محاولات سيطرة الدولة وخطوط حمراء

تم قبل قرابة 20 عاما تأسيس أول منظمات غير حكومية مستقلة في شمال أفريقيا. وقد نجحت في إبراز نفسها كأصوات معبرة عن مجتمع مدني قائم على التعددية. على الرغم من ذلك فإنها ما زالت -لا سيما في تونس- تعاني من قيود عديدة. تقرير بيآت شتاوفر

ناشطة من أجل حقوق الإنسان،
لا يتوقع ممثلو المجتمع المدني التونسي من مؤتمر المعلومات العالمي الذي عقد في تونس في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني إلا القليل.

​​تم قبل قرابة 20 عاما تأسيس أول منظمات غير حكومية مستقلة في شمال أفريقيا. وقد نجحت منذ ذلك الحين في إبراز نفسها في العديد من المجالات كأصوات معبرة عن مجتمع مدني قائم على التعددية. على الرغم من ذلك فإنها ما زالت -لا سيما في تونس- تعاني من قيود عديدة. تقرير بيآت شتاوفر

حدث ذلك في أحد مراكز المؤتمرات في جنيف في ربيع هذا العام. لاحظ موفد تونسي يعمل أستاذا جامعيا كما أنه ناشط في إحدى المنظمات المستقلة غير الحكومية بأن شابا كان يعمد طيلة الوقت إلى التصوير وتسجيل المداخلات الجارية.

وكان يرتدى ملابس تنم عن احتمال كونه من المنتميين لنقاد العولمة. سأله الأستاذ الجامعي مباشرة عما يفعل فرد عليه بمزيج من الاقتضاب والغضب قائلا: "لا تتدخل في شأني. إنني أقوم بتأدية مهمتي لا أكثر". وهنا أصبح الأستاذ على قناعة بأن هذا الشاب عميل ينال من إحدى جهات الدولة وأقحم نفسه مشاركا بالمؤتمر.

تغلغل بطريقة منهجية

كل من شاء التعرف على مدى قدرة المنظمات غير الحكومية على ممارسة نشاطها في تونس يسمع غالبا مثل هذه الواقعة. بعض هذه الوقائع ليست بسيطة مثل واقعة ذلك الشاب الذي "تقمص" صفة منتقد العولمة.

وأشد اتهام موجه لتونس فحواه أنها أسست آلاف الاتحادات "المصطنعة" بهدف وحيد هو مكافحة المنظمات الأصلية الحقيقية وبصورة خاصة الادعاء أمام المؤتمرات الدولية بأن تلك المنظمات تفتقد إلى الشرعية.

تقول آسيا بلحسن الناطقة باسم الاتحاد التونسي للنساء الديموقراطيات "يوجد بين المنظمات غير الحكومية الموجودة رسميا في تونس والبالغ مجموعها أكثر من 9400 منظمة سبع منظمات مستقلة حقيقة فقط ".

وتضيف بأن كافة المنظمات الأخرى أنشأتها السلطات نفسها ولا تملك قواعد شعبية، أما المنظمات المستقلة فإنها تواجه صعوبات جمة وبعضها لا يسمح لها حتى في عقد اجتماعها السنوي، كما أن كلها عرضة لاستراتيجية التغلغل من قبل الحزب الحاكم الذي بقي حتى اليوم يملك نفوذا شبه مطلق.

والمعروف أن العملاء الذين ينالون أجور عملهم من الدولة يحاولون الالتحاق بالمنظمات المستقلة بأعداد كبيرة وحيازة الأغلبية في أجهزتها القيادية لكي يغيروا الخط الذي تنتهجه المنظمة المعنية بما يتناسب مع تعليمات السلطات.

لقد تعرضت المنظمة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان LTDH وهي أقدم منظمة من هذا النوع في كل شمال أفريقيا هي أيضا لمحاولات ابتلاعها على هذا النحو. لكن هذه الاستراتيجية كثيرا ما باءت بالفشل نظرا لأن المنظمات المستقلة تعي هذه الأخطار جيدا وتتخذ بالتالي إجراءات مضادة.

فرض قيود مالية

من ناحية أخرى تملك الدولة في تونس وسائل وآليات أخرى لعرقلة أعمال المنظمات المستقلة غير الحكومية، فهي تمنع دوريا وصول المال إلى هذه المنظمات التونسية من منظمات دولية صديقة. كما أنها تحد من وسائل وصولها إلى الاستقلال المادية من خلال إقامة حفلات أو غيرها من سبل جمع التبرعات.

بالإضافة إلى ذلك تسعى سلطات الدولة إلى شل قدرات المنظمات المكروهة من إخلال إدخالها في محاكمات قضائية لا نهاية لها. يذكر عمر مستيري عضو رئاسة المجلس الوطني للحريات في تونس بأن تونس تفعل كل ما في وسعها "من أجل تجفيف مصادر المنظمات المستقلة وشغلها في المحاكمات القضائية بصورة مستديمة والتعتيم التام على نشاطها".

من المدهش أن قلة من المنظمات غير الحكومية والمستقلة حقيقة ما زالت تمارس نشاطها على الرغم من هذا الوضع العسير الذي أكد عليه كل الذين سئلوا بهذا الخصوص. ويبدو أن أنصار هذه المنظمات يتعاملون مع القاعدة القائلة " لن نسمح بتهميشنا".

فأساليب التنكيل اليومية قوت بناء على مقولة رئيس المنظمة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، طريفي، إرادة الناشطين في مواجهة هذا النظام الاستبدادي الحاكم. لكن البعض الآخر لا يشارك طريفي في هذه التفاؤل، إذ يقول أحد العاملين في الحقل الثقافي ممتنعا عن الإفصاح عن اسمه كحال الكثيرين غيره "المجتمع المدني التونسي يمر في حالة غيبوبة".

ملامح أولية للمجتمع المدني

الحال في الجزائر أفضل بعض الشيء، فعلى الرغم من أن المنظمات والاتحادات تواجه هي أيضا العديد من القيود مما يتطلب منها اللجوء كثيرا إلى حلول وسط لكي تصبح قادرة على العمل، إلا أنها بناء على الانطباع السائد ليست عرضة لنفس أنماط التنكيل البشع السائد في تونس المجاورة.

مع ذلك فإن الوضع في الجزائر أيضا لا يدعو إلى البهجة أبدا. ولو أغضينا النظر عن بعض الحالات الاستثنائية للاحظنا وفقا لمقولة الصحفية الجزائرية حفيظة عميار بأن المجتمع المدني هناك يمر في محض طور البداية.

وقد أوضحت عميار بأن هناك ثلاثة أنواع من المنظمات في الجزائر: أولا ما يسمى "المنظمات الجماهيرية" التي أنشئت في عهد الحزب الواحد على سبيل المثال "اتحاد النساء الجزائريات" . تشير عميار إلى أن هذه المنظمات ليست مستقلة بالمعني الحقيقي بل هي أداة في خدمة الحكام.

وتضيف عميار بأن النوع الثاني يشمل اتحادات محاربة أمراض السرطان وغيرها من المنظمات ذات الأهداف الشبيهة بذلك، وتقول إن هذه الاتحادات تعمل على نحو جيد وتنال في حالات كثيرة دعما سواء ماليا أو بأشكال أخرى أيضا من الدولة.

تنتقل عميار إلى النوع الثالث فتقول إن الحال يختلف هنا حيث أن المنظمات المعنية تحرص على أن تكون مستقلة عن أجهزة الدولة. وتضيف بأن الدولة لا تعترف رسميا بهذه المنظمات بل "تتقبل" وجودها لا أكثر.

هذه المنظمات تواجه العديد من الصعوبات كما أنها لا تتلقى أي دعم مالي من أجهزة الدولة. وقد راقبت عميار بأن الدوائر المقربة من الحكومة اتصلت ببعض هذه المنظمات ورشتها عبر الإعانات المالية وتدبير سفر أعضائها إلى الخارج وتقديم فرص العمل للعاملين فيها، مما جعلها تفقد استقلاليتها وتصبح منظمات غير حكومية اسما فقط لا فعلا، مما يتطلب اعتبارها محسوبة على النظام الحاكم اليوم.

قدرة أفضل على العمل في المغرب

ويتفق جميع المراقبين على أن المنظمات والاتحادات المستقلة في المغرب تتمتع اليوم بأكبر درجة من المقدرة على ممارسة نشاطها. على سبيل المثال كتبت الناشطة التونسية في حقل حقوق الإنسان سهام بن سدرين وزوجها عمر مستيري في كتابهما الصادر بعنوان " طغاة أمام أبواب أوروبا " أن المغرب تعتبر إقليميا أفضل دولة فيما يتعلق بنظام استبدادي يوفر لمنظمات غير الحكومية نوعا من من حرية ممارسة العمل".

وجاء في الكتاب بأن هناك مع ذلك "خطوطا حمراء" تحد من القدرة على العمل على نحو لا يقبل التأويل ولا يمكن بالتالي تخطيها.

رغم ذلك فإن لعدد كبير من المنظمات غير الحكومية في المغرب لاسيما المنظمات المعنية بشؤون المرأة والبربر وزنا بارزا. ولا يمكن أن نتصور الحياة الثقافية في هذا البلد بمعزل عن تلك المنظمات التي ازداد صوتها أهمية.

فلولا نشاط العديد من المنظمات التسوية المشبع بروح العزم والتصميم لما تم إصدار قانون العائلة والمرأة الجديد في نهاية 2003.

وبناء على تحليل إحدى المراقبات فقد توصل الملك إلى القناعة بأنه لا يمكن معالجة المشاكل المستعصية للمغرب على نحو فعال بما في ذلك إشكالية التخلف في العديد من المجالات إلا بمساعدة المجتمع المدني والمنظمات التابعة له.

من خلال هذا المنظور يتحمل المجتمع أحد جوانب المسؤولية ويتعزز مركزه في آن واحد. مصطلح "مواطن الدولة" الذي يطالب من جهة بحقوقه ويسعى من جهة أخرى إلى المساهمة في حل المشاكل الاجتماعية على نحو فعال هو بالنسبة للمغرب العربي بكامله مفهوم جديد أصبح يحل ولو ببطء محل مفهومي التعاطي السلبي والتبعية تجاه الدولة. وهكذا فإن طريق المغرب العربي نحو المجتمع المدني ما زال طويلا.

مجتمع مدني في ظل نظام ملكي

من سخريات القدر أن المجتمع المدني يترعرع على أحسن وجه في المغرب ذات النظام الملكي. وهذا يشكل للكثيرين من الناشطين التونسيين في المنظمات غير الحكومية حقيقة مرة.

يقول رئيس المنظمة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان،طريفي، "في الماضي كنا روادا في هذا المجال، وقد قمنا بمساعدة المغاربة في التسعينيات على تأسيس منظمات حقوق الإنسان لديهم " مضيفا بأن تونس تمر اليوم في هذا الصدد بحالة تراجع وسوف تحتاج عدة سنوات للتغلب على هذا الوضع.

لا يتوقع ممثلو المجتمع المدني التونسي من مؤتمر المعلومات العالمي الذي عقد في تونس في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني إلا القليل. وبعد فشل كل محاولات المنظمات غير الحكومية الرامية في المقام الأول إلى اكتساب بعض تنازلات من الأنظمة الحاكمة، فقد تحتم عليها أن تكتفي بتوفر منبر لها ولو لمدة زمنية قصيرة على الأقل، علما بأن هذا غير متوفر لها في نطاق عملها اليومي.

بيات شتاوفر
ترجمة عارف حجاج
صدر المقال في جريدة نويه تسورشر تسايتونغ
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2005

قنطرة

طغاة أمام أبواب أوروبا
يخلق الدعم الأوروبي الذي يناله طغاة يحكمون الضفة الأخرى للبحر المتوسط أحاسيس الكراهية والحيرة واليأس في نفوس شعوب تلك المنطقة. تلك هي الخلاصة التي وصل إليها كل من سهام بن سدرين وعمر مستيري في كتابها الصادر حديثا

حرية الصحافة في المغرب العربي
محمد المرابط، حمادي جبالي أو عبد الله علي السنوسي أمثلة لصحفيين مغاربيين يقبعون في السجون أو يلاحقون لأنهم تجاوزوا في عملهم الصحفي الخطوط الحمراء التي رسمتها السلطة في بلادهم. تقرير حميد سكيف عن حرية الصحافة في المغرب العربي

حوار عربي داخلي حول الديموقراطية والمجتمع المدني
أثارت الكاتبة فاطمة المرنيسي من المغرب والشيخة مي آل خليفة، مديرة مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث في البحرين، ربيع 2005 حوارا عربيا داخليا حول الديمقراطية والاصلاح.