المسرح العراقي الزائر...وسيط معرفي انحبست صرخاته في برلين

حضر عصام الياسري خمس مسرحيات عراقية في برلين لكنه لاحظ أنها، رغم زخمها الفني والقيَمي، كانت محرومة من الجمهور والإعلام بسبب قصور في الترويج. فتولد لديه انطباع ناقد بأن المسرح الزائر في العالم صاحب رسالة إلا عند الجهات العراقية المسؤولة عن الثقافة فإنه يصبح مجرد نزهة سياحية. وفي رؤيته التالية لموقع قنطرة يقدم قراءته للمسرحيات الخمس وخاصة مسرحية "علامة استفهام" التي تحاول الكشف بأسلوب المونودراما (مسرح الممثل الواحد) عن غموض لعبة الحياة والموت.

الكاتبة ، الكاتب: عصام الياسري

استضافت العاصمة الألمانية برلين مؤخراً خمسة فرق مسرحية عراقية، واحدة من العاصمة بغداد وأربعاً من السليمانية وأربيل ودهوك.. وكنت أتابع منذ سنوات باهتمام زيارة مثل هذه الفرق، لكنني لم أشهد مثل هذا الحضور البائس على الإطلاق، ولا أستثني واحداً من هذه العروض الخمسة المتباينة في أسلوبها ودلالاتها الفنية والحسية.

والجدير أن مجموعة عروض مسرحية عراقية قدمها آنذاك على الساحة الألمانية وفي مواسم مختلفة المسرحي العراقي الراحل عوني كرومي بالتعاون مع مسرح الرور، حظيت بمشاركة جمهور واسع ونالت اهتماما ملحوظا من الصحافة ووسائل الإعلام.

ولا شك أن الحُكم على نجاح أي عمل فني وتقويمه مهما كان نوعه، ينطلق أساسا من أهمية الدعاية والإعلان ومشاركة الجمهور، دون أن ننسى طبعا طبيعة العمل المسرحي من ناحية الشكل والمضمون. ومن المؤسف أنني حتى كتابة هذا الموضوع لم أجد في أية من وسائل الإعلام الألمانية والعراقية أية إشارة لهذا النشاط الفني الهام.

 قصور تنظيمي إعلامي 

ويعود سبب ذلك إلى قصور الجهة الألمانية المضيفة التي لم تفِ بالتزاماتها والقيام بالدعاية ومخاطبة الإعلام أو مراسلة روادها. والأنكى من ذلك إعلانها على صفحتها على الإنترنيت قبل بدء العروض بأيام بأن ثمة عروضاً، منها مسرحية "علامة استفهام" من إخراج الدكتور قاسم مؤنس قد ألغيت بسبب عدم حصول بعض المشاركين على تأشيرات "فيَز"!. الأمر الذي أحدث تراجعاً في مشاركة الجمهور وعدم سد الفراغ، وكذلك أحدث أثراً بالغاً في جميع العروض على معنويات الممثلين.

آرسطو. picture-alliance / IMAGNO/Austrian Archives
آرسطو: "المسرح دون جمهور ليس مسرحاً".

المفارقة أن "مجموعة المختبر المسرحي العراقي"، لم تحظَ بأية رعاية مادية ومعنوية رسمية، أسوةً بالفرق الكردية المشاركة التي حصلت على اهتمام بالغ من قبل الجهات الرسمية لحكومة إقليم كردستان العراق.

 أين المسؤولون من المسرح الزائر؟

السؤال: لِمَ لا يعني المسؤول العراقي شأن الثقافة والفنون؟ ولماذا لا يجد نفسه معنياً بمتابعتها مادياً وتقنياً وإعلامياً؟ ألم تتضح بعد الصورة لديه ليدرك بأن على عاتق "الثقافة" والمسرح تحديداً تقع قيمٌ اعتبارية ومجتمعية ـ مسؤوليات توعوية على غاية كبيرة من الأهمية؟

 المسرح الزائر في العالم صاحب رسالة إلا عندنا يصبح مجرد نزهة سياحية لا قيمة لها عند الدولة ومسؤوليها ومؤسساتها كوزارة الثقافة واللجان الوزارية والبرلمانية المختصة. ومما يثير الاستغراب أنه لا السفير ولا الملحق الثقافي أو غيرهم في السفارة العراقية، في برلين، حضر هذا النشاط المسرحي أو قام باستقبال الفنانين واستضافتهم أو السؤال عن أحوالهم؟

إلى من يعنيه الأمر

 والسؤال لمن يعنيه الأمر "وشأن الثقافة هكذا"ـ هل حقاً العراق والجالية العراقية كما يجري تداوله في الأوساط العراقية، في حاجة إلى مركز ثقافي تديره "السفارة" في برلين وتُصرف عليه الملايين والجميع يدركون ما ستكون غايته الحقيقية ويدركون حجم الإمكانيات الثقافية والكوادر؟ كلها تكاد أن تكون صفراً.. المسرح كالفنون الأخرى وسيلة إعلامية هامة، في أروقته يوجد الكثير مما يحتاج العراق ومجتمعه لكنه في حاجة لأحكام وتفسيرات ومواقف إيجابية أيضاً.

 

 مسرحيات تتجاوز التأويل

على أية حال ما يهمنا القول هو إن المسرحيات الثلاث التي سنحت لي فرصة مشاهدتها هي: "علامة استفهام" بالعربي لقاسم مؤنس من بغداد، و"لا وقت للغناء" بالكردي لشوان كريم  من السليمانية، و"حوار بلا كلمات" بالكردي والألماني لكافال صدقي من دهوك. وهي مسرحيات تستحق وقفة تتجاوز التأويل.

ويمكنني رغم تباين النصوص والأداء والإيحاءات الحسية أو طبيعة العمل المسرحي ذاته، القول إن ما حدث وشاهدناه على خشبة المسرح أمام أعيننا وبجميع حواسنا ما هو إلا عمل فريد، يتمتع مادياً وروحياً من حيث الجوهر بقيم اعتبارية إنسانية اجتماعية سياسية. إلا أنها لا تخلو من عيوب تقنية وفنية وتختلف من عمل إلى آخر اختلافا جذرياً.

أيضاً الأداء، الذي يفترض أن يجعل من "الحركة" العقلَ الباطن الذي يفسر في المسرح "الرمزية" بأقصى درجة سيميائية دلالية تستعين بها اللغة، لم نلحظه بشكل متناسق إلا في "علامة استفهام"، سخّر بطل المسرحية الفنان خالد علي كل مواهبة ليجعلها منسجمة مع النص.

المسرح وسيط معرفي تاريخياً

فبالإضافة إلى فلسفة الحركة يُعرِّف أفلاطون وديموسثينيس "اللغة" بأنها لغة الشعر والموسيقى والمسرح ـ بمعنى أنها الوسيط المعرفي الذي دونه لا نستطيع فهم ما نرمي إليه. و"الحوار والحكاية" في المسرح تشكل إلى جانب الأجناس التعبيرية "لحركات الوجه" أهم أعمدة العمل ـ كما نشاهد ذلك في مسرحية "فاوست لـ "غوته"، تلك الدراما والكوميديا التي تعكس مأساة الصراع المصيري للبطل التراجيدي. مثلما في نهاية الملك أوديب في مأساة سوفوكليس: أوديب يصبح على بينة من ذنبه فيفقع عينيه؟

الممثلة العراقية إقبال نعيم في منودراما: إنها سوف تأتي أو.... برلين 2010:    DW
المونودراما هو مسرح الممثل الواحد: في الصورة تظهر سيدة عاشت فترة صدام حسين في العراق وما بعدها، وفيه يرى المشاهد بطلة العرض وهي تقوم بغسيل ملابس لوثتها الدماء. لكن عملية الغسيل لا تنتهي، حيث أن نهر الدماء لا يتوقف. حول ذلك تقول الممثلة إقبال نعيم: "لقد عشت زمن صدام، وأعيش الآن زمن ما بعد صدام، ومازالت الصراعات لم تتوقف، وما زال الدم يسيل."

المسرح دون جمهور ليس مسرحاً

 وخلافاً لأشكال مسرح أبيدوس المصري والمسرح الروماني اهتم المسرح في اليونان القديمة في وقت مبكر للحضارة بالمبادئ الجديدة التي خلقت المسرح وقيمه. ووضع أرسطو قواعده الأساسية واعتبر النص "اللغة "من أهم مبادئه، وأشار إلى أن المكان والزمان، في حد ذاتهما دون اللغة، يعجزان عن تقويم "الدراما".

 كما اعتبر أن المسرح دون جمهور ليس مسرحاً ـ فبالنص المسرحي تكتمل شرعية العمل ويرتقي الأداء وتأثيره على "اللاعب والمتفرج". كما نستطيع ترجمة آرائنا بالشكل الذي يعود بالفائدة على الثقافة والمجتمع.

"اللغة تكمل شرعية العمل"

وهذا هو ما افتقدناه للأسف في بعض المسرحيات لعدم فهمنا النص. إذ قدمت أربع مسرحيات من خمس باللغة الكردية في وسط لم يفهمها إلا قلة من الحاضرين. من هنا يصبح لا قيمة للقول، بألا أهمية لـ "اللغة" طالما آليات العمل الدرامي الفنية دونها متوفرة.

 في مسرحية "علامة استفهام" لمجموعة المختبر المسرحي العراقي من تأليف كاظم مؤنس وتمثيل كل من الفنان المبدع خالد علي مصطفى والفنان ضياء الأمارة وإخراج الدكتور قاسم مؤنس أجد الصورة تكاد أن تكون مكتملة.

حركة الممثل تشق الفضاء المسرحي

ومسرحية "علامة استفهام" تبحث في مصير مجتمع: أي مجتمع عانى ويعاني من الحروب والقهر السياسي والنفسي ويبحث عن السلام والأمن والاستقرار. يقول الدكتور قاسم مؤنس الذي تحدثت وإياه بعد عرض مسرحية (علامة استفهام) إن المخرج جعل الممثل يشق الفضاء المسرحي متدفقاً من خلال الحركة. وإن الفضاء المسرحي الممتلئ بالعلب والحناجر الصارخة والألحان الموسيقية والدخان القادم من كل مكان أعطى إيحاء من خلال الحركة بأن الممثل قد انقسم على نفسه، يتوسط النور والظلام مع وجود الأصوات المتداخلة والتعبيرات المرسومة من حركة الضوء على جسد الممثل حيث مثلت صورة مركبة للاوعي.

اعتمد العرض على الحركة الراقصة والتشكيل والإشارات والأناشيد والهياكل الهندسية مع خطوط المنظومة الضوئية الناطقة بدلالات لونية متعددة نابعة من تأويل المعنى للعرض المسرحي. وقد تم توظيف كل وسيلة من الوسائل إما في حد ذاتها أو في تجانسها مع الوسائل الأخرى لتحيلنا إلى أفكار لا إلى كلمات كما هو الحال في المسرح التقليدي.

 مسرحية "علامة استفهام" مونودراما تبحث عن إيحاءات ومعانٍ، لا عن تفسيرات عبثية، بدافع إنساني تكشف الغموض عن لعبة الموت أو الحياة، لعبة لا نهاية لها في عالم متفسخ يسوده ظلم الإنسان والخراب والدمار بسبب الحروب.

المسرح...أصل لعبة الحياة

الحياة لعبة! وأصل المسرح في اللعبة. ماذا، ولماذا، وأين، ولأجل مَن؟ أوظف مقتبساً بعض المفردات من نص المسرحية ـ ويأتي القادم ويحكي عن حصاد الموت..عن النعش الأخير.. عن الأيادي اليابسة.. عن الدفاتر والمدارس التي أغلقت أبوابها.. مَن أنا لأوقظ كل هذا العويل .. مَن؟، مَن أنا لأكون الحاكم والمحكمة.. مَن؟.. مَن أنا.. رهان السيف والقرطاس والقلم؟ ـ إذن مَن ذا الذي سينتصر، القوة أم العقل؟.

وبصرف النظر عن الموقف العام من الأعمال، فإن ما قدم المسرح العراقي من رؤى وتفسيرات متمايزة في برلين، يكشف عن أصل اللعبة لرؤية العالم بأشكال مختلفة لمواجهة المستقبل وجعل حركة الحياة الدائبة مدعاة للتفكير والتأمل الذاتي، وكذلك إلى التفكير الجماعي الذي يجعل من الوعي أساساً محورياً لنشر ثقافات جديدة تتجه بعين ثاقبة نحو حياة أفضل للأجيال القادمة.

 

عصام الياسري

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2014