طرب صوفي وموسيقى ألكترونية

ما من مكان في العالم الإسلامي يشهد الآن توجها ثابت الخطوة لعالم المشرق باتجاه الغرب مثلما هو الشأن بالنسبة لإسطنبول. هذه الظاهرة تتجلى أيضا على مستوى الساحة الموسيقية. تقرير من شتيفان فرانزن.

جامع السلطان أحمد في اسطنبول، الصورة: د ب أ
اسطنبول: عاصمة الموسيقى الرائدة في الشرق الأوسط

​​

"إسطنبول هي ملتقى الطرقات ومدينة الملاهي الكبرى(Big Apple) بالنسبة لذلك الجزء من العالم. هناك حركية أكثر نشاطا هنا مما في العاصمة السياسية أنقرة التي يمكن النظر إليها بالأحرى كنظير لواشنطن التركية. كل الموسيقيين الجيدين والرديئين متواجدون هنا، وهناك أيضا عدد هائل من المحطات الإذاعية"، يقول ريتشارد هامر وهو يرتشف شايه في أحد مقاهي حي بيوغولو.

برامج جاز متنوعة

منذ عشرين سنة وعازف السكسوفون لا يبارح إسطنبول حيث يعمل على إعداد برامج جاز وموسيقي عالمية متنوعة. وحاليا فإن العمل مع فرقة Orient Expressions هو الذي يشغل موقع الصدارة من نشاطه. هنا يلتقي مع عنصرين من النشطين كدي دجاي و كذلك مع جام يلديز العازف الوتري العلوي اللامع والعارف عن دراسة بالموسيقى الشعبية.

"إننا نؤالف بين الموسيقى الإلكترونية وألوان مختلفة من الفلكلور الأناضولي وندخل تغييرات على طريقة العزف على الآلات الوترية التقليدية، وبالتالي فنحن بمثابة الروّاد هنا في تركيا"، يوضح يلديز. وقد قادهم المشروع الذي يشتغلون عليه حاليا إلى التعاون مع المغنية العلوية الشهيرة صباحات أكيراز.

بيوغولو: أو قفير النحل

أما في ما يخص ارتباط Orient Expressions وعناصر أخرى من الموسيقيين الرواد بإسطنبول بالشبكة العالمية فإن المسألة موكولة إلى عمل وكالة الانتاج Double Moon التي لها مقرها داخل الشبكة المتداخلة للأزقة التي تتسلق ربوة حي بيوغلو. داخل هذا المقر يحصل للمرء انطباع كما لو أنه داخل قفير نحل حيث 15 متعاونا يشتغلون على تطوير صورة صوتية لتركيا حديثة ومنفتحة على العالم.

الأخوان أحمد ومحمد أولوغ، وهما عنصرا الطاقة الإبداعية المحركة التي تقف وراء الشبكة يدردشان حول فلسفتهما الموسيقية: "إن ما يهمنا بالدرجة الأولى هو خلق أرضية تعدد ثقافي. لذلك نحن لا نتوقف عن دعوة موسيقيين عالميين للقيام بأعمال مشتركة مع فنّانينا."

ملامح إستعراضية

قد تتراءى الساحة الموسيقية التركية من زاوية نظرنا الخاصة ذات وجه تطغى عليه الملامح الاستعراضية الصارخة لموسيقى بوب جماهيرية من طراز ما يقدّمه تاركان ومصطفى صندل. إلا أن جماعة Double Moon بقائمة معروضاتها الموسيقية التجديدية التي تمتد من الـ"نو جاز" (Nu Jazz) إلى الأنغام التقليدية، مرورا بمختلف الألوان الموسيقية العالمية، لم تعد منذ مدة طويلة من الزمن منحصرة في إيصال صوتها على حفنة من الجمهور النخبوي.
ويعبر هؤلاء الفنانون عن أسفهم لكون اسطواناتهم لا تعرض في الأسواق الخارجية ضمن القطاع العالمي المتعارف عليه باسم "Global"، بل داخل الخانة الخاصة بتركيا. ويطالبون بالتعجيل بمسار التقارب مع الاتحاد الأوروبي كي يتمكنوا من تنسيق أنجع لبرنامج عملهم خارج الحدود التركية. "إن انتماء تركيا للاتحاد الأوروبي من شأنه أن يخلّصنا من عبء التعقيدات البيروقراطية المرتبطة بالحصول على تأشيرات السفر، كما سيجعل عددا أكبر من شركات الانتاج الأوروبية ينتبه إلى أعمالنا."

سلطان في زيّ تيكنو

عندما يعبر المرء جسر غالاتا يكون قد ترك وراءه بيوغولو المضطربة بالنشاط. وفي حي السلطان أحمد تبدو مدينة إسطنبول ذات طابع متحفي: قصر توبقابي، آيا صوفيا والجامع الأزرق تمنح للعين صورة النقيض الواضح للضفة المقابلة النابضة بالحركة. لكن هنا أيضا يوجد موسيقي يقدم لنا هذا الزخم التاريخي الذي يتراءى لنا مشحونا بالغرابة، في ثوب غاية في المعاصرة.

ضارب الإيقاع المقتدر برهان أوجال قد أقام لمدة طويلة في مدينة زوريخ وقد عاد للإقامة مجددا في مدينته الأصلية. ومشروعه الموسيقي المعمّد بإسم "المشروع السلطاني" الذي يعد له مع بيتة ناملوك فنّان الموسيقى المستوحاة من المحيط (Ambient-Musiker) يطمح إلى إنتاج ألبوم خاص لكل من قرابة الأربعين سلطانا من سلاطنة السلالة العثمانية.

"لا أستطيع أن أتجاهل تقاليدي وماضيّ بكل ما يحملانه من قسوة وشّدة ومن جوانب إيجابية كذلك. ومن جهة أخرى لا أستطيع أن أتغافل عن المعطيات التكنولوجية لعصرنا الراهن أيضا"، هكذا يعلق أوجال على مشروعه الطموح. إضافة إلى ذلك فإن هذا الموسيقي متعدد المواهب قد سجل مع فرقته المعروفة بالتخت الشرقي لإسطنبول مقطوعة ذات طابع كلاسيكي تقريبا تكريما للبازار الكبير للمدينة.

أما عن إسطنبول وما تشهده من انطلاقة مكوكيّة، فإنه لا يرى في ذلك شيئا جديرا بالاعتبار: "إن الأثرياء الجدد الذين يتوافدون على المدينة من مناطق بحر إيجة والأناضول ويسعون إلى الربح السريع يمثلون في الحقيقة الخطر الأكبر على المدينة العلمانية. إنهم يثرون على حساب تاريخنا، يصوغون تصميمات موضوية سطحية مستقاة من نماذج عثمانية، وفي الآن نفسه يشيدون معمارا ببنايات عالية على نمط منهاتن؛ معمار يمثل تلوثا بيئويا صرفا في نظري."

راب من الضفة الآسيوية

لكن ليس الشطر الأوروبي من المدينة وحده هو الذي يسهم في تأسيس المشهد الموسيقي الحالي، وذلك ما يجسده على أفضل وجه فنّان الراب الأكثر نشاطا في المدينة. في منتصف التسعينات كان جيزا يقتدي بمعبوديه من النجوم الأميركيين، أما اليوم فقد أصبح أحد الممثلين الرئيسيين للنوع الموسيقي الذي غدا يحظى بأهمية ضاربة في الأصقاع وبين الشعوب، ألا وهو الراب التركي.

"لسنوات عديدة ظل الشباب هنا يستمعون إلى نفس الموسيقيين ونفس الأغاني. ولم تكن هناك سوى الأغاني الجماهيرية ذات الطابع الملتاع الحزين وكرة القدم. أما الآن فإنهم يمارسون الـ"بريك دانس" والراب ويعملون كـ"جي دجاي" وبمارسون فنّ "الغرافيتي" (المخربشات الحائطية) وينشئون محطات إذاعية إلكترونية، ويصدرون مجلات هيب هوب. إنها الطريق المثلى لتأطير طاقاتهم الإيجابية."

ذلك هو رأي جيزا حول مجاوريه من حيّ أوسكودار، حي الناس البسطاء حيث كان يتعايش هنا على الدوام أناس من مختلف المعتقدات والأصول اللإثنية في جو من الانسجام: يهود وأرمن ويونانيون ومسلمون. "لقد كان هذا التنوّع بالنسبة لي منذ طفولتي أمرا بديهيا"، يوضّج جيزا. "لذلك أقول في إحدى قصائدي المغناة: إنني خلاصة الإثنيات والأعراق."

طرب صوفي

لكن أكبر من يعود له الفضل في التعريف بالثقافة الإسطنبولية الجديدة في الخارج خلال السنوات الأخيرة يظل أركين إيليجالي. وقد اختار هذا الفنان مدينة مونتريال موطنا جديدا لإقامته منذ 17 سنة، لكنه يعود بانتظام إلى وطنه الأصلي تحت إسمه المستعار مرجان دده: "إنني أشعر بنفسي ماثلا في روح الدراويش الراقصين"، يؤكد الفنان البالغ 39 سنة من العمر. "لهؤلاء قدم على الأرض، بينما الثانية على سفر فيما هم يلفّون في رقصتهم."

"مدينة إسطنبول تمنحني إلهاما متجددا على الدوام وفوضويا في الآن نفسه. هذا الإلهام أشتغل على هضمه فيما بعد عندما أكون في مونتريال. أن يعيش المرء هذه الازدواجية لمدينة عمرها 200 سنة وأخرى لها 3 آلاف سنة من العمر، لهو أمر رائع حقا."

لقد بدأ مرجان دده انغماسه العميق داخل الأجواء الموسيقية للمتصوفة منذ سنوات شبابه المبكر. وبالأخير درس الموسيقى الإثنية في كندا. وهناك أيضا شرع في عمله كدي دجاي في مزج الموسيقى الألكترونية مع أنغام الناي والمؤالفة بين ألوان فلكلورية من بلدان عديدة.

ويعمل مرجان دده في ألبوماته حاليا على وضع برنامج لدورة تتكون من العناصر الأربعة المكوّنة للحياة: "صو"(الماء)، وهو عمله الحالي منذور للماء ولمدينة إسطنبول التي يحيط بها عنصر الماء من كل الجهات تقريبا. أما "نفس"(عنصر الهواء) فيتناول مسائل التفاهم المتبادل والحرية والإحساس بالخفّة.

الاتحاد الأوروبي كفرصة للموسيقيين

يطرح دده بعض الآراء و الحجج المتينة بخصوص مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي: "لا يمكن للطرفين إلا أن يستفيدا من انضمام تركيا. فسيكون ذلك مؤشرا في منطقة الشرق الأوسط على أن أوروبا ليست ناديا مسيحيا مغلقا، بل منظمة حضارية تتفاعل بذهن متفتح مع كل طرف." وبالنسبة للأتراك المقيمين في ألمانيا كذلك سيكون لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي مفعول المؤشّر الإيجابي أيضا، كما يرى دده:

عندما ننضم إلى الاتحاد الأوروبي ستتكون بموجب ذلك قاعدة للتحاور على مستوى مغاير مع الأتراك الألمان. ذلك أن هؤلاء يبدون لي كما لو أنهم قد توقّفوا عن التطور منذ حوالي عشرين سنة وغدوا لا يعرفون شيئا عن نوعية تفكير شباب إسطنبول ولا عن طريقة سلوكهم. وبالنهاية فإن هذا الانضام سيدخل تغييرا على مسار التلاؤم والتأقلم لدى شباب بلادي المقيمين في ألمانيا وسيقلّص من حدة الاستقطاب الثنائي داخل المجتمع الألماني."

وعلى أية حال يمكن القول بأن أصوات إسطنبول، وقبل أن تصبح تركيا عنصرا يحتل مكانة سياسية داخل الكيان الأوروبي، قد رمت بجذورها عندنا. فمرجان دده يحتل حاليا المرتبة المتقدمة داخل المشهد الموسيقي العالمي، بينما فاتح أكين (صاحب شريط "ضد الحائط") قد ألقى في السنة الماضية داخل قاعاتنا السينمائية بعمله التكريمي للمبدعين الموسيقيين لمدينة البوسفور من خلال شريط Crossing the Bridge -"عبور الجسر".

بقلم شتيفان فرانزن
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة 2007

شتيفان فرانسن صحفي ألماني مختص بالموسيقى

قنطرة

عوالم الموسيقى
الموسيقى بوتقة يمتزج فيها الشرق والغرب والشمال والجنوب والحاضر والماضي. في الملف التالي نتناول تأثير السياسة والعولمة على الإبداع الموسيقي كما نقدم تجارب موسيقية من بلاد عربية وإفريقية وأوربية