العولمة ومخاوف العالمين العربي والإسلامي!

ماهي موقف الإسلاميين من العولمة؟ ماهي القواسم المشتركة مع القوميين واليساريين؟ يقدم الباحث الاقتصادي كاظم حبيب موقف الشرائح الاجتماعية العربية المختلفة من هذه الظاهرة والأسباب الاقتصادية الكامنة وراء ذلك.

تثير العولمة منذ سنوات حوارا صاخبا اقتصر في الغالب الأعم على جمهرة من المثقفين وبعض القوى السياسية في العالمين العربي والإسلامي, إذ كانت وما تزال الآراء والمواقف مختلفة بشأنها تتراوح بين مناهض عنيد ومؤيد متحمس أو قلق متردد. وعجز المتحاورون حتى الآن عن إثارة اهتمام مختلف الفئات الاجتماعية ومشاركتها الفعلية في الحوار, رغم ارتباطها الوثيق بحياة الناس وفرص العمل والأجور والخدمات. وينتمي المناهضون والمؤيدون إلى أحزاب وقوى ذات إيديولوجيات وسياسات ومصالح متباينة ويرتبطون بطبقات وفئات اجتماعية مختلفة تتباين في تحديد الأسباب التي تدعوها إلى رفض العولمة ومقاومتها أو السير في ركابها. وقد شمل هذا الرفض قوى يسارية وأخرى قومية وجماعات إسلامية ونقابات في آن واحد, مع اختلافات واضحة في منطلقات رفضها. وإذا كان اللقاء الفكري

كاظم حبيب، الصورة: من الأرشيف الخاص
كاظم حبيب، الصورة: من الأرشيف الخاص

​​ بين القوى القومية وجماعات الإسلام السياسي واضحا في عدد غير قليل من المواقف والسياسات مع وجود سياسات ومواقف أخرى متباينة أيضاً, فأن الاختلاف بينهما وبين اليساريين العرب وغير العرب, ومن بينهم أنصار الماركسية, ما يزال كبيرا في مختلف المجالات والمواقف.

أما تأييد سياسات العولمة فما زال محدودا جدا ومحصورا بجمهرة من المثقفين والسياسيين اللبراليين التي تتبنى مواقف حكوماتها عمليا أو تلك التي تمارس الضغط على حكوماتها لتبني سياسات العولمة وممارستها, كما هو الحال في مصر وتونس ولبنان والمغرب, في حين تخشى السعودية والسودان والعديد من دول الخليج وغيرها اتجاهات العولمة, وخاصة الثقافية منها, ولكنها لا تتصدى لها علناً بسبب علاقاتها التبعية بالدول الرأسمالية المتقدمة.

وينتقل رفض العولمة المشحون بالمخاوف منها, بسبب عدم التمييز بينها كعملية موضوعية وكسياسات عولمية, إلى المجتمعات في الدول العربية ويسيطر على أذهان كثرة من الناس ويقترن عندها بذكريات وتداعيات غير طيبة وغير عادلة واستعمارية مريرة من جانب الغرب الرأسمالي إزاء العرب والمسلمين. فما هي تلك المخاوف التي تثيرها العولمة؟ وكيف يجري التعامل معها في العالمين العربي والإسلامي حتى الآن؟ وما هي حقيقة هذه المخاوف ارتباطاً بعملية العولمة الجارية؟ في هذه المقالة المكثفة محاولة للإجابة عن بعض هذه الأسئلة من منظور مختلف كثيرا عن المواقف السائدة في الدول الرأسمالية المتقدمة, رغم وجود التناقض والصراع حول دور العولمة ودور الدولة الوطنية والثقافة القومية فيها أيضاً.

تعتبر العولمة عند أغلب اليساريين في الدول العربية وفي غيرها من دول المنطقة عملية موضوعية ومرحلة متقدمة في النظام الرأسمالي العالمي, ولكنها تقاد من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة التي تمارس سياسات ليبرالية جديدة تستثمر من خلالها منجزات الثورة الصناعية الثالثة, ثورة الاتصالات والمعلومات, بهدف المزيد من استغلال شعوبها وتشديد استغلال شعوب وموارد البلدان النامية وتهميشها دوليا. وتقترح هذه القوى على الدول العربية وشعوبها رفض الانخراط في العولمة الرأسمالية لتفادي المزيد من التبعية والتهميش, والسعي من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستقلة المعتمدة على الذات. وهذه الرؤية تجد تأييدا ملموسا في أوساط المجتمع, علماً بأن اليساريين العرب وغير العرب, ومنهم الماركسيين, لا يتقاطعون مع العولمة في قضايا العلمانية والعقلانية أو في الدعوة إلى التجديد والتحديث الثقافي والتقني, كما لا يراها البعض منهم خطرا يهدد الهوية الثقافية, بل يركزون على جانبها الاستغلالي التهميشي والتبعي لمجتمعاتهم واقتصادياتهم, وما ينشأ عن ذلك من تناقضات وصراعات على الصعيد العالمي, باعتبارها نتاجاً رأسمالياً موضوعياً مرتبطاً بتطور القوى المنتجة على الصعيد العالمي وبقانون الرأسمالية في هذه المرحلة من تطورها. وهناك من اليساريين العرب وغير العرب من يرى في عملية العولمة فرصة سانحة لتسريع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتغيير واقعها الراهن, خاصة وأنها تمتلك مقومات خوض هذا التحدي العصري, إن سعت مجتمعة إلى التعاون والتنسيق والتكامل في ما بينها واعتماد مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في حكم هذه البلدان. وتطرح في هذا الصدد تجارب النمور الآسيوية باعتبارها نماذج لمثل هذا التطور المحتمل في إطار الرأسمالية.

أما أغلب القوى القومية في المنطقة فأنها تلتق مع جماعات الإسلام السياسي, أي الجماعات الأصولية , في خشيتها الفائقة من العولمة باعتبارها خطرا داهماً يهدد مجموعة من الثوابت القومية والدينية التي لا يجوز المساس بها بأي حال, كما أنها تلتقي مع اليساريين في موضوع الاستغلال والتهميش للمجتمعات النامية وتحويلها إلى توابع خاضعة لسياسات ومصالح المراكز الرأسمالية المتقدمة, علماً بأن جماعات من القوميين تعتبر علمانية النزعة.

تستند جماعات الإسلام السياسي ومجموعات من القوى القومية في معارضتها للعولمة إلى صراعات الماضي البعيد ابتداءا من الحروب الصليبية ومرورا بالهيمنة الاستعمارية المباشرة وغير المباشرة على الدول العربية والإسلامية في القرنين التاسع عشر والعشرين وانتهاءا بالسياسات التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة إزاء القضايا العربية والإسلامية, وفي مقدمتها قضية فلسطين, والحصار المفروض على العراق. كما تنظر نسبة كبيرة من سكان الدول العربية والإسلامية تحت هذا الهاجس, إلى العولمة لا باعتبارها عملية موضوعية بل بدعة غربية, ومشروعا أمريكيا تحديدا, يراد من خلالها فرض الهيمنة الكاملة على العالم العربي والإسلامي باسم الموضوعية والحتمية التاريخية.

يتشكل العالم العربي من 22 دولة (عدا فلسطين) موزعة على قارتي آسيا وأفريقيا, يبلغ تعداد سكانها 285 مليون نسمة تقريباً, يدين غالبية سكانها بالدين الإسلامي: خضعت جميع البلدان العربية بأشكال مختلفة للهيمنة الاستعمارية الأوروبية قبل أو في أعقاب الحرب العالمية الأولى وبعد انهيار الدولة العثمانية. وتشكلت دولها الحديثة في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين أو في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث أحرزت استقلالها السياسي بعد نضال شاق وطويل كلفها الكثير من التضحيات. وتعرضت لاستغلال بشع من جانب الرأسمال المالي العالمي, وهي ما تزال تعاني منه بصيغ مختلفة ومتنوعة. وقد ترك هذا بصماته في ذاكرة وفكر وحياة وعلاقات هذه الشعوب بالغرب الرأسمالي.

ورغم الجهود التنموية التي شهدتها العقود المنصرمة فأن جميع الأقطار العربية ما تزال تعتبر ضمن مجموعة بلدان العالم الثالث, حيث تعاني اقتصاداتها من مظاهر التخلف والتبعية للتجارة الخارجية. ففي جميع البلدان العربية ما تزال توجد بقايا العلاقات الأبوية وشبه الإقطاعية البالية التي تعيق تطور العلاقات الإنتاجية الرأسمالية وتطور المجتمع المدني الحديث, كما تعيق تحقيق عملية التنوير الضرورية للمجتمع التي تحققت في أوروبا منذ قرون. وفي الوقت الذي لم تحقق هذه المجتمعات ثورتها الصناعية الأولى يمر العالم الغربي في المرحلة الثالثة من الثورة الصناعية, وهو تعبير عن الفجوة الحضارية والتقنية الواسعة والعميقة التي تفصل العالم الغربي عن العالم العربي حالياً. فما يزال الاقتصاد الوطني وحيد الجانب ومشوه وريعي, سواء كان زراعيا أم نفطياً, كما ما تزال الصناعة ضعيفة التطور ومشوهة البنية حتى في أكثرها تقدما. ويتجلى ذلك في اعتمادها الواسع على الاستيراد لتغطية نسبة عالية جدا من حاجاتها المحلية, وفي تشوه البنية الاجتماعية وتخلف الوعي الاجتماعي للسكان والمستوى الضعيف لتطور المجتمع المدني سياسياً وحضاريا. فإلى جانب تخلف البنية الاجتماعية تنتشر الأمية على نطاق واسع وخاصة في الريف وبين النساء.

وتسيطر على مقدرات هذه المجتمعات حكومات استبدادية (أو) وديمقراطية شكلية بشكل عام, حيث يتم التجاوز الفظ على الحرية الفردية والديمقراطية وحقوق الإنسان. وأكثر هذه الدول تقدما تعمد إلى تقنين الديمقراطية وحقوق الإنسان وتفرض رقابة الدولة الخانقة, كما هو الحال في كل من مصر والمغرب والأردن, في حين تتعرض الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى المصادرة والتجاوز الفظ في بقية الدول العربية دون استثناء, كما هو الحال مثلا في كل من العراق والسودان وليبيا والسعودية وتونس والجزائر. كما أن اعتماد الغرب على القوى الرجعية والقوى الدينية المتعصبة في الكفاح الذي كانت تخوضه ضد البلدان الاشتراكية والأحزاب الشيوعية والقوى اليسارية والحركات الديمقراطية قد ساعد على نهوض هذه القوى.

وفي الوقت الذي تحقق هذه المجتمعات معدلات نمو اقتصادي متدنية, فأن معدلات النمو السكانية مرتفعة وتتراوح بين 2,5-3,2 % سنويا. وتتم عملية انتقال متسارعة من الريف إلى المدينة لا بسبب وجود فرص عمل في المدينة بقدر ما هي محاولة للتخلص من البؤس والفاقة والبطالة المقنعة في الريف. ويخلق هذا الواقع تضخما بشريا في المدن وتعاظم فئة أشباه البروليتاريا أو الفئات الهامشية فيها التي تعيش في المدن في حزام البؤس المحيط بها بسبب البطالة الواسعة. وبسبب تفاقم التمايز الطبقي في المجتمع فقد بدأت الفئات المتوسطة بالتقلص لصالح نمو الفئات الفقيرة والهامشية في المجتمع, وبالتالي تزداد معضلة الصراع بين فئة الأغنياء ذات العدد الضئيل التي تزداد غنى, وفئات الفقراء المتسعة باستمرار والتي تزداد فاقة وبؤسا يوماً بعد آخر. وترمي شعوب هذه البلدان بالمسؤولية لا على عاتق حكوماتها فحسب, بل على عاتق الغرب الرأسمالي أيضاً الذي يستغل شعوبها ويستثمر خاماتها ويدعم حكوماتها ويمارس سياسة ضارة بحقها. وفي مثل هذه الأوضاع يصعب على الشعوب العربية أن تتوقع الخير من الغرب الرأسمالي. لهذا فأنها ترى في العولمة ذات الطبيعة والمضمون والوجهة الرأسمالية طريقاً جديدا لتشديد استغلالها ونهب مواردها الأولية وفرض التبعية والخضوع للغرب عليها.

ومن هنا تنشأ المخاوف بشأنها. فسياسات العولمة الجارية تدعو بصرامة إلى ممارسة التدخل الفظ لفرض "الحرية التامة", وهي من جانب واحد, أمام انتقال رؤوس الأموال والتبادل التجاري وإلغاء القيود الجمركية وتحقيق الإصلاح والتكيف في اقتصاديات البلدان المختلفة مع بنية واقتصاديات الشركات الرأسمالية المتعددة الجنسية على بقية بلدان العالم دون الأخذ بالاعتبار ظروف تلك البلدان ومشكلاتها وحاجاتها. ولكنها تقف في الوقت نفسه ضد انتقال وهجرة الأيدي العاملة (عدا هجرة الأدمغة التي تشجعها) وتقيم الحواجز إزاء العالم النامي لهذا الغرض, إضافة إلى إعاقتها تصدير سلع بلدان العالم الثالث إلى أسواقها بمختلف السبل والقيود. وهي تسعى إلى تغيير وظيفة ودور الدولة وليس إلى إلغاء الدولة أو تفكيكها, أي جعلها مجرد جهاز إداري مهمته تنظيم وجبي الضرائب وتأمين توزيعها لصالح تنمية مشاريع القطاع الخاص وتأمين مستلزمات نشاط هذا القطاع وضمان أرباحه. كما تبقي لها دورها العسكري والأمني واحتكار ممارسة القوة والعنف أو القمع لضمان "الأمن والاستقرار" ومستلزمات استمرار تطور الرأسمالية وبقاء الحياة العامة هادئة دون تهديد للنظام الرأسمالي, أي دون أن تعصف بها التناقضات والصراعات الاجتماعية والسياسية, رغم أنها تشدد من استغلال الطبقة العاملة وبقية الكادحين وتقلص من المكاسب التي تحققت لها على مختلف المستويات طيلة القرون المنصرمة من النضال بين العمل ورأس المال, أي بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال. وهي في هذا تتجاوز حتى على أسس الديمقراطية التي تستوجبها طبيعة العولمة ذاتها.

وأذ تسمح العولمة بنشوء نظرة ذات طبيعة شمولية وعامة للطبيعة ومواردها الأولية والبيئة والإنسان وحقوق الإنسان, وكذلك للإمكانيات المتاحة والحاجات المطلوبة, بسبب طابعها
الشمولي والدولي والطابع الاجتماعي المتعاظم للقوى المنتجة, فأن هذه الإمكانية المتاحة عمليا يصعب استثمارها بشكل عقلاني لصالح المجتمع البشري كله. وتجارب الشعوب تشير إلى أن الدول الرأسمالية المتقدمة بدأت تستخدم حقوق الإنسان أداة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى عندما تجد في ذلك ما يخدم مصالحها.

ولا شك في أن العولمة تطرح مشروعا ثقافيا وحياتيا حديثا يتناغم مع مستوى التقنيات الحديثة ويختلف عن الماضي أو السائد حاليا, ولكنه ما يزال في بداية الطريق. وهذا الجديد بما يحمله من حداثة وتوافق مع الزمن قادر على إبعاد القيم والعادات والتقاليد القديمة والبالية العاجزة عن مسايرة الزمن المتكاثف بشدة, لا في المجتمعات العربية والإسلامية فحسب, بل في جميع المجتمعات. ولكن هذه الثقافة الحديثة ذات الاتجاهات العامة والمتباينة في مستوياتها من حيث الغنى والرداءة ستأخذ خصوصيتها الملموسة من واقع ومستوى تطور كل بلد من البلدان.

كاظم حبيب (1935) كاتب وسياسي عراقي، درس الاقتصاد في برلين، عمل أستاذا في جامعات عراقية وجزائرية، من مؤلفاته: ساعة الحقيقة (مستقبل العراق بين النظام والمعارضة) 1995، المأساة والمهزلة في عراق اليوم (2000)، العولمة من منظور مختلف (2003).