حين يُنصَح أعداء الإسلام بتعلم التسامح من كُتيِّب نازي

لو لم يكن مؤلف كتيِّب "توجيهات مسلكية للجيش الألماني في الدول الإسلامية" هو الدكتور إرنست رودنفالدْت الضابط الطبيب العامل في الطاقم الطبي العسكري الذي ثبت قربه من النازيين، لكان من شأن الأوساط الناقدة للإسلام في ألمانيا أن تعتبره بالتأكيد من أتباع "نشر الأصولية الإسلامية"، كما يَرِد في ملاحظات شتيفان فايدنر التالية التي ينتقد فيها طيش العدائية للإسلام في الزمن الراهن.

الكاتبة ، الكاتب: Stefan Weidner

ثمة اعتقاد راسخ بأنَّ تسمية النازيين الجدد تعود إلى أنَّ هؤلاء يَعتبرون النازيين مرجعيتهم. وكثيرًا ما جرى اتهام خصوم الإسلام وصولاً إلى زاراتسين بأنهم يستخدمون صورًا نمطيةً تتقاطع مع فكر الريخ الألماني الثالث النازي.

معروفٌ أنَّ ألمانيا النازية بحثت عن حلفاءٍ لها في العالم الإسلامي على غرار الامبراطورية الألمانية التي سبقتها. أما ماهية الصورة التي قدَّمها النازيون في ألمانيا عن الإسلام فقد صارت في طي النسيان.

لنلقي من أجل التوضيح نظرةً على المنشور التعبوي "كتيَّب توجيهي للجنود صادر عن القيادة العليا للقوات المسلحة، القسم الداخلي" الذي حمل عنوان "الإسلام" وصدر عام 1941 (كتب على المغلف الأخضر: "لا تحتفظ بالمنشور، بل أعطه لغيرك ليقرأه").

"لقاء يتسم بالتسامح والحلم"

استطعتُ الحصول على الكتيِّب ذي الأربع وستين صفحة لقاء يورو واحد ونصف في إحدى محلات بيع الكتب القديمة في مدينة كيل شمال ألمانيا. الجزء الأخير من الكتيِّب يتحدث عن " مبادئ توجيهية مسلكية للأوروبيين في البلدان المحمدية [الإسلامية]". من يقرأ هذا الجزء يخال أنَّ المؤلف هو عالم اللاهوت هانس كوِنغ. تبدأ التوجيهات كما يلي:

1. أَدرِكْ دائمًا أنَّ الإسلام دينٌ رفيع المكانة وليس أقلَّ شأنًا من المسيحية في مفهومه لله.

2. لذا عليك مقابلة المسلم بالتسامح والحلم نفسيهما اللذين ينبغي دائمًا أنْ يُقَابِل بهما المسيحيون من مختلف الطوائف بعضهم بعضًا.

الاستنتاج الأول المحيِّر للغاية هو: إنَّ من شأن هذه التوجيهات أنْ تُعطَى حتى يومنا هذا لكل سائحٍ أو لكل جنديٍ أجنبيٍ في أفغانستان. ولكن من الواضح أنَّ هذه القواعد وُضعت من أجل التعامل مع المسلمين في بلدانٍ محتلة، فما الحذر والاحترام إلا من دواعي الحكمة العسكرية ليس إلا (والجلي أنهما لم يُعتمدا في أوروبا الشرقية على أضعف تقدير).

رسوم أعدّها متطرفون يمينيون تنادي بعدم بناء المساجد في ألمانيا. د ب أ
"إنَّ عدم توفير كتابات إرنست رودنفالدت بالذات في وصفه للإسلام لأية نقاط تقاطع ولأية إمكانيات يمكن الاستناد إليها بأي شكل من الأشكال من قبل الحركة المعادية للإسلام اليوم، بل توفيرها بالأحرى لخصومهم، تشير إلى مدى طيش المواقف الراهنة المعادية للإسلام وإلى مدى خلوها من تجارب الحياة" حسبما يقول فايدنر.

​​كيفية وَصْف الإسلام بحد ذاته جديرةٌ بالاهتمام أكثر بالنسبة لموضوعنا، حيث نقرأ من البداية وفي التمهيد ما يصعب على الكثيرين الإقرار به حتى يومنا هذا، ألا وهو أنَّ الإسلام متعدد: "بالرغم من كل القواسم المشتركة في أسس العقيدة، تظهر اختلافات جوهرية في التجليات الخارجية داخل الإسلام وفي المناطق المختلفة".

والدهشة تزداد، إذ يجري على الصفحات التالية تفنيد الأحكام المسبقة عن الإسلام حكمًا تلو الآخر. وكل ما يوجد في الكتيِّب تقريبًا يصلح لأنْ يكون اليوم حجةً ضد الحركة المعادية للإسلام في ألمانيا، سواء أكانت مسيحية أو قومية يمينية.

"لذلك يكون التصوّر الذي تعلمناه ذات مرة في دروس التاريخ والقائل بأنَّ العرب والأتراك قد نشروا الإسلام ٰبالحديد والنارٰ خاطئ للغاية. [...] هذا الخطأ التاريخي ربما من شأنه أن يكون سيّان بالنسبة لموقفنا ونحن في البلدان الإسلامية، شريطة أنْ لا نرى تحت وقع هذا الإيهام في كل مسلم عدونا الطبيعي". تعبير جميل للغاية، لكن هذا الإيهام بالذات ينتشر على نطاق واسع بين أتباع الحركات المعادية للإسلام.

إنَّ وجود هذا الكم الكبير من المواقف في ذلك المنشور التعبوي المبنيَّة على الموضوعية والدقة في التوصيف على الجانب النفسي حتى من المنظور الحالي، يدفع تقريبًا إلى الشعور بنوعٍ من عدم الارتياح. ويبدو أنَّ نظرة النازيين الأيديولوجية إلى العالم قد ألغيت على حين غرة فقط لأنها لم تعتبر الإسلام بمثابة خصمٍ لها.

تفنيد الصيغ النمطية المتعلقة بالنبي

كما يرُدّ المؤلف بشكلٍ حاسمٍ على إحدى أقدم الصيغ النمطية المعادية للإسلام والتي تـُصوِّر النبي محمد على أنه مريضٌ نفسيًا ومحتالٌ حيث يكتب: "هذا الافتراض باطل، فالأمر هنا مرتبط بسياسي طَموح أراد بتأسيسه دينٍ جديدٍ أنْ يُشكِّل أداةً توصله إلى السلطة [...]. لا يمكن الحديث هنا عن احتيالٍ أو كذبٍ ولا عن تزويرٍ أو خداعٍ للذات". هل ينبغي لنا أنْ نتمنى لخصوم الإسلام التعلـُّم من كتيِّبٍ تعبويٍ نازي؟

لو لم يكن المؤلف هو الضابط الطبيب في الطاقم الطبي العسكري الدكتور إرنست رودنفالدت الذي ثبت قربه من النازيين لكان من شأن الأوساط الناقدة للإسلام في ألمانيا أنْ تعتبره بالتأكيد من أتباع "نشر الأصولية الإسلامية". (هنالك أطروحة عن تاريخ الطب أعدتها مانويلا كيمينوس في جامعة هايدلبرغ تتناول المزيد من التفاصيل عن حياة رودنفالدت).

يصف رودنفالدت بالتفصيل "مدى القدر الفائق من التسامح واللباقة الواجبين تجاه المسلم المختلف بالرأي". الغريب في أمر المؤلف على الرغم من موقفه غير النقدي إزاء النظام النازي، اعتباره التسامح والكياسة قيمًا تشرِّف الشخص الذي يمثلها ويتعامل بها.

أمْ هل أراد القول بأنَّ اللباقة والتسامح تجاه أصحاب الرأي المختلف لا يتوجب إلا إذا تعلَّق الأمر بالمسلم فقط؟ بالفعل يذكر في نهاية الفصل الذي يتناول الشريعة التالي: "بالنسبة لكثيرٍ من العلاقات الإنسانية تتيح هذه المفاهيم التسامحَ بين الإنسان والآخر سواء كان ذلك في السلوك الدنيوي أو الديني، بيد أنه يصعب تطبيقها من قِبَلِ إنسانٍ ترعرع على الفكر الغربي".

مواءمةً مع الأفكار الغربية

يتم تناول هذه الفكرة في الدراسات الإسلامية من جديد، فتوماس باور على سبيل المثال يفسِّر التصلُّب العقائدي لدى التيارات الإسلامية باعتباره مواءمة مع الأفكار الغربية.

الطبيب إرنست رودنفالدْت. Wikimedia
في خدمة النازيين: كان إرنست رودنفالدت من أشهر الأطباء الألمان المتخصصين بأمراض المناطق الاستوائية، وكان قد عمل قبل الحرب في مناطق آسيوية وإفريقية. وقد استفاد من تصورات النقاء العرقي لدى النازيين في العديد من أبحاثه.

​​يكاد القارئ يخال أنَّ هذا النص نوعٌ من حادثٍ تعبوي طارئ. والواضح أنَّ كتابة هذه النشرة قد تمت ضمن وعي يقول بأحقية ألمانيا بالسيطرة وبتفوق الحضارة الأوروبية.

يشير رودنفالدت في سياق التذكير بحركات التمرّد السودانية ضد البريطانيين في عام 1880 إلى أنها مهدِّدَة "للسيطرة الأوروبية في الشرق" – ولا يخفي أبدًا حقيقة قيام هذه السيطرة وفي الرغبة بوجودها، ولكنه يحصر التهديد هنا فقط بفكرة "المهدي"، القائد الثوري والمنقذ، الفكرة التي "تحمل في طيّاتها إمكانية اندلاع انفجارات سياسية دينية لم يجرِ إبطالها أبدًا وربما لن تكون هناك قدرة على إبطالها أبدًا".

يظهر في تفكير المؤلف في مواضع أخرى تداخلٌ بأفكار ما يسمى اليوم تعدد الثقافات التي تتعرض لوابل من النقد من قِبَلِ أنصار صدام الحضارات، فعلى سبيل المثال لا يخطر بباله أن يسعى إلى تحسين الإسلام أو المسلمين، ويتضح هذا عندما يشرح وضع المرأة المسلمة الراهن، حيث يحدد بشكلٍ مكشوفٍ وبدون أنْ ينتقد الوقائع "مدى تدني تقييم المرأة مقارنة بالرجل".

التصرُّف بشكل صحيح نظرًا لهذا الوضع فقط مهمٌ بالنسبة له. إذ جاء في المبدأ التوجيهي رقم أربعة عشر: "إذا كنت مضطرًا للحصول على معلومة وأنت أمام بيت مسلم، فعليك قرع الجرس أو دقِّ الباب، ولكن عليك بعد ذلك أن تدير ظهرك للباب، لكي لا ترى المرأة التي قد تفتحه". إذًا مهما كانت نوايا ألمانيا النازية في الشرق – إلا أنها لم تكن تسعى لتحسين حالة المرأة الشرقية.

لا يوجد مبرر لتحقير عام

كان إرنست رودنفالدت من أشهر الأطباء الألمان المتخصصين بأمراض المناطق الاستوائية، وكان قد عمل قبل الحرب في مناطق آسيوية وإفريقية. وقد استفاد من تصورات النقاء العرقي لدى النازيين في العديد من أبحاثه.

إنَّ عدم توفير كتابات إرنست رودنفالدت بالذات في وصفه للإسلام لأية نقاط تقاطع ولأية إمكانيات يمكن الاستناد إليها بأي شكل من الأشكال من قبل الحركة المعادية للإسلام اليوم، بل توفيرها بالأحرى لخصومهم، تشير إلى مدى طيش المواقف الراهنة المعادية للإسلام وإلى مدى خلوها من تجارب الحياة. وقد كانت للمؤلف خبرة عملية، كما عاش بوصفه طبيبًا بين المسلمين. وبقدر ما كان يعتقد بتفوّق حضارته، إلا أنه لم يرَ مبررًا لتحقيرٍ عام.

توفى إرنست رودنفالدت عام 1965 عن عمرٍ يناهز سبعة وثمانين عامًا ولم يكن له أنْ يتوقع صعود الإسلام السياسي ولا هجرة المسلمين إلى ألمانيا.

وربما ما كان ليعجبه كلا الأمرين كما توحي لنا سيرته الذاتية أو كتاباته حول النقاء العرقي، وربما كانت ستكون له تحفظات وراثية بيولوجية مشابهة إزاء الهجرة، كتلك التي ظهرت لدى زاراتسين. ولكن هذا لا يغيِّر شيئًا في حقيقة أنَّ النازيين الجدد ومنتقدي الإسلام لا يستطيعون في رفضهم للإسلام حتى الاستناد إلى هذا النازي.

 

 

شتيفان فايدنر
ترجمة: يوسف حجازي
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013

صدر لشتيفان فايدنر مؤخراً كتاب يضم مجموعة من المقالات حمل عنوان: الانطلاق نحو العقلانية. نقاشات حول الإسلام والعالم الإسلامي ما بين الحادي عشر من أيلول/سبتمبر والثورات العربية.