إسلاميون ويساريون: من العداوة إلى العمل المشترك؟

هناك محاولات في تونس لتأسيس جبهة سياسية تضم اتجاهات إسلامية وليبرالية ويسارية. فهل تنجح المبادرة في تجاوز تراث شائك من الصراع والشكوك والرفض المتبادل بين الإسلاميين واليساريين؟ بقلم صلاح الدين الجورشي

الرئيس التونسي بن علي أثناء الانتخابات المحلية في العام 2000، الصورة: د ب أ
الرئيس التونسي بن علي أثناء الانتخابات المحلية في العام 2000

​​

عندما ظهرت الحركات الإسلامية في المنطقة لم تصطدم فقط بأنظمة الحكم التي تريد بطبيعتها البقاء في السلطة، ولكن وجدت نفسها أيضا في صراع مفتوح مع قطاعات واسعة من النخب الحديثة إلى جانب مختلف تيارات المعارضة.

ففي مصر وبقية دول المشرق إضافة إلى ليبيا، اندلع صراع دموي بين الإسلاميين والقوميين كنتيجة للصدام التاريخي الذي حصل بين عبد الناصر والإخوان المسلمين، ثم بينهم وبين حزب البعث بشقيه العراقي والسوري.

أما في المغرب العربي، فبالإضافة إلى الاشتباكات المتجددة بين الإسلاميين والتحديثيين الذين يقع اتهامهم عادة بالتغريب أو العمالة للغرب، حدثت منذ السبعينات معارك أيديولوجية وسياسية طاحنة بين الحركات الإسلامية المغاربية وبين اليسار الماركسي بمختلف فصائله وتياراته.

معارك اتخذت طابعا عقائديا، حيث رأى اليسار في صعود الإسلاميين "قوة رجعية خلقتها الإمبريالية والأنظمة التابعة لها من أجل مواجهة القوى التقدمية والثورية في العالم العربي". في حين اعتقد الإسلاميون بأن اليسار الماركسي يشكل "العدو الأساسي الذي يهدد الإسلام والأخلاق نظرا لطابعه الإلحادي وقدرته على الاختراق والتعبئة".

تونس مثالا

لم تكن تونس استثناء، حيث تبادل الإسلاميون واليساريون منذ البداية الرفض والإقصاء وحتى العنف، خاصة في ساحات الجامعات والنقابات وفي وسائل الإعلام. وقد ترسخت بسبب ذلك العداوة بينهما، رغم التقارب والحوار المحدود الذي حصل في أواسط الثمانينات بين حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة حاليا ) والحزب الشيوعي قبل أن يحل نفسه.

وعندما قررت السلطة في مطلع التسعينات اجتثاث الحركة الإسلامية وتجفيف منابعها، لم تتردد معظم أجنحة اليسار في دعم سياسات النظام والوقوف إلى جانبه من اجل التخلص من عدو مشترك. لكن الإسلاميين يخطئون عندما يعتقدون بأن جميع اليساريين أيدوا موجة القمع التي أصابتهم، وينسون أن البعض – شخصيات وتنظيمات – قد وقفت ضد التيار الذي انخرط فيه كثيرون.

لا شك في أن السلطة قد استفادت كثيرا من الخلافات الأيديولوجية والسياسية القائمة بين الطرفين، وعملت على عزل حركة النهضة باعتبارها " تشكل تهديدا للنمط المجتمعي الذي يؤمن به جميع التونسيين مهما كانت خلافاتهم السياسية ".

كما اعتبر النظام منذ مطلع التسعينات الاقتراب من حركة النهضة أو محاولة بناء علاقات سياسية معها بمثابة "الخط الأحمر" الذي يجب أن يقف دونه كل الفرقاء السياسيون، وأن من يفعل خلاف ذلك يصبح متهما بالخروج عن "الإجماع الوطني".

قنطرة

اليسار الغربي والجهاد الإسلامي

نحن والاتحاد الأوروبي

تجارب دول المغرب العربي مع الأحزاب الإسلاموية

محاولات لكسر العزلة

في المقابل ذلك عملت قيادة حركة النهضة ولا تزال على كسر العزلة وفك الحصار حولها من خلال محاولات إبداء الرغبة في التحالف أو التنسيق السياسي مع أي طرف من أطراف المعارضة حتى لا يبقى الصراع ثنائيا بينها وبين السلطة.

وتندرج في هذا السياق سلسلة التقاطعات السياسية التي جمعتها في أواسط التسعينات مع وزيرين سابقين هما السيدان أحمد بن صالح الذي كان يقود حزبا معارضا ( حركة الوحدة الشعبية ) ومحمد المزالي عندما كان يقيم اضطراريا بالمهجر.

كما حصل تحالف مؤقت بين راشد الغنوشي ومحمد مواعدة الذي كان أول من قرر تجاوز الخط الأحمر بتوقيعه بيان مشترك مع رئيس حركة النهضة. وهو البيان الذي كلفه كثيرا، وأثار ضد غضب السلطة واحتجاج المعارضة. لكن كل تلك المحاولات التي قامت بها حركة النهضة لم تصمد طويلا، ولم ترتق إلى مستوى التحالف الفعلي والمؤثر على موازين القوى.

مع نهاية التسعينات من القرن العشرين، انطلق نقاش داخل صفوف المعارضة التونسية حول طبيعة العلاقة مع الإسلاميين عموما، وحركة النهضة خصوصا. لقد استنكر بعض اليساريين الراديكاليين تشريك رموز من حركة النهضة في أي نقاش سياسي يتعلق بمستقبل تونس، وطرحوا سؤالا استنكاريا: هل يجوز أن تتحالف الحركة الديمقراطية مع الحركة الإسلامية"المعادية بطبعها للديمقراطية والمؤمنة بإقامة دولة دينية" ؟

مواقف إيديولوجية

الذين قطعوا مع التراث الماركسي أو الذين لم تربطهم به صلة مرجعية، لم يجدوا صعوبة في تجاوز الإشكال، أو أنهم تعاملوا معه بطريقة مختلفة. لكن معظم اليساريين حافظوا على موقفهم العدائي من الإسلاميين، واستبعدوا إمكانية أن يجمع بينهم برنامج سياسي مرحلي أو مطالب مشتركة.

شرطي أمام مكان انعقاد قمة المعلومات، الصورة: أ ب
شرطي أمام مكان انعقاد قمة المعلومات الذي ستضافته تونس في نوفمبر/تشرين الثاني 2005

​​ويذهب السيد الطاهر بلحسين صاحب "قناة الحوار" التونسية المعارضة التي تبث من روما، إلى حد القول بأنه حتى لو تطورت "الحركة الإخوانية التونسية باتجاه التطور التركي ( يقصد نموذج حزب العدالة والتنمية ) فإنها تبقى دائما حركة رجعية. وبالتالي لا يمكنني تصور إمكانية تحالف معها".

هذا الموقف الراديكالي من الإسلاميين لا يشاطره كل الذين يعتبرون أنفسهم جزء من اليسار. فالعديد من مؤسسي "التجمع الاشتراكي التقدمي" ( الحزب الديمقراطي التقدمي حاليا ) رفضوا مبدأ القطع مع الإسلاميين منذ الثمانينات انطلاقا من مصادرات أيديولوجية.

وقد سبق ذلك أن عملت بعض الشخصيات ذات الأصول اليسارية على فتح أبواب عضوية الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان للإسلاميين بما في ذلك تولي بعضهم المسئولية في قيادتها، اعتقادا منهم بأن ذلك جزء من الرهان على إدماجهم في الحياة السياسية والمجتمع المدني.

نشاطات مشتركة

هذه المرة حدثت المفاجئة من فصيل يساري متجذر، لا يزال متمسكا بالرصيد النظري والسياسي للماركسية، ويتمتع بحضور نسبي في صفوف الحركة الطلابية والنقابات والجمعيات هو "حزب العمال الشيوعي التونسي".

فبعد أن كانت قيادة هذا الحزب تناصب العداء لحركة النهضة، قررت أن تشارك معها في تنظيم إضراب عن الطعام من أجل ثلاث مطالب من بينها إطلاق سراح المساجين السياسيين ( حاليا جميعهم من الإسلاميين )، واحترام حق التنظيم الذي يعني أيضا تمتيع عدد من التنظيمات السياسية من الحصول على الترخيص القانوني بما في ذلك حركة النهضة التي سنت السلطة قانون أحزاب خصيصا لمنعها من التشكل والنشاط.

وحتى يبرر حزب العمال موقفه من هذا التنسيق أعد مرافعة نظرية اعتبر فيها أن التحالفات السياسية لا تقوم على وحدة المنظور العقائدي أو الأيديولوجي، وإنما ترتكز على طبيعة البرامج السياسية ومواقف الأطراف من السلطة والقضايا المطروحة، أو ما يسميه ب " التناقض الرئيسي الذي يشق المجتمع في المرحلة الراهنة".

لم يكتف "حزب العمال" بالتمييز بين الأيديولوجي والسياسي، أو بين الاستراتيجي والمرحلي، وإنما طور موقفه إلى مستوى أكثر حساسية وعمقا. فالناطق الرسمي باسم الحزب السيد " حمة الهمامي " اعتبر بأن موقف الفصيل الذي يقوده من الحركات الإسلامية يتأسس في ضوء مواقف هذه الأخيرة من " قضايا شعوبها ومن المسائل الدولية.

اليسار والإسلام

"فحيثما كانت تقف مواقف إيجابية من الاستبداد أو من الامبريالية والصهيونية فإننا نساندها ونتعامل معها ".

وعندما سئل " كيف يمكن لحزب ماركسي لينيني التوفيق بين البيئة الثقافية العربية الإسلامية وبين الأفكار التي الأفكار التي يحملها " أجاب بأن " الشعب التونسي مسلم في معظمه " وأن حزبه " يدافع عن هوية التونسيين "، لكنه يميز بين ثلاث مستويات في تعامله مع الإسلام. مستوى العقيدة " وهي تندرج في باب الحرية الشخصية "، ومستوى الشريعة التي يعتبرها " نتاجا تاريخيا وضعه الفقهاء "، وأخيرا مستوى الحضارة والثقافة وهما يتسمان بالتنوع والاختلاف فيهما ما هو رجعي وما هو تقدمي".

هذا يعني أن الموقف السياسي من الإسلاميين قد أدى عمليا إلى بلورة موقف أكثر شمولا يتعلق بفهم الإسلام وكيفية التعامل معه. ولا شك في أن ذلك يعتبر في حد ذاته تطورا ملحوظا في رؤية فصيل ماركسي يصنف عادة ضمن خانة أقصى اليسار.

إن تاريخ النشاط الحزبي في تونس لم يعرف تنسيقا بين حزبين أو أكثر قد تمكن من الصمود طويلا. فالتفتت ومحاولة الانفراد بالقرار والتحرك سمة ملازمة للمشهد السياسي التونسي. فهل يمكن أن تشكل مبادرة 18 أكتوبر حالة استثنائية، وتتغلب على العوائق وينجح أصحابها في اكتساب تقاليد العمل والعيش المشترك؟

يصعب استباق الأحداث والحكم على المحاولة بالفشل أو النجاح، لكن من المؤكد أن المبادرة استمرت 14 شهرا رغم الهجوم الذي تعرضت إليه من قبل السلطة، والحصار الذي ضرب على أعضائها، إلى جانب ضعف النتائج. وإذا كان الطرف اليساري المشارك في المبادرة قد غلب البرغماتية على الأيديولوجيا فإن قادة حركة النهضة في الداخل قد أبدوا مرونة واسعة، وتعهدوا بأن يعملوا جاهدين حتى لا تفشل المحاولة.

في هذا السياق تواصلت لقاءات المنتدى الفكري الذي أنشأته الأطراف المؤسسة للمبادرة، من أجل التوصل إلى صياغة نوع من "ميثاق شرف". وخصص اللقاء الأخير للحوار حول الموقف من قضايا المرأة.

ونظرا لكون الإسلاميين قد أثاروا مخاوف النساء والشرائح الحديثة في المجتمع التونسي منذ ظهورهم في السبعينات وصعودهم في الثمانينات، أعلن ممثلو حركة النهضة التزامهم بعدم المساس بالمكاسب التي تضمنتها مجلة الأحوال الشخصية مع "رفضهم لكل محاولة إضفاء القداسة عليها".

وينتظر أن يستمر النقاش في لقاءات قادمة حول مسألتين خلافيتين لا تقلان أهمية عن موضوع المرأة، وطالما تسببتا في تغذية الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين في العالم العربي، هما "النظام السياسي المنشود" و "حرية المعتقد". السلطة ومن يشاطرونها الرأي يعتبرون أن ما يجري "التقاء غير طبيعي بين الأضداد"، أما آخرون فيعتقدون بأن هذا التقارب بين إسلاميين ويساريين إذا ما صمد فإن نتائجه السياسية والفكرية قد تتجاوز بكثير أفق المرحلة الحالية.

بقلم صلاح الدين الجورشي
حقوق الطبع قنطرة 2006

صلاح الدين الجورشي كاتب وصحفي تونسي

قنطرة

اليسار الغربي والجهاد الإسلامي
إزداد في الفترات الأخيرة عقد التحالفات ما بين الإسلامويين واليسار الغربي، إستنادا على رفضهما المشترك للرأسمالية والإمبريالية الغربية. مقال بقلم فريد هاليدي.

نحن والاتحاد الأوروبي
يعبر القاضي التونسي السابق المختار اليحياوي في تعليقه عن خيبة أمل النخب المحلية التي ترى أن التعاون والشراكة بين الاتحاد الأوربي وتونس قد تحولتا إلى تمويل وفرض لدكتاتورية بكل مقاييس السلطة الشمولية.

تجارب دول المغرب العربي مع الأحزاب الإسلاموية
يمثل الإسلامويون جزءا هاما من مجتمعات بلادهم. إبعادهم عن المشاركة في الحياة السياسية سيكون على المدى البعيد وخيم العواقب، حيث سينجم عن ذلك جمود إصلاحي وما يترتب عليه من ظهور طاقات نزاعية، كما تبين إزابيل فيرينفيلس في تحليلها التالي