قصة فتاة سورية ألمانية مع مصففة شعر في ألمانيا

"من أين أتيتِ إذَن؟" (بمعنى من أين أنتِ؟) حسنًا، ماذا عساي أن أقول؟ هل أقول لها من مدينة "ڤورمس" الألمانية -مسقط رأسي- وأستمتع بعدها بنظرات عدم الرضا التي ستعتلي وجهها؟ أم أقول لها من سوريا، وهو ما تسعى مصففة الشعر في ألمانيا لمعرفته في حقيقة الأمر، لأن معظم من يطرحون هذا السؤال لا يهمهم معرفة مكان ولادتي ونشأتي. السورية الألمانية هدى الجُندي تطلعنا على تجربتها الحياتية بين ألمانيا وسوريا.

الكاتبة ، الكاتب: Huda Al-Jundi

لا تسيئوا فهمي، أنا فضولية مثلي مثلهم تمامًا. ولكنه لن يطرأ ببالي بأي حال من الأحوال أن أخبر شخصًا وُلِدَ وترعرع في ألمانيا أنه يتحدث الألمانية بطلاقة أو أنه اندمج في المجتمع بشكل جيد.

إن من يجدون أنفسهم مضطرين للاندماج في المجتمع هم الآباء. فقد جاءوا من بلاد أجنبية وثقافة مختلفة وتعلموا اللغة الأجنبية وقاموا بتربية أبناءهم. ولذلك، فإن هذا الاندماج لم يتحقق على يد الأبناء بل على يد آبائهم.

أفتقد تلك الأيام التي كنت أضطر فيها لتوضيح مكان سوريا على الخريطة. حقًا! وأفتقد أيضًا سؤالهم لي عما إن كنت أرغب في العودة إليها يومًا ما. كم كرهت هذا السؤال. أعود إلى أين؟! إلى أجدادي الذين كنتُ أزورهم كل عام خلال العطلة؟

ولكن، كيف كان لي أن أعرف أن هذا السؤال سيتحول إلى: "يا إلهي من سوريا؟! يا له من أمر فظيع! كم مضى عليكم هنا؟" أو بالأحرى: "هل هناك حرب في سوريا حقًا أم أن الإعلام يخدعنا فحسب؟". 

ولكن، لنعد لسؤال مصففة الشعر مرة أخرى. نعم! فأنا أذهب لمصففة الشعر. لا بد أن يقوم أحدهم بتضبيط قَصَّة حجابي. لا، لا، أنا أمزح فحسب، أعني شعري بالطبع. أو ربما أكون صلعاء وليس لديّ شعر؟ سبق وسئلت هذا السؤال بالفعل. ولكن لندع مسألة شعري الوردي (؟) جانبًا ونعُد لموضوعنا مرة أخرى. حسنًا، من أين أنا إذن وبماذا أجبت على هذا السؤال؟   

هدى حين كانت في المدرسة الابتدائية في ألمانيا.  (photo: private)
هدى سورية ألمانية شاركت بنجاح في حصص "لغتها الأم، اللغة التركية" حين كانت في المدرسة الابتدائية في ألمانيا رغم أن لغتها الأم هي العربية: تقول الفتاة السورية الألمانية هدى: (كان مدرسيّ يعتبرونني تركية. ولكن، كله سواء. فنحن -العرب والأتراك والإيرانيين- نتحدث نفس اللغة على أي حال! لا بد وأنهم يظنون ذلك، وإلا فكيف سأفسر تلك العبارة التي وجدتها مكتوبة في شهادتي وأنا في الصف الثالث الابتدائي: "شاركت هدى بنجاح في حصص لغتها الأم، اللغة التركية").

كنتُ دومًا "الأخرى" أو "الأجنبية"

في طفولتي لم أشعر بتاتاً أنني ألمانية، وقد بدأ هذا الشعور منذ أن كنتُ في الحضانة. كنتُ دومًا "الأخرى" أو "الأجنبية" أو أي شيء آخر عدا ألمانية.

واستوعبت هذا الأمر جيدًا وأنا في المرحلة الابتدائية، فكان كل شيء من حولي، بدءًا من سؤال مدير مدرستي عما إن كنت مخطوبة بالفعل ووصولًا إلى: "لن ألعب مع فتيات عربيات بأي حال من الأحوال"، كافيًا كي لا يترك لدي أي انطباع قد يُشعرني من قريب أو بعيد أنني ألمانية.   

"شاركت هدى بنجاح في حصص لغتها الأم، اللغة التركية"

كان مدرسيّ يعتبرونني تركية. ولكن، كله سواء. فنحن -العرب والأتراك والإيرانيين- نتحدث نفس اللغة على أي حال! لا بد وأنهم يظنون ذلك. وإلا فكيف سأفسر تلك العبارة التي وجدتها مكتوبة في شهادتي وأنا في الصف الثالث الابتدائي: "شاركت هدى بنجاح في حصص لغتها الأم، اللغة التركية".

تلك الحصص التي تعيَّن عليّ حضورها لأن حصص الأخلاقيات لم تكن قد استحدثت بعد. لذلك كانوا يزجون بجميع الأجانب في فصل واحد ويعينون لنا معلمًا ليدرِّس لنا جميعًا، سواء أكنّا أتراكاً أو عرباً أو إيرانيين بلغتنا الأم... اللغة التركية. وذلك لأنه كما قلت لكم من قبل، الأمر كله سواء.    

إلا أن مرحلة المدرسة في حياتي لم تصطبغ فقط بالعنصرية لحسن الحظ (وإن كانت العنصرية قد ظلت قابعة بين طيات العديد من المواقف). وعلى مدى السنوات التالية كان دائمًا ما يقع عليّ الاختيار لأكون المتحدثة باسم الفصل ونائبة المتحدثة باسم الطلاب في مدرستي الجديدة، وكان المدرسون يشيدون بي ويأخذونني دائمًا كنموذج لـ "الاندماج الناجح" في المجتمع.

واستمر الحال هكذا إلى أن ارتديت الحجاب وأنا في الصف العاشر. وفجأة أصبح الجميع يسعون عن غير دراية إلى فرض نمط حياتهم عليّ. وأصبحت تنهال عليّ الأسئلة الشخصية والوقحة إلى حد ما مثل: "هل أجبروكِ على الزواج؟" أو "لِمَ صرتِ ترتدين الحجاب؟" أو "هل ترتدين الحجاب بينما تمارسين الجنس أيضًا؟".

وليس هذا فحسب، بل وسرعان ما أصبحوا يملون عليّ كيف أعيش حياتي ونصحوني بعدم استكمال دراستي، لأنه لم يكن أحد ليوظفني وأنا بالحجاب على أي حال، كما أن المتعارف عليه في ثقافتي هو أن تبقى النساء في البيت!

وها أنا قد صرت بعدها بعشر سنوات أمًا وأعمل مترجمة فورية ومدونة ومؤلفة كتاب عن المخبوزات بعنوان "Kuchen trifft Orient" (الكيك الألماني يلتقي بالشرق) وفي طريقي لإعادة اختبار الأبيتور (الثانوية الألمانية) حتى تتسنى لي فرصة اللالتحاق بالدراسة الجامعية.

لا أعرف ما إن كان ينبغي عليّ ان أضحك أو أبكي وأنا أتابع السياسة اليوم وأسمعهم وهم يتحدَّثون عن فشل المهاجرين في الاندماج ويتركون الحكومة خارج المسألة.

لم يكن هناك أية مبادرات لدعم عملية الاندماج في المجتمع قبل 20 أو 30 عامًا (لم أسمع أنا أو أصدقائي عن أية مبادرات عدا حصص اللغة التركية التي كان يحضرها كافة الأجانب).

وطالما كان الجميع يعيشون بينهم وبين أنفسهم في مجتمعات موازية كانت كافة الأمور مستتبة في ألمانيا. وطالما أن المرأة المحجبة لن تكون أكثر من عاملة نظافة في المدارس بدلًا من معلمة رياضيات مثلًا، فإن كل شيء سيبقى كما هو على ما يرام.   

 

"هل صحيح أنه يتعيَّن عليكم أن تسبحوا عراة في حصص السباحة؟"

ووجدتُ نفسي مضطرة لمواجهة العديد من الأحكام المسبقة في سوريا أيضًا. زرت أرض أجدادي لأول مرة وأنا في السابعة من عمري. ذلك البلد التي كنت أجيب باسمها عمن يسألونني "من أين أنتِ؟". هبطت الطائرة في مطار حلب في منتصف الليل وكان في استقبالنا حشود من الناس ممن يدعون أنفسهم "عائلتي الكبرى"؛ أعمامي وأخوالي وعماتي وخالاتي وأبناء عمومتي وربما أيضًا جيرانهم، وجميهم أراد أن يقبلني.

هدى وهي طفلة في بلدة عائلتها في سوريا. (photo: private)
في سوريا هي ألمانية وفي ألمانيا هي سورية: تكتب هدى: "أول سؤال يُطرح عليّ وأنا لا أزال في المطار في سوريا وأخذ يتردد على مسامعي على مدى الأسابيع الستة التالية هو "أيهما أجمل؟ ألمانيا أم سوريا؟" بعد أن ابتلعت الصدمة الأولى (الحمام البلدي) التي واجهتني في سوريا إلى حد ما سرعان ما خاب أملي مرة أخرى. أصبحت فجأة "الفتاة الألمانية" أثناء لعبي مع أبناء عمومتي، ولم أكن أفهم سبب ذلك على الإطلاق! لم يشعرني هذا بأنني ألمانية بل أصبح بالأحرى من أسباب ضيقي على مدى السنوات التالية".

بدت إذن كبلاد لطيفة وأناس لطفاء (غرباء بعض الشيء). لِمَ غرباء؟ إن أول سؤال يُطرح عليّ وأنا لا أزال في المطار وأخذ يتردد على مسامعي على مدى الأسابيع الستة التالية هو "أيهما أجمل؟ ألمانيا أم سوريا؟" بعد أن ابتلعت الصدمة الأولى (الحمام البلدي) التي واجهتني في سوريا إلى حد ما سرعان ما خاب أملي مرة أخرى.

أصبحت فجأة "الفتاة الألمانية" أثناء لعبي مع أبناء عمومتي، ولم أكن أفهم سبب ذلك على الإطلاق! لم يشعرني هذا بأنني ألمانية بل أصبح بالأحرى من أسباب ضيقي على مدى السنوات التالية.

وكلما تقدَّمت في العمر صارت أسئلتهم أسخف وأسخف. بدايةً من "سمعت أنه في أوروبا ينبغي وأن يكون للفتاة صديق من سن 12 سنة" ووصولًا إلى "هل صحيح أنه يتعيَّن عليكم أن تسبحوا عراة في حصص السباحة؟"، سمعت كل الأسئلة الممكنة الكفيلة بأن تجعلني أنظر إليهم باستنكار حتى وإن كان بقلبي فقط.

تغيَّرت الكثير من الأشياء مع مرور الوقت. وأدركت الآن أنه يمكنني أن أجمع بكل بساطة بين الهويتين. قليل هم من يحملون خصائص كلا الثقافتين مثلي. تارة أشعر أنني ألمانية أكثر من كوني سورية وتارة العكس. وأصبحت الآن سعيدة جدًا بما توصلت إليه. ولكن دعوني أتوقَّف هنا قبل أن أسترسل أكثر من ذلك.

  

من أينَ أتيتُ إذن؟ من ڤورمس! ولكن مؤكد أنكِ تريدين أن تعرفي من أين تنحدر أصولي! من سوريا! أي بكل بساطة: أنا ألمانية-سورية! 

رأيت في المرآة كيف تكتم مصففتي ضحكتها في خجل بينما تحاول أن تشرح لي أنها كانت تريد فقط أن تعرف من أين أتيت أو بالأحرى إلى أين أتجه بعد ذلك...

كانت لحظة محرجة حقًا.

نعم، أنا نفسي لستُ بمنأى عن الأحكام المسبقة.

 

 

هدى الجندي

ترجمة: هبة شلبي

حقوق النشر: معهد غوته /رؤية 2018

 



ar.Qantara.de

هدى الجندي – وُلِدت في مدينة ڤورمس على نهر الراين وتعمل مترجمة فورية في مانّهايم. وهي في طريقها الآن لإعادة اختبار الأبيتور ليتسنى لها دراسة علم النفس العام التالي. قامت بتأليف كتاب عن المخبوزات بعنوان "Kuchen trifft Orient" (الكيك الألماني يلتقي بالشرق). وتدير في وقت فراغها مدونة لا تقدم فيها مأكولات من المطبخ السوري فحسب، بل وتعطي فيها كذلك لمحة عن حياتها.