فوبيا سلطان الحكم والدين

لماذا لم تظهر شخصية شبيهة بأندريه سخاروف بين العرب خلال العقود الماضية، منذ تبلور النظم السلطوية الحديثة في المجتمعات العربية؟ هذا السؤال يطرحه خبير دراسات الشرق الأوسط عمرو حمزاوي في سياق كتابته عن وفاة المفكر هشام شرابي

عمرو حمزاوي، الصورة: الأرشيف الخاص
عمرو حمزاوي

​​.

وفاة هشام شرابي والكم الهائل من التعليقات الرثائية التي نشرها زملاؤه وأصدقاؤه في الصحافة العربية وتناولت سيرته الذاتية وأفكاره، أثارت في ذهني عددا من الخواطر حول موقع ودور المفكر في عالمنا. فلا شك أن مصدر تميز الراحل الكبير كان قدرته على التعامل النقدي مع حقائق المجتمع والتاريخ في الشرق الأوسط، وجرأته في طرح آرائه الصادمة أحياناً، من دونما خوف من سلطان السياسة أو من سلطان الدين.

شرابي هنا هو جزء من التراث التنويري في الفكر العربي الحديث والمعاصر، يندرج في سياقاته ويتموج مع ثناياه مثله في ذلك مثل العديد من الأسماء الأخرى في الأوطان والمهاجر، التي ما لبثت تسعى في أعمالها للفهم والتحليل والتنبيه، أملاً في التغيير والإصلاح.

وعلى الرغم من الأهمية الفكرية الكبرى لمثل هذه الأعمال، إلا أن مأساة شرابي وغيره من الملتزمين الذين عاشوا أو ما زالوا يعيشون رومانسية حلم تقدم، ورقي العرب إنما يكمن في غياب فاعليتهم المجتمعية، وما يرتبه ذلك من حالات ذهنية ونفسية شديدة السلبية، تبدأ بالتعامل الساخر مع الواقع رافض التغيير، وتمر بالرؤى العدمية ومحاولة إرضاء الذات بحلول فردية يلفظها الضمير الحي بعيداً، لتنتهي بشعور عميق بالعجز وفقدان الرغبة في مواصلة الطريق، والاستسلام للمصير المحتوم، على النحو الذي يمكن المرض في بعض الأحيان من السيطرة على الجسد الضعيف. وما نهاية ادوارد سعيد وشرابي وغيرهما في أحد جوانبها سوى دليل بين على هذه الحقيقة المريرة.

وواقع الأمر أننا قد اعتدنا في نقاشاتنا العربية باستمرار، على أن نفسر أزمة المفكر هذه بالإشارة فقط إلى مجموعة متنوعة من العوامل المشكلة للبيئة المحيطة به، كان للنظم السلطوية محتقرة التفكير الحر والطاقة الإبداعية من جهة، والمؤسسات التقليدية العشائرية والأبوية معيقة التغيير من جهة أخرى نصيب الأسد منها.

هيمنة الإحساس بالعجز

إلا أن نقد النظم الحاكمة والتقاليد البالية وعلى الرغم من محوريته، لا يمثل إن أردنا الأمانة في العرض، سوى أحد وجهي العملة المتداولة هنا، في حين يرتبط وجهها الآخر بالمفكرين العرب، ورؤيتهم الذاتية لموقعهم وحدود دورهم. فلم يرتب غياب الديمقراطية والتعقب الأمني العنيف للأصوات النقدية في مجتمعات المعسكر الاشتراكي السابق، على سبيل المثال، هيمنة الإحساس بالعجز والنظرة الانهزامية على الحياة الفكرية هناك، بل تبلورت خاصة منذ النصف الثاني للسبعينيات، تيارات للمقاومة والدفع في اتجاه التغيير، كان من بينها جماعات المنشقين ودعاة العصيان المدني ونوادي القلم والحركات الاجتماعية الجديدة، التي ضمت في عضويتها مفكرين كثيرين ساهمت بفاعلية في التحول نحو الديمقراطية مع بداية التسعينيات.

وعلى خلاف التفسير المنتشر في الكتابات العربية، خاصة حين تغلب عليها النزعة التآمرية حول مركزية الدعم الأميركي والأوروبي الغربي للتيارات النقدية في شرق أوروبا في إنجاز التغيير، فإن التحليل الموضوعي يوضح بجلاء، أن العامل الحاسم هنا كان قبل كل شيء قدرة أولئك المفكرين على الاستمرار في المقاومة، رغم ضراوة عنف النظم الحاكمة وتمكنها من خلق تحالفات استراتيجية وحركية مع غيرهم من الفاعلين المجتمعيين.

الغرب لم يحل بينهم وبين معسكرات الاعتقال وممارسات التعذيب ولم يكونوا هم بعملاء للولايات المتحدة على حساب أوطانهم. وربما دللت سيرة عالم الفيزياء الروسي أندريه سخاروف (1921- 1989) على صدق هذه الرؤية. فالعالم المشهور الذي اعتبر من آباء القنبلة النووية السوفياتية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وحاز معظم الألقاب التكريمية للإمبراطورية البائدة، بدأ منذ الستينات في الدعوة للإصلاح السياسي وأيد ربيع براغ في 1968، وانتقل إلى صفوف المعارضة بصورة علنية مع إضرابه المتكرر عن الطعام، على نحو لم يمكنه من تسلم جائزة نوبل للسلام بصورة شخصية، والتي منحت له في 1976.

رمز المعارضة الديموقراطية

وفي عام 1980 اعتقلته السلطات السوفياتية وجردته من كل ألقابه ونفته إلى معسكرات جوركي، إلا أنه استمر في كتابة مقالاته النقدية المنادية بالتغيير الديموقراطي والاتصال بطرق مختلفة بمنشقين آخرين، حتى أفرج عنه الرئيس الأخير للاتحاد السوفياتي غورباتشوف في 1986، ليصير حتى وفاته في موسكو 1989 رمزاً للمعارضة الديمقراطية هناك. ولا تمثل سيرة سخاروف نموذجاً فريداً وإنما هو اسم من بين أسماء كثر لمفكرين معارضين نجحوا بالتحالف مع قوى مجتمعية أخرى، في فرض التحول الديموقراطي على نظمهم.

يصبح التساؤل المشروع إذن هو ببساطة : لماذا لم يظهر سخاروف واحد بين ظهرانينا طوال العقود الستة الماضية أي منذ تبلور النظم السلطوية الحديثة في المجتمعات العربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية؟

ولا أعني هنا أعزائي القراء مجرد وجود أصوات نقدية لمفكرين داعين للديمقراطية والتقدم. فالعالم العربي لم يعدم مثل هذه الأصوات الخطابية والتحليلية بكل تأكيد، بل أبحث عن أولئك القادرين على نقل نقدهم إلى مرحلة ثانية عمادها الفعل الحركي على أرض الواقع لإحداث التغيير، ولا أجد سوى قلة قليلة من المنتمين لتيارات الإسلام السياسي ودونهم فراغات كبرى.

أليست محاولة تحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية وبغض النظر عن احتمالات النجاح والفشل هي واحدة من الحلقات المفقودة بين مجتمعاتنا وطيدة السلطوية ونظيراتها في شرق أوروبا وأجزاء من العالم الثالث، التي سارت على طريق الديمقراطية إن بفعل هبات شعبية أو مقاومة مدنية سلمية؟

أليست هي ذات المحاولة مرة ثانية التي تضفي على صوت المفكرين النقديين الشرعية الأخلاقية والمصداقية القيمية القادرة على تحريك المواطنين للمطالبة بالتغيير، بمنطق «نحن معكم نقف مثلنا مثلكم في الصفوف الأمامية»!. ثم لماذا يقتصر جل اجتهادات المفكرين التنويريين العرب في اللحظة الراهنة على صياغة البيانات وكتابة المقالات المنادية بالإصلاح، وبها جميعاً طاقة معرفية وتحليلية عالية، ولا يتعداها للانتظام ولو الجزئي في حركات تضغط من أجل الديمقراطية؟ لماذا لا نتظاهر مثل الأوكرانيين وغيرهم من الشعوب.

الإيمان بالدولة ومؤسساتها

وقناعتي أن الإجابة على هذه التساؤلات، وهي ستأتي في جميع الأحوال اختزالية وانتقائية، تقتضي بالأساس التدبر في معضلتين رئيسيتين. الأولى هي حقيقة استمرارية إيمان غالبية المفكرين العرب على اختلاف توجهاتهم، بأن الدولة ومؤسساتها هي مناط الخلاص، وأن باب التغيير والإصلاح إنما ينفرج في المقام الأول وتنجلي معالمه من خلال التأثير الإقناعي على رموز النخب الحاكمة، أو بعبارة موجزة تراث هداية أولي الأمر.

أما المعضلة الثانية فتعيدنا إلى نظرة المفكر العربي الذاتية لموقعه ودوره العام. هنا أدعي أن العدد الأكبر من المفكرين في عالمنا إنما يدرك هويته بكونها منفصلة، بمعنى التميز عن خريطة القوى المجتمعية الأخرى ويشدد على ذلك صباح مساء بعبارات تقريرية من شاكلة «أنا كمثقف...» على نحو يرتب من جهة ذيوع الرؤى الترفعية عن مشاركة الجماهير، بمنطق «ليس هذا من دوري في شيء» وهيمنة الفهم الطليعي لدور المفكر في المجتمع برمزية «ليس علي سوى محاولة النقد والتحليل والبقية على الآخرين»، من جهة ثانية، وكلاهما في نهاية المطاف فاسد، لم ينتج سوى استمرار الجمود المجتمعي وتعميق مأساة المفكر.

بقلم عمرو حمزاوي خبير دراسات الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيغي للسلام العالمي بواشنطن.
حقوق الطبع عمرو حمزاوي
صدر المقال في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 10.2.2005