المتبادل، والتفاهمات الأمنية المشتركة، والحوار الاستراتيجي على مستوى عالٍ، والتعايش بين الثقافات وبين الأديان. وإذا قمنا بالتعاون والتنسيق في منطقتنا سوف نكون أمام حالةٍ مختلفةٍ تمامًا. قد يبدو لك ذلك خيالاً وهميًا ولكن تصوري أن يعم الاستقرار وينعدم التوتر في منطقتنا في السنوات العشرين القادمة. عندها سنكون أغنى من أية بلدٍ صاعدٍ آخر.

هناك بعض الشكوك حول غايات سياساتكم، حيث يدّعي البعض بأن تركيا تحاول أن تشتري تذكرة الدخول إلى الاتحاد الأوروبي عبر علاقاتها الوطيدة بالشرق الأوسط، بينما يرى آخرون أن غاية سياساتكم إعادةُ الهيمنة العثمانية على المنطقة.

أغلو: لم نصبو من خلال مساعينا للحصول على نفوذٍ ولا لتحقيق مصالح ذاتية، بل إن هدفنا يكمن في توطيد ممارسةٍ سياسيةٍ تتحمل دول المنطقة المسؤولية الذاتية عنها، وكذلك في توحيد مسارات مجمل المنطقة. الدول لا تستطيع أن تغير تاريخها ولا حدودها الجغرافية، لكن بوسعها أن تعيد قراءتها واكتشفاها من جديد، وقد حان الوقت لتقوم دول الشرق الأوسط بذلك. هناك قوى صاعدة في العالم، وإذا لم تتعاون دول المنطقة فيما بينها بطريقة تؤدي إلى الازدهار، سوف تتحول المنطقة حتمًا إلى ساحة صراع بين تلك القوى الصاعدة. المنطقة منطقتنا. وهذه أوطاننا.

الصورة  أ.ب
"الدول لا تستطيع أن تغير تاريخها ولا حدودها الجغرافية، لكن بوسعها أن تعيد قراءتها واكتشفاها من جديد"

​​وعلينا أن نقرر في طريقة تنظيم العمل المشترك فيما بيننا دون أن يفرض أي طرفٍ رأيه على الآخرين. كما لا ينبغي لنا أن نلقي المسؤولية على غيرنا، كالاستعمار والامبريالية. ولا بدَّ من أن نصنع قدرنا بأيدينا، وهذا أمر يتطلب التعاون والتكامل الإقليميين. أما الأسس لذلك فقائمةٌ في تاريخنا وجغرافيتنا. هل ينبغي لنا أن نتقاتل ونتنافس في منطقتنا مع بعضنا البعض، دافعين هذه القوى لتصبح أغنى وأغنى عبر سيطرتها على مواردنا وقوانا العاملة، أم نجمع قوانا من أجل استعادة العصر الذهبي الذي كان قد أنتج الكثير من الحضارات في العالم؟

تحاول تركيا أن تقوم بدور الوسيط بين الدول الغربية وإيران فيما يخص الخلاف حول البرنامج النووي الإيراني. هل تعتقدون أن جهودكم ستكون كافية لتحول دون احتدام النزاع المرتقب؟

أغلو: لا نريد أن يكون هناك تسلح نووي في منطقتنا، بغض النظر عن من يملك هذا السلاح، ولكننا ندافع في الوقت نفسه عن حق كل دولة في استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية. وقد كان لنا لقاءات واتصالات كثيرة بالمسؤولين الإيرانيين، طُرحت خلالها عدة إمكانيات على الطاولة. وكما قلتي من قبل، طُرحت اقتراحات بأن تكون هناك دولة ثالثة مثل تركيا يُستبدل فيها اليورانيوم الإيراني منخفض التخصيب بوقود عالي التخصيب. ونحن مستعدون للقيام بكل ما في وسعنا من أجل السير قدمًا في هذه العملية.

الوزير التركي مع نظيره الإيراني، الصورة: ا.ب
أغلو: لا نريد أن يكون هناك تسلح نووي في منطقتنا، بغض النظر عن من يملك هذا السلاح، ولكننا ندافع في الوقت نفسه عن حق كل دولة في استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية

​​كنت مؤخرًا في زيارة تباحثية في إيران، علمت خلالها أن إيران ولأسبابٍ داخليةٍ تريد أن يجري هذا الاستبدال بدايةً على أراضيها، وأن تركيا يمكن أن تكون مشاركة في هذه العملية. على أية حال، نحن ضد أية عقوبات قاسية على إيران كما أننا نعارض أية حملة عسكرية من شأنها أن تزعزع الاستقرار في المنطقة. ناهيك عن أننا على قناعة بأنه ما زالت أمام الوسائل الدبلوماسية فرصةً لتحقيق النجاح.

العملية السلمية في الشرق الأوسط هي المجال الثاني الذي تقوم تركيا بدور فيه. كيف ترون تطور مسار العملية على هذا الصعيد؟

أغلو: لسنا بحاجة إلى خارطة طريق، بل إلى الوصول إلى نهاية الطريق. واللجنة الرباعية الدولية (المكونة من ممثلين عالي الشأن عن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) لم تعد جهودها تكفي لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كما أن الجانب الفلسطيني غير ممثل بشكلٍ كافٍ في اللجنة الرباعية. بينما يجب أن تكون هناك رؤيا واضحة لقيام الدولة الفلسطينية، ويجب أن تحظى الدولة الفلسطينية بالاعتراف الدولي بها. ولا بدّ من الكفِ عن الحديث عن "خارطة الطريق". ما نريده هو نهاية الطريق، وكفانا عمليات سياسية جديدة لا يُحدد لها إطار زمني.

لا يمكن أن يكون هناك حلٌ قبل أن يتحقق التوافق بين إخواننا الفلسطينيين. ونحن نثمِّن عاليًا الجهود المصرية الساعية لرأب الصدع بين المجموعات الفلسطينية المتخاصمة، ونحن مستعدون لتقديم المساعدة على هذا الصعيد. كما أنه لم يكن هناك رأي موحد داخل الحكومة الإسرائيلية، حيث نلاحظ أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان ووزير الدفاع إيهود براك ليس لديهم رؤيا مشتركة للمستقبل. وما دامت هذه الخلافات قائمة لن يكون هناك إمكانية لتحقيق تسوية للنزاع.

لذا ينبغي أن تعلم الدول الغربية أنه لا بدَّ من إنهاء الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عقودٍ من الزمن. وينبغي أن يكون هناك حل يتأسس على حدود عام 1967. كما يجب أن تكون لجهود السلام أهداف واضحة. ولكي يُكتب النجاح لهذه الجهود لا بدَّ لإسرائيل من العودة إلى طاولة المفاوضات.

ولكن من ناحيةٍ أخرى، ثمة علاقات لتركيا على سبيل المثال مع حماس والسودان وإيران تعرضت للنقد بسبب إخلال هذه الأطراف باحترام بحقوق الإنسان. ألا تعتقدون أن من شأن العلاقة بتركيا أن تشجع هذه الدول القوى على المضي في سياساتهم فحسب؟

أغلو: حسنًا، بعض الذين ينتقدوننا على هذه العلاقات يأتون إلينا أحيانًا من أجل الاستفادة منها. على سبيل المثال، كانت الجهود التركية مطلوبةً من أجل ضمان عمل المنظمات غير الحكومية في السودان. ولأسباب إنسانية ظلت الأنشطة الدبلوماسية التركية طي السرية في مرات كثيرة، وكان لنا دورٌ فاعلٌ في إطلاق سراح بعض المعتقلين والرهائن، لكني لا أريد أن أذكر هنا التفاصيل. وبالتأكيد نلفت انتباه نظراءنا إلى أهمية احترام حقوق الإنسان. لكننا لا نفعل ذلك علنًا؛ وهذا من شروط الأمانة.

تلتقي أحيانًا مجموعات معارضة أو قيادات دول مختلفة مع بعضها في اسطنبول وتتواصل مع المسؤولين الأتراك. ولكن رسالتنا إلى الدول التي يأتي منها هؤلاء المعارضون واضحة جدًا كذلك: "لا نرضى بأي لقاءٍ على الأراضي التركية من شأنه أن يخل باستقراركم، لكن لا بدَّ لكم من تقبُّل المعارضة". هذه الدول لا تشك بنياتنا الحسنة وتثق ثقةً تامةً برسالتنا.

نحن نعلم جيدًا كيف نميِّز بين عدم احترام حقوق الإنسان والإرهاب. عندما أصبحت تركيا عضوًا في مجلس الأمن في الأمم المتحدة، كان طلبي الأول من المسؤولين أن يشاركوا في كل الاجتماعات المتعلقة بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة. وقلت أنه علينا أن نتحدث عن احترام حقوق الإنسان بوصفها أولوية. ولا يمكن أن نتردد أبدًا في هذه المسألة.

أجرت الحوار: عائشة كارابات
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق النشر: قنطرة 2010

قنطرة

صورة تركيا في العالم العربي:
من جار منبوذ إلى جار منشود
شهدت صورة تركيا في محيطيها العربي والإسلامي تغيراً جذرياً منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم ورفض البرلمان التركي المشاركة في الحرب على العراق. كما ساهمت السياسة الخارجية التركية المعتدلة تجاه القضايا العربية في تغيير ملحوظ لإدراك الشارع العربي ونخبه الحاكمة لتركيا المعاصرة وفق تحليل يوسـف الشـريف، مدير مكتب "الجزيرة" في أنقرة.

تحولات السياسة الخارجية التركية:
عودة "الرجل المريض" - تركيا "الأردوغانية" على خطى الدولة العثمانية؟
ما إن وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم حتى أخذت السياسة الخارجية التركية تشهد عدة توجهات وتحولات، إذ تحولت من سياسة ذات دبلوماسية أحادية البعد إلى سياسة ديناميكية تعتمد على تعدد العلاقات ومزيج من الاستراتيجيات السياسية التي يعود الفضل في صياغتها إلى مهندس السياسة الخارجية التركية الجديدة أحمد داود أغلو. نيميت شيكر تسلط الضوء على هذه التحولات والتوجهات.

الإسلاميون العرب والنموذج التركي:
هل من تأثيرات محتملة؟
هل ستبقى تجربة حزب العدالة والتنمية محصورة داخل الحدود التركية بحكم كونها نتاج أوضاع غير قابلة للتكرار أم أنها رغم خصوصيتها ستؤثر في الفكر السياسي لعدد من الحركات الإسلامية العربية ذات التوجه الإصلاحي؟ تحليل صلاح الدين الجورشي.