احتجاجات باكستان...انتفاضة شعبية أم ثورة مصطنعة؟

بات رجل الدين طاهر القادري أمل أبناء الطبقة الوسطى في باكستان بفضل "المليونية" التي دعا إليها لمكافحة الفساد. ورغم أنَّ هذا الاحتجاج لم يحقِّق الكثير، لكنه يُظهِر استياء المواطنين وقلة ثقتهم في الأحزاب السياسية الرئيسية، كما يرينا ماركوس ميشائيلسن.

الكاتبة ، الكاتب: Marcus Michaelsen

هل كان هذا كلّ شيء؟ هذا هو التساؤل الذي طرحه المتظاهرون، بعد أن تحدى عشرات الآلاف منهم برد الشتاء القارس في منتصف شهر كانون الثاني/ يناير 2013 وخرجوا لعدة أيام في العاصمة الباكستانية للتظاهر ضدّ الفساد والمطالبة بتغييرات سياسة، اِستجابة ً منهم لدعوة رجل الدين الباكستاني طاهر القادري الذي وعدهم بأن يكون لهم، في إشارة إلى الثورة المصرية، ميدان تحريرهم الخاص بهم.

ولكن هذا التساؤل عما حدث يشغل من دون شكّ عددًا أكبر من الباكستانيين. فقد عاد قبل فترة قصيرة من خارج البلاد الداعية طاهر القادري الذي أطلق حملة إعلامية كبيرة، استطاع من خلالها حشد عدد كبير من الأتباع، وحتى الآن لم يُعرَف من الذي يقف خلف نشاطاته ويقوم بتمويلها. ولكن طاهر القادري أنهى مسيرة هذه الاحتجاجات مثلما بدأها بسرعة من خلال اتفاق مع الحكومة: لم يحدِّد إلا أكثر بقليل من البرنامج المحدد مسبقاً حتى موعد إجراء الانتخابات في البلاد في فصل الربيع.

ويمثِّل رجل الدين طاهر القادري الذي يبلغ عمره واحدًا وستين عامًا تيارًا سنّيًا ينتشر في باكستان وتؤثِّر فيه الطرق الصوفية. ويتناقض هذا التيار مع تفسير الإسلام المتشدِّد المنتشر في المملكة العربية السعودية والذي غالبًا ما يحدِّد عناوين الصحف في داخل باكستان وفي الصحافة العالمية. يقيم طاهر القادري في كندا منذ عام 2006 كما يترأس منظمة للحوار بين الأديان والتعليم. وفي شهر آذار/مارس 2010 أثار طاهر القادري بإصداره فتوى ضدّ الإرهاب اهتمام وسائل الإعلام الغربية.

أنصار طاهر القادري في إسلام أباد. أ ب
انتفاضة على حكام باكستان المستبدين أم "ثورة مصطنعة" - صحيح أنَّ عدد المتظاهرين الذين استجابوا لدعوة طاهر القادري لم يبلغ المليون، ولكن إسلام أباد شهدت واحدة من أكبر المظاهرات التي لم تشهد مثلها منذ عدة عقود.

​​

وفي حملته السياسية شنّ هذا الخطيب الموهوب هجومًا على الفساد المستشري في البلاد وانتشار ظاهرة التهرّب الضريبي بين السياسيين في باكستان. وطالب كذلك بإجراء انتخابات جديدة فورية بالإضافة إلى إخضاع جميع المرشَّحين إلى تدقيق مسبق. وقد وجدت مطالبه هذه آذانًا صاغية وأدَّت إلى خروج مظاهرة في مدينة لاهور في الثالث والعشرين من كانون الأوَّل/ ديسمبر 2012، شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين. صحيح أنَّ عدد المتظاهرين في إسلام آباد لم يبلغ المليون، ولكن العاصمة الباكستانية شهدت إحدى أكبر المظاهرات التي لم تشهد مثلها منذ عدة عقود.

حكومة سيئة السمعة

ويحمِّل الباكستانيون قبل كلِّ شيء الحكومة الحالية برئاسة الرئيس آصف زرداري المسؤولية عن الأوضاع المزرية في البلاد: من تضخّم وارتفاع أسعار المواد الغذائية وانقطاع الكهرباء بشكل يومي وكذلك نقص إمدادات الغاز. ويضاف إلى ذلك ممارسة أعمال العنف ضدّ الأقليَّات الدينية والعرقية، وكذلك المعارك المستمرة التي تشنها الجماعات الإسلاموية المسلحة في المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان.

وبحسب استطلاع أجراه في شهر أيَّار/مايو 2012 مركز بيو للأبحاث في واشنطن فإنَّ نسبة الذين قيَّموا دور الحكومة على أنَّه إيجابي لم تتجاوز 24 في المئة من الباكستانيين المستطلعة آراؤهم.

ولكن مع ذلك كان الجانب الإشكالي في المطلب الرئيسي الذي دعا إليه طاهر القادري أنَّ الانتخابات قد تقرَّر إجراؤها على أية حال في هذا العام. ووفق الدستور يتعيَّن إذا تم تحديد موعد الانتخابات أن يتم حلّ الحكومة قبل هذا الموعد وتشكيل حكومة انتقالية مقبولة من جميع الأطراف. وعلى الرغم من ضعف رصيدها إلاَّ أنَّ حكومة زرداري المنتخبة في عام 2008 ستكون أوَّل حكومة في تاريخ باكستان الممتد لخمسة وستين عامًا تنتهي فترة ولايتها كاملة بانتخابات عادية.

غالبًا ما كانت تقوم المؤسَّسة العسكرية المتمكِّنة في باكستان بعزل الحكومات المدنية من منصبها: إمَّا من خلال الانقلابات العسكرية المباشرة أو كذلك من خلال استبدالها بعملاء تسيطر عليهم مثل الدمى. ولذلك فقد قرع القادري ناقوس الخطر في تصريحه الذي قال فيه إنَّه لا توجد في باكستان سوى مؤسَّستين تستحقان الاحترام: أي الجيش والقضاء - وكلاهما من معارضي الحكومة. وبهذا، أثار تصريحه المخاوف من وقوف الجيش وراء هذه الاحتجاجات المنظَّمة أحسن تنظيم ومن محاولته تنصيب عملائه في حكومة مؤقتة.

وكذلك تبدو مذكرة الاعتقال التي أصدرها القضاء بحقِّ رئيس الوزراء رجا برويز أشرف على خلفية الاشتباه بتورطه في قضايا فساد كإجراء مبيَّت. ولم ينتشر خبر إصدار مذكرة الاعتقال هذه إلاَّ عندما كان القادري يوبِّخ الحكومة أمام أنصاره. أضف إلى ذلك أنَّ كبير القضاة يخوض حربًا مريرة بالوكالة ضدّ الرئيس زرداري. وفي العام الماضي اضطر رئيس الوزراء جيلاني إلى التنحي على خلفية قضية تم رفعها ضدّه.

وفي آخر المطاف أنهى موقف الأحزاب السياسية مسيرة الاحتجاجات. وأصرّ جميع ممثِّلي الأطياف السياسية في البلاد وبالإجماع على إجراء الانتخابات بشكل قانوني. وانتقدوا في الوقت نفسه سلوك طاهر القادري معتبرين أنه غير ديمقراطي. وأخيرًا اتَّفق ممثِّلو الحكومة مع رجل الدين طاهر القادري على إصدار بيان مشترك وخاصة من أجل تقديم مخرج معتبر له وتفكيك حشود المتظاهرين بشكل سلمي.

احتجاجات على الحكومة الباكستانية في إسلام أباد. دويتشه فيله
احتجاج على التضخّم وارتفاع أسعار المواد الغذائية والفقر - يرفع هؤلاء المتظاهرون في إسلام أباد لافتات كتب عليها: "شكرًا للحكومة، لا توجد لدينا لا كهرباء ولا ماء".

​​إجراءات مبيَّتة؟

تم التفاوض على خمس نقاط، ولكنها لم تكن ثورية. ومن المفترض أن يتم حلّ البرلمان حتى موعد أقصاه: السادس عشر من شهر آذار/ مارس 2013، بحيث يتسنى إجراء الانتخابات في بداية شهر أيَّار/ مايو 2013. وما من شكّ في أنَّ حقِّ المشاركة في الرأي الذي اشترطه طاهر القادري عند تشكيل الحكومة الانتقالية، يشكِّل نجاحًا بالنسبة لهذا الزعيم المعارض والمرشَّح حديثًا والذي لا يتمتَّع حتى بتمثيل في البرلمان.

وعلى الفور أدَّى هذا الانسجام المفاجئ بين الحكومة ورجل الدين طاهر القادري إلى خلق موجة جديدة من التكهنات في وسائل الإعلام الباكستانية التي تساءلت عما إذا كان هناك اتِّفاق منذ البداية على كلِّ شيء؟ لقد خرجت الحكومة سالمة من هذه "الثورة" المصطنعة واختارت رجلاً من المفترض أنَّه يمثِّل إرادة الشارع، وعلى ما يبدو فإنه لا توجد في هياكل السلطة الباكستانية غير الشفافة أسخف من هذه المؤامرة.

لكن ورغم ذلك تُظهر هذه الأحداث وبكلِّ وضوح ارتفاع مستويات السخط الذي يشعر به المواطنون. ويبدو أنَّ الكثير من المتظاهرين جاءوا من المحافظات والأرياف وأنَّهم من أبناء الطبقة الوسطى الدنيا. وهذه الأزمة تقوِّض الجهود التي يبذلها هؤلاء الأشخاص من أجل رفع مستوى معيشتهم.

كذلك هناك مجموعة من القنوات التلفزيونية الخاصة التي تطلعهم كلَّ يوم في تغطية إعلامية تقطع الأنفاس على الأحوال المتردية في البلاد. زد على ذلك أنَّ الهجمات التي لا تعارضها الحكومة والجيش الباكستانيان وتشنها الطائرات الأمريكية بدون طيار على من تصفهم الولايات المتَّحدة الأمريكية بالإرهابيين في المنطقة الحدودية تجرح شعور السيادة الوطنية لدى الكثير من الباكستانيين.

مُنقِذ من خارج الطبقة السياسية

يشكِّل كلّ من الإحباط السياسي ونقص الآفاق بالإضافة إلى جرح شعور الاعتزاز بالوطن مزيجًا قابلاً للانفجار ومن الممكن استغلاله بسهولة. ولا يتَّضح ذلك فقط في خروج الجماهير الغاضبة على الفيلم المسيء للنبي محمد في شهر أيلول/ سبتمبر 2012. وكذلك يعود سبب نجاح بعض الشخصيات مثل طاهر القادري، الذي يقدِّم نفسه على أنَّه منقذ يعمل خارج الطبقات السياسية، إلى مثل هذا الشعور بالإحباط أيضًا.

وكذلك يريد لاعب الكريكيت السابق عمران خان ومن موقعه في رئاسة "حركة العدل" محاربة الفساد وهو يلعب أيضًا على الأوتار القومية. لقد عمل عمران خان طيلة عدة أعوام على بناء هذه الحركة وأصبح منافسًا جديرًا بالملاحظة للأحزاب الباكستانية التقليدية.

ويعتمد عمران خان من خلال الحملة الإعلامية التي يطلقها عبر وسائل الإعلام الاجتماعية ومن خلال ظهوره بمظهر نجوم الحفلات الموسيقية على عامل سوف يكون له من دون ريب وزن كبير في الانتخابات المقبلة؛ أي على الشباب الباكستاني.

إذ يشكِّل الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 عامًا نحو نصف الناخبين المسجلين الذين يبلغ عددهم 85 مليون ناخب، كما أنَّ الكثيرين منهم يدلون بأصواتهم للمرة الأولى في حياتهم. فهل سيتمكَّنون من كسر هياكل الولاءات السياسية التقليدية التي غالبًا ما تعتمد على المحسوبية والمحاباة؟

وبعيدًا عن الشعوبية وسياسة الغُرَف الخفية فإنَّ شرعية الحكومة المستقبلية - وبالتالي أيضًا مسيرة تطوّر الديمقراطية في باكستان - تعتمد قبل كلِّ شيء على تمكّن الأحزاب والسياسيين من التعامل بمصداقية مع آمال الناخبين الشباب وهمومهم.

 

ماركوس ميشائيلسن
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013