الإسلام في روسيا

بعد خمس سنوات من وفاة الكاتب الروسي مارك باتونسكي في منفاه الألماني صدرت الآن الدراسة الشاملة الأولى من نوعها عن الإسلام في روسيا. غسان غوينوف حضر حفل تقديم الكتاب

مارك باتونسكي

​​

كانت الأمسية بمنتدى "ليف كوبليف" في كولونيا مناسبة من نوع خاصّ من الحوار مع الإسلام. أمّا المناسبة فكانت حفلَ تقديم كتاب وتكريمًا لعالم بحّاثة قد مثّلت كلّ من حياته وعمله رابطة وصل متميّزة وعجيبة بين ألمانيا وروسيا والعالم الإسلامي. هذا الكاتب هو مارك باتونسكي Mark Batunskij.

ولد باتونسكي سنة 1933 في عائلة يهوديّة بأوكرانيا، وفي سنة 1941 وقع ترحيله إلى أوزباكستان. وخلال إقامته في طاشقند تمكّن باتونسكي من صقل رؤيته العلميّة كمتابع يقظٍ للقمع الذي كان يمارسه السوفيات ضدّ الإسلام، وكذلك لتقاليد المقاومة التي كانت تتصدّى لضغوطات ذلك القمع. بعدها انتقل إلى موسكو حيث سيُرقّى خلال السبعينات والثمانيات لمرتبة باحث طلائعيّ في حقل العلوم الإسلاميّة في الاتّحاد السوفياتي. وعلى إثر التحوّل السياسيّ الذي عرفته البلاد هاجر سنة 1993 إلى ألمانيا توفّي هناك سنة 1997.

مواقف متناقضة في التعامل مع الإسلام

قائمة مؤلّفات باتونسكي طويلة، إلاّ أنّ مؤلَّفه الرئيسي "روسيا والإسلام" ؛ تلك الدراسة التي تقع في ثلاث مجلّدات حول تعامل

غلاف الكتاب

​​ الدولة والمجتمع الرّوسي مع الإسلام، لم يُكتب له أن يُنشر إلاّ بعد خمس سنوات من وفاته. والجدير بالملاحظة هو أنّ الكاتب لم ينجز عمل السنوات الأربعة الأخيرة من عمره في روسيا بل في ألمانيا.

لذلك فإنّ هذا اللقاء الذي انعقد بمنتدى ليف كوبليف في كولونيا يعتبر أكثر من مجرّد تكريم للكاتب، بل محاولة لعرض نتائج عمله ضمن إطار ذي أهميّة خاصّة. إحدى الميزات الخاصّة لمؤلَّف باتونسكي هي تلك التي أشار إليها ناشره الرّوسي بوريس أوريشينْ - دار التقدّم والتراث بموسكو-، وتتمثّل في لفته النظر إلى الطابع المزدوج والمتناقض للموقف من الإسلام في روسيا.

فمن ناحية يركّز باتونسكي، كما يؤكّد ذلك أوريشين، على موقف الرّفض الذي يقابَل به الإسلام من قِبل جزء كبير من المجتمع الرّوسي. ومن ناحية أخرى يشير أوريشين إلى أنّ باتونسكي قد خصّص صفحات عديدة للحديث عن الدّرجة العالية من التسامح والتفهّم الذيْن يقابَل بهما الإسلام في روسيا. وفي هذا الظرف بالذّات حيث يجد المجتمع الروسي نفسه في مواجهة أليمة مع المصادمات الدينيّة التي تمزّقه، سيكون من المفيد أن يُنظر إلى كتاب باتونسكي كدليل على وجود قابليّات لقيام حوار مع الإسلام في روسيا.

بهذه المناسبة دعا منتدى ليف كوبليف أيضًا زميلا آخر لباتونسكي وهو غيرهارد سيمون الباحث الألماني المختصّ في تاريخ أوروبا الشرقيّة والذي تعرّف على باتونسكي سنة 1990 بكولونيا. ويعتبر سيمون أنّ الأمانة العلميّة لباتونسكي هي التي خوّلته من وضع تجاربه في أوزباكستان في خدمة نشاطه العلمي عوضًا عن توظيف معارفه بصفة لا مشروطة لخدمة أغراض الدعاية الإديولوجيّة.

التقاليد الإسلاميّة في روسيا أقدم عهدًا من الأرثوذوكسيّة

كان باتونسكي منبهرًا بالطاقات التي ينطوي عليها الإسلام، وفي نفس الوقت كان يدهشه أيضًا التفاعل ذا الوجوه المتعدّدة الذي يقاَبل به هذا التقليد الدّيني في روسيا. في مركز اهتمامات باتونسكي هناك فكرة تعود بإلحاح وهي تلك التي تؤكّد على سوء تقدير حجم الطاقات التي بإمكان الإسلام أن يجنّدها ويستحثّها.

وفي هذ الضمار تجدر الإشارة إلى الروابط العديدة التي تصل روسيا بالإسلام، روابط أكثر اتّساعًا ممّا يُعتقد على وجه العموم: التقليد الإسلامي في روسيا التي تُعتبر بلدًا أورثوذكسيًّا في الغرب أقدم من المسيحيّة الأورثوذوكسيّة ببضعة مئات من السنين. ومع ذلك ظلّت الطاقات السياسيّة المتوفّزة للإسلام لعشرات السنين لا تؤخذ بعين الاعتبار.

وحسب ما ترويه السيّدة إليونورا أرملة باتونسكي التي أنقذت مخطوطة هذ الكتاب الذي يُعرض على القرّاء حاليًّا، فإنّ باتونسكي قد يكون نبّه السّوفيات العديد من المرّات سواء في ما تعلّق بحدوث الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة أو بالتّبعات المُهلِِِِِكة لاجتياح الجيش السوفياتي لأفغانستان. وبالمناسبة فإنّ التمويه الوقح الذي استُعمل لتبرير حرب استعماريّة في الشّيشان بدعوى حرب دفاعيّة للتصدّي للإرهاب هو الذي حمَل باتونسكي على مغادرة روسيا، كما تؤكّد ذلك أرملته.

أكبر الاختصاصيّين الرّوس في حقل الشؤون الإسلاميّة يهودي

مُذهلٌ هذ التداخل بين الطابع البيوغرافي والطابع السياسيّ لدى باتونسكي: يهوديّ روسيّ يصنّف في ألمانيا كتابًا عن الإسلام وطرق التعامل معه في روسيا، ثمّ يقوم بنشر هذا الأثر الذي يقع في ثلاث مجلّدات ناشر روسيّ!

خلال تقديم الكتاب في ألمانيا طرحت إحدى المشاركات في هذه التظاهرة السؤال التالي: "وكيف كان ردّ فعل العلماء المسلمين الرّوس إزاء هذا الإسهام الهامّ في مسار الحوار والتفاهم المتبادليْن ؟"
البعض تقبّله تقبّلاً جيّدًا، إلاّ أنّ الجميع منشغلين حاليًّا بلعبة سياسيّة معيّنة، تجيب أرملة باتونسكي. وفي مثل هذه اللعبات يجد العالِم مارك باتونسكي نفسه دومًا في صفّ الخاسرين.

بقلم غسان غوينوف، محرر في القسم الروسي في الدويتشه فيلله
ترجمة علي مصباح