أبو زيد يدعو إلى قبول تحدي الحداثة

تسلم المفكر نصر حامد أبو زيد في برلين جائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر لجهوده في إصلاح الفكر الديني. أبو زيد المقيم في منفاه الاضطراري أكد على الحاجة إلى الديموقراطية وحرية الفرد.

ابن رشد المفكر الإسلامي العقلاني الذي عاش في الأندلس منذ عشرة قرون، اضطهده الفقهاء المتحالفون مع السلطة السياسية، وانتهي أمره بمنشور أصدره الخليفة المنصور يحرم الفلسفة، ويأمر بحرق كتبه، وطرده من الأندلس.

أما المفكر والباحث المصري ابو زيد(المولود عام 1943) فقد حرم من حقه في نيل درجة الأستاذية في الجامعة التي كان يُدرس فيها، جامعة القاهرة، بسبب تقرير يتهمه بالكفر والإلحاد بسبب أفكاره حول النص القرآني.

وانتهى الأمر برفع دعوى من قبل محامين اسلاميين للتفريق بينه وبين زوجته بدعوى ارتداده عن الدين، حتى صدر عام 1996 حكما بالتفريق، ومن يومها والمفكر يعيش مع زوجته في منفاهما الاضطراري في هولندا.

دعم الفكر الحر

ومنحت المؤسسة التي تحمل اسم الفيلسوف ابن رشد نصر حامد أبو زيد جائزة حرية الفكر لجهوده العلمية في الإصلاح الديني والتقريب بين الحداثة والفكر الديني الاسلامي. ومؤسسة ابن رشد التي تتخذ من برلين مقرا لها هي مؤسسة مستقلة أنشأها عرب عام 1998 بمناسبة مرور 800 عام على وفاة الفيلسوف ابن رشد.

ولا تقع المؤسسة تحت تأثير أيّة حكومة أو سُلطة دينية كما يقول بيانها، وتهدف إلى الارتقاء بالفكر العربي وتحقيق مبادئ الحرية والعدل الإجتماعي. تمنح المؤسسة التي تمول عن طريق تبرعات الأعضاء والأصدقاء جائزة سنوية رمزية قيمتها 2500 يورو (3000 دولار) تقدم لأحد الأفراد أو الهيئات التي يسهم عملها في تعزيز حرية الفكر. منحت الجائزة في الأعوام الماضية إلى الروائي صنع لله ابراهيم والمفكر محمد اركون والسياسي عزمي بشارة وقناة الجزيرة الفضائية.

مفهوم النص

اقيم حفل توزيع الجائزة في مبنى معهد جوته في برلين، وحضره السفير المصري ولفيف من الإعلاميين والصحافيين. بدأ الحفل بكلمة ممثل مؤسسة ابن رشد رحب فيها بالحضور، تلتها كلمة الدكتورة روتراود فيلاند البروفسورة في جامعة بامبرغ، تتبعت فيها رحلة ابو زيد الفكرية منذ بداياته كعامل لاسلكي حتى اعتلائه اليوم كرسي "ابن رشد" في جامعة الإنسانيات بمدينة أوترخت الهولندية.

واقتربت الدكتورة فيلاند في كلمتها من المحور الأساسي في فكر ابو زيد وهو موضوع العلاقة بين النص القرآني والمتلقي، وهو المحور الذي تفرع عنه العديد من الاهتمامات البحثية.

وأشادت فيلاند بالتلاقح الفكري الذي يميز أعمال ابو زيد، فبجانب تمكنه الكامل من مناهج التفكير الإسلامي يتعامل ابو زيد برحابة صدر مع النظريات الغربية. وأوضحت فيلاند أن مفهوم ابو زيد للنص، المبني على إنجازات يوري لوتمان الأدبية وكلود شانون العلمية، ينطلق من أن القرآن علميا نص في الدرجة الأولى، لهذا تنطبق عليه حسب رأيه نفس القوانين التي تنطبق على أي نص آخر.

وحسب هذا النموذج يجب أن نفهم النص قياسا إلى استقبال مرسلات إذاعية مكتوبة بالشفرة: لكي يفهم المتلقي النص القادم إليه، يجب على المرسل أن يرسل النص بشفرة يعرفها المتلقي. والنص القرآني المنزل بالوحي هو بمثابة إرسال لغوي من الله إلى البشر.

ولكن اللغة تستخلص معانيها الدقيقة أساسا من الأعراف والتقاليد البشرية التي تعكس الأفق الحضاري والتاريخي لمحيط الناطقين بها. بهذا يتضح أن حتى الله كان لا بد أن يستخدم شفرة اللغة والحضارة الخاصة بالمتلقين الأوائل لرسالة النبي.

وبما أن لغة وتصورات الناس في أواخر القرن العشرين تختلف جذريا عن لغة وتصورات المسلمين الأوائل فإن من واجب المفسريين الحاليين ترجمة ما يريد الله أن يعبر عنه في القرآن وذلك من شفرة لغة وحضارة تلك الفترة الماضية إلى لغة ومستوى فكر قارئي القرآن ومستمعيه اليوم.

تحرير الماضي بدلا من عبادته

وفي كلمته أمام الحفل وضع ابو زيد أعماله الفكرية في سياقها التاريخي الواسع، فهي محاولة للاقتراب من تخوم السؤال المحبط والمكبوت منذ القرن الثالث الهجري(التاسع ميلادي)، حيث قامت السلطة السياسية ممثلة بالخليفة العباسي المتوكل بحسم نقاش فكري هام حول "خلق القرآن” بالقوة، فقمعت رأي المعتزلة واضطهدت شيوخهم، وصارت عقيدة "القرآن الأزلي القديم” هي العقيدة الوحيدة المقبولة.

ومن يومها وباب النقاش الفكري في شؤون الدين مغلق. لذلك يرى ابو زيد ان تجديد الخطاب الديني لا يمكن أن يكون ناجزا إذا ظل التعامل مع النصوص التأسيسية، القرآن والسنة، ينطلق من نفس الأسس اللاهوتية التي استقرت منذ القرن الثالث الهجري، فبدون استعادة السؤال المكبوت حول طبيعة كلام الله سيظل التأويل أداة لقراءة الحداثة في النصوص لا لفهم النصوص في ذاتها.

ووفقا لأبي زيد فإن التمييز بين التاريخي والأزلي في النص سيجعلنا ندرك فحوى كلام الله ودلالاته. فعندها سنكتشف مثلا ان الحدود العقابية من قطع يد السارق وجلد الزاني...الخ هي قيم سابقة على القرآن، فالأزلي في القرآن هو تحقيق العدل بالعقاب، أما شكل العقاب فهو التاريخي، وسندرك اننا لا يصح ان ننحاز للتاريخي على حساب الأزلي.

الحرية ضرورة لقبول تحدي الحداثة

اكد ابو زيد على حاجة مجتمعاتنا للديموقراطية، وجوهرها الحرية الفردية. ففي مناخ ديموقراطي يحمي حرية الفرد وحقه في الاختيار يمكن الحديث عن حرية البحث العلمي والدرس الأكاديمي. عندها يمكن أن تظهر مدارس تبحث في الأديان وتاريخها ولاهوتها ومناهج تفسيرها، وهو أمر يختلف جوهريا عن مؤسسات تعليم الأديان وكيفية ممارسة شعائرها.

ثم دعا إلى قبول تحدي الحداثة، المتمثل في مواجهة ومحاورة نظريات علمية غربية او اكتشافات حديثة تحمل أفكارا تصطدم مع أفكارنا، بدلا من سلوك النعامة الذي نصر عليه دوما. وضرب مثلا بكتاب المستشرق الألماني نولدكه "تاريخ القرآن" الذي منع في لبنان مؤخرا رغم كتابته في القرن التاسع عشر. وأضاف عندما نفهم تراثنا فهما نقديا سنستطيع ان نمتلكه ونبني عليه الجديد، بدل ان يكون تراثنا عبئا علينا كما هو الحال الآن.

وفي نهاية كلمته أعلن ابو زيد تبرعه بالقيمة المادية للجائزة إلى مؤسسة ابن رشد، كتحية لها على الدور الذي اخذته على عاتقها.

حقوق الطبع دويتشه فيلله 2005

قنطرة

الإيمان بقوة الحوار
يرى الدكتور نصر حامد أبو زيد، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة لايدن بهولندا، ضرورة إحياء الحوار مع العالم الإسلامي، وأن يشمل هذا الحوار أيضا تيار الإسلام السياسي المعتدل و"الأغلبية الساحقة" من المسلمين.