تعايش الأديان في الماضي

يقول مارك كوهين، أستاذ في جامعة برنستن الأمريكية، أن معاداة السامية لدى المسلمين وكراهية اليهود للمسلمين ظاهرة جديدة. ويعرض في مقاله تعامل المجتمع الإسلامي والمسيحي مع الأقلية اليهودية في العصور الوسطى

الصورة: أ ب
جامع قرطبة

​​يدعو مارك كوهين، أستاذ في جامعة برنستن الأمريكية، المسلمين واليهود إلى إعادة اكتشاف الثقافة المشتركة التي كانت تجمعهم في العصور الوسطى. ويعرض في مقاله أسباب اختلاف تعامل المجتمع الإسلامي والمسيحي مع الأقلية اليهودية في تلك الحقبة

لقد صَوَّرَ المؤرخون اليهود في القرن التاسع عشر التجربة اليهودية في القرون الوسطى في ظل الإسلام باستخدام مصطلحات رومانطيقية شبه أسطورية على العكس تماماً من تاريخ الاضطهاد والقمع الذي عاشه اليهود الذين قطنوا في العالم المسيحي في القرون الوسطى.
وقد قيل عن يهود الأراضي العربية وخاصة أولئك الذين عاشوا في أسبانيا المسلمة انهم عاشوا في عصر ذهبي أو ربما طوباوي.

لقد خدم هذا التناقض الأجَندة والأغراض السياسية للمفكرين والمثقفين اليهود في القرن التاسع عشر. ورغم أن اليهود قد وُعِدُوا بالمساواة والحصول على كل حقوقهم السياسية والثقافية في المجتمع بعد الثورة الفرنسية، لكنهم ظلوا يعانون من التمييز بما في ذلك الحرمان من التدريس في الجامعات.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اتخذ هذا الإجحاف شكلاً عنصرياً وسياسياً جديداً متمثلاً بمعاداة السامية. وبصورة عامة، إن التعايش الطوباوي بين المعتقدات أو بالأحرى "خرافة التعايش الطوباوي بين المعتقدات" في أسبانيا في ظل الإسلام تحدّتْ المسيحيين المتنوّرين كي يفوا بوعود المساواة ومنح اليهود حقوقاً وامتيازات تكون على الأقل "ليبرالية" مثل المعاملة المتساهلة المتسامحة التي تمتع بها اليهود تحت الحكم الإسلامي في القرون الوسطى.

إن هذه المقارنة الوردية المتفائلة بين العصر الذهبي تحت حكم الإسلام وتاريخ الاضطهاد في ظل المسيحية تُرْسَم على خلفية الأغراض السياسية لمفكري أوربا الوسطى اليهود في القرن التاسع عشر واستمرت في القرن العشرين وعززها الاضطهاد الوحشي النازي لليهود وانتهاءً بالهولوكست.

ومن ناحية أخرى انتج النزاع العربي اليهودي حول فلسطين قضية سياسية جديدة أثّرتْ على تاريخ اليهودية في القرون الوسطى في العالم الإسلامي. لقد استغل كلا الجانبين الصراع وعدّل قراءة خرافة التعايش الطوباوي بين الدينين لخدمة أغراضه السياسية. فقد لوّح العرب وكذلك مؤيدي القومية العربية براية التناغم والتآلف والتوافق العربي-اليهودي في الماضي وألقوا باللوم على الصهيونية المعاصرة لعدائها للعرب في الوقت الحاضر.

بالمثل، استبدل عدد من الكُتّاب الصهاينة نظرية العصر الذهبي بما أدعُوُه النظرية المضادة -الاضطهاد الإسلامي أو الفهم البكائي الحزين للتاريخ العربي اليهودي. وزعم أؤلئك المُعَدِّلُون( الذين عدّلوا النظرة التاريخية السائدة) أن الحياة اليهودية في الإسلام بدايةً بالنبي محمد تميزت بالصعوبة والمشقة والاضطهاد تماثل بالمرارة المعاناة الفظيعة التي شهدتها الحياة اليهودية في العالم المسيحي. وهذا يتضمن ان معاداة السامية عند العرب ليست أمراً جديداً ولكنه مرض مزمن قديم، وليس من المحتمل أن يذهب أو يزول حتى لو قامت إسرائيل بتنازلات سياسية كبيرة من أجل سلام الأمة الفلسطينية الناشئة.

الإسلام المتسامح؟

إن خرافة التعايش الطوباوي بين اليهودية والإسلام تنبعُ من النظرة اليهودية الإيجابية للإسلام كدين متسامح. وهذا على خلاف شديد من الموقف السلبي الذي يعرضه و"يميط اللثام عنه" إدوارد سعيد في كتاب الاستشراق.

ولكن رَسْمَ التاريخ اليهودي حول فكرة التسامح الإسلامي فَشَلَتْ في أن تأخذ حقيقة مهمة في نظر الاعتبار. إنّ التسامح كما نفهمه نحن في الغرب منذ عهد جون لَك، لم يكن يُعْتَبُرُ فضيلة في المجتمعات المُوَحّدة في القرون الوسطى. الأديان المُوَحّدة هي بالطبيعة ضدية لا تقبل الآخرين، المُوحِّدون يرون أن كل الآخرين كفارٌ ( حتى الموحّدون من الأديان الأخرى).

وإذا كانت المسيحية قد تسامحت مع اليهودية أي سمحت لليهود بأن يعيشوا ويمارسوا دينهم، فلأن المسيحيين آمنوا (وخاصة منذ زمن القديس اوغسطين، 340-430، أنظر أدناه) أنّ الله تمَنّى أن يُحْفَظُ اليهود كشهود للانتصار المسيحي. وإذا كان الإسلام في العصور الوسطى قد عامل اليهود معاملة أفضل من المسيحية، فذلك كان لأسباب عديدة.

الوضع القانوني

تمتّع اليهود والمسيحيون الذين عاشوا في العالم الإسلامي من تسامح شرعي بوصفهم "أهل الذمة"، وهي حالة امتاز بها أهل الكتاب الذين استلموا كتاباً مقدساً من الله. وبصفتهم إحدى مجموعتين( أحيانا ثلاثة أو أكثر من مجاميع أهل الذمة لأن الإسلام أعتبر الزرادشتديين الفرس والهندوس من أهل الذمة) فإنّ اليهود لم يُعْطَوا اهتماماً خاصاً.

وهذا يعني ان تمييز الإسلام الطبيعي كدين توحيدي ضد الكفار كان منتشراً موزعاً على الجميع وليس مُرَكّزاً على مجموعة منهم دون الأخرى. لم تتكون في الإسلام قوانين خاصة لليهود كتلك التي تَكَوّنَتْ في العالم المسيحي حيث كان يهود القرون الوسطى يعتبرون أقناناً للمجلس الملكي أي مُلْك خاص يعود للملوك أو للبارونات أو للمدن. وفي بعض الأحيان مارست الكنيسة سلطتها المطلقة على اليهود متذرعة بمبدأ كنسي قديم يتعلق بعبودية اليهود الأبدية.

إن التشريعات الإسلامية التي تتعلق بحياة اليهود تجسدت في ميثاق عمر الذي أُدْخِلَ في الشريعة الإسلامية. وقد حُوفِظَ على التنظيمات أو التشريعات كما هي بدون تغيير على مرور الزمن ونادراً ما تم خلرقها.

تضمّنَ قانون الذمة تحديدات قُصِدَ منها في البدء حماية الهوية الهشة للأقلية المسلمة الفاتحة وليس اضطهاد الكفار. ولكن بمرور الوقت وبالتحديد في نهاية القرن الإسلامي الأول أصبحت هذه التحديدات والقيود ذات طابع تمييزي سلبي.

لقد توجّبَ على غير المسلمين ألا يقيموا أو يشيدوا بيوتاً جديدة للعبادة وألا يصلحوا بيوت العبادة القديمة، وعليهم ممارسة طقوسهم الدينية داخل بيوتهم بهدوء حتى لا يؤذوا ويخدشوا أو يتطاولوا على تفوق الإسلام. وعليهم ألا يتخذوا أسماء تشريفية تبجيلية عربية ( مثلاً أبو عمران) وتوجّب عليهم أن يرتدوا لباساً مميزاً وخاصة النطاق الذي يدعي بالزنار ولم يكن بوسعهم امتلاك العبيد الأسرى المخصصين للمسلمين، وعليهم أن يبدوا الولاء للمسلمين ويجب ألا يبيعوا لحم الخنزير أو المشروبات الكحولية في الأحياء الإسلامية لأنها محرمة في الإسلام.

في مقابل تقيدهم والتزامهم بهذه الحدود وكذلك دفعهم الضريبة السنوية أي الجزية، يُمْنَح الذميون حرية الدين واستقلالية طائفية، أي حرية العيش وفقاً للقوانين الدينية لأسلافهم و تلتزم الدولة بحمايتهم وأملاكهم. وكذلك توجّب على الذميين أن لا يتقلدوا مناصب أو وظائف عامة ولكن هذا التحديد كان عبارة عن تحديد على الذين يوظفونهم إذ غالباً ما رُفِعَتْ الشكاوى ضد الحكام العرب الذين انتهكوا التراتبية الصحيحة التي تجسد النظام الذمي.
ومنذ الفترة الأولى للإسلام وخلال معظم العصور الوسطى، طُبّقَتْ هذه القوانين والحدود بصورة متقطعة متفرقة باستثناء الجزية والتي كانت مصدراً للدخل لخزينة الحاكم المسلم.

لقد جابه اليهود والمسيحيون معارضة قليلة مثلاً لبناء معابد وكنائس جديدة في المدن المسلمة التي أسست تواً أو في المستعمرات القديمة التي نمت نتيجة للهجرة. بالإضافة إلى ذلك، عندما انتشر الإسلام وهاجر اليهود إلى الأماكن النائية للإمبراطورية، كونوا ووسعوا مجتمعاتهم وبنوا بيوتاً جديدة للعبادة. وحينما تصدر أسئلة أو ترفع شكوى كان المشرعون المسلمون يقبلون الشهادة بأن قِدَم المباني هو سبب كافٍ لإعفائها من التهديم والمصادرة. وقد تم التغاضي عن ترميم أو إصلاح المباني حين يوافق الشروط الشرعية وهي أن مواداً قديمة تستخدم للإصلاح والترميم.

وعلى عكس المسيحية لم تكن اليهودية ديانة ذات مشاهد عامة، لذلك تأثر اليهود بحدود القانون الإسلامي هذه بدرجة أقل بكثير من جيرانهم المسيحيين الشرقيين. وتستثنى من ذلك الطقوس الجنائزية والتي يهبّ فيها اليهود إلى الخارج وأحياناً يصبحون عرضة لهجمات غوغاء المسلمين.

واتخذ اليهود أسماء تبجيلية عربية ( أبو عمران هو اسم موسى مامونيدس) وكما تُري وثائق كنيس الغينيزا في القاهرة، وكانوا يرتدون ملابس لا يختلفون فيها عن الآخرين. ومَلَكَ اليهود عبيداً وخصوصاً في المنازل وكذلك موظفي أموال و شَغَلَ كل من اليهود والمسيحيين مناصب حكومية بعد فترة طويلة من إتقان العرب فن البيروقراطية وحتى خلال العصور الوسطى المتأخرة، حين ازدادت العداوة تجاه الذميين.

اليهود والاقتصاد الإسلامي

احتل اليهود في أوربا الشمالية المواقع الاقتصادية التي يزدريها المسيحيون. ففي فترة مبكرة من العصور الوسطى المبكرة مثلاً كانوا مُمَثَّلين بنسبة عالية في التجارة العالمية .

لقد حمل التجار اليهود الوصمة في وقت طغى ازدراء المسيحيين للتجارة و ساد استياء إقطاعي للحياة المدينية و كان معظم المجتمع زراعياً ومستقراً . في نفس الوقت دأب الملوك الجرمانيون وغيرهم من أعضاء النخبة على تشجيع وجود تجار المسافات الطويلة اليهود لأنهم كانوا يجلبون البضائع النفيسة كالبهارات من الشرق. حتى أن الملوك عرضوا على التّجّار اليهود شروطاً مواتية بما يتعلق بالسفر والإقامة والاستيطان من أجل تشجيع نشاطاتهم.

على أي حال ،بعد ذلك انتقل اليهود في الغرب اللاتيني إلى الربا وبذلك اكتسبوا بغض وكراهية المسيحيين لهم( وشجب الكنيسة) وأضحوا (خاصة في الشمال) ضحية لأعمال العنف الغوغائية لانهماكهم بكثرة في طريقة الحياة المقيتة هذه.

قام المؤرخ الإسرائيلي مايكل توك حديثاً بإجراء بحث فَنّد فيه نظرية الهيمنة اليهودية على التجارة والمال( وتجارة الرقيق) في أوربا في فترة القرون الوسطى المبكرة، وحتى لو قبلنا حججه، فإن ذلك لن يقلل من الحقيقة التي تقف وراء التنميط الأوربي العصور الوسطى والحديث لليهود على أنهم تجار مسافات طويلة، سواء أكان ذلك يعتمد على الإجحاف المضاد المعادي لليهود أو كان مجرد زعم مبالغ فيه حول دور اليهود في التجارة في البحوث والدراسات العلمية.

والأهم من ذلك ومن نظرة مقارنة، لا تؤثر هذه النظرة التعديلية على الحالة المناقضة في العالم الإسلامي، حيث ساند دور اليهود في الاقتصاد وضعهمُ الأمني واستقرارهم. إنّ محاولات الآخرين لإيجاد أسباب اقتصادية لتفسير معاداة السامية عند المسلمين في العصور الوسطى غير مقنعة. وهذا يعود سببه إلى أن اليهود في العالم الإسلامي، على عكس إخوانهم في العالم المسيحي اللاتيني، كانوا قد اندمجوا بصورة جيدة في الحياة الاقتصادية للمجتمع ككل. إن الغياب النسبي للتمييز الاقتصادي وخاصة في القرون الكلاسيكية يخلق انطباعا مثيراً يحتاج إلى توضيح.

في البدء، حضّ القرآن والأحاديث( وعلى خلاف معظم النصوص المسيحية الأولى المبكرة) على النشاطات التجارية، وهذا الموقف الإيجابي انتقل إلى القانون الإسلامي الذي تَشكّلَ تدريجياً خلال القرون الأولى بعد ظهور الإسلام كدين جديد. إن تلائم القانون و اللاهوت الإسلامي مع النشاطات الاقتصادية المربحة نتجتْ عن وأدَّتْ إلى ما يدعوه أس. دي. كوتاين، ظهور البورجوازية في الشرق الأدنى في العصور الإسلامي المبكرة.

لقد حدث هذا عدة قرون قبل ظهور مثيلتها في أوربا. إنّ هذه التجارة النشطة المغامرة في الفترات المبكرة للإسلام نَتَجَتْ وإلى درجة كبيرة من بناء سريع لإمبراطورية ممتدة الأطراف تتمتع بمصادر عظيمة وحاجات كبيرة للبضائع.

في القرن التاسع كان العالم الإسلامي الذي كان عبارة عن حضارة مدينية( فقط في المدينة مثلاً يمكن لأحدهم أن يؤدي أهم الواجبات الدينية الإسلامية مثل صلاة الجمعة) يقطف ثمار التجارة النشِطة ويستخدم أدوات متطورة للائتمان لتحويل رأس المال إلى ربح لم يعرفه الغرب حتى القرون الوسطى المتأخرة.

وبالنسبة لليهود الذين تقطن غالبيتهم المدن، فيجب التأكيد دوما على أهمية المواقف الإسلامية الإيجابية تجاه الحياة الحضرية والتجارية. إذ أعطتهم مكانة و منحتهم درجة من الاندماج أكبر من تلك التي حصلوا عليها وحققوها في أوربا الشمالية، حيث أن الإجحاف ضد التجار وضد المدن التي يعيشون فيها قد زاد الطين بلة وحطّ من حالة التاجر اليهودي ـ والذي كان في ذلك الحين يُحْتَقَرُ ويُزْدَرى لأسباب دينية ـ إلى درجة جعله شخصية هامشية.

ولأسباب مهمة أخرى أيضاً لم يُصَب التجار اليهود المتجولين في الفلك الإسلامي بوصمة الآخرية( أي كونهم آخرين) التي عانى منها اليهود في أوربا. لأنهم كانوا من سكان الشرق الأدنى الأصليين وليسوا مهاجرين كما في الغرب اللاتيني، وغالباً لا يمكن تمييزهم جسمانياً من جيرانهم العرب المسلمين( في البدء كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية التي وراء تنظيم قانون الزي والرموز الأخرى للفصل في نظام الذمة الإسلامي.)

بالإضافة إلى ذلك كانت حركتهم الجغرافية جزءاً لا يتجزأ من ظاهرة عامة انتقل فيها التجار المسلمون والمسيحيون الشرقييون وجلبوا ونقلوا البضائع وأنفسهم عبر مسافات شاسعة بحثاً عن الربح المالي وغالباً باشتراك مع اليهود.

إن القدرة على اختراق الحدود بين اليهود وغير اليهود في الشؤون الاقتصادية اليومية تنعكس في معظم المصادر اليهودية التي تعود إلى تلك الفترة. لقد ولّدت هذه العلاقات المتساهلة نسبياً بين الأديان في السوق الإسلامي ثقة وأواصر قلَّلَتْ من الازدراء الديني الدائم الحضور لليهود المتمثل بكونهم أفراد ملة كافرة.

مكانة اليهود الاجتماعية

مع تزايد النزعة الصليبية واشتداد الوعي المسيحي والتقوى بين الناس ككل في القرن الحادي عشر، بدأ اليهود تدريجياً يفقدون فوائد الظروف المواتية التي دعمت أمنهم ونجاحهم في بواكير القرون الوسطى. وهكذا وببطء ولكن بصورة حاسمة عُزِلُوا من التراتبية الهرمية للنظام الاجتماعي المسيحي.

في القرن الثالث عشر، بدأ المسيحيون يشعرون أن اليهود يهددون بإضعاف المجتمع المسيحي. إنّ مبدأ الشمولية الذي يضم الجميع، بما في ذلك اليهود مهما كان مرتبتهم متدنية، كما يلاحظ جاك ل كوف، بدأ يعاني من الضعف بسبب الإصطفائية المسيحية التي تمثلت بتماسك وتضامن وتكافل بدائي للمجموعة وسياسة تمييز عنصري ضد المجموعات الخارجية الأخرى.

وليس في أي من هذه النماذج المعقدة التي تقسم العالم المسيحي إلى طبقات وظيفية-اجتماعية والتي ميزت بصورة متزايدة النظام الاجتماعي منذ بداية القرن الثالث عشر من مكان لليهود. إن العزل والإقصاء والطرد كان الحل النهائي لليهود الذين يعيشون في العالم الكاثوليكي القروسطي، ونُفُّذَ ذلك باتباع طريقة من طرق عنيفة ثلاثة: إكراههم على التخلّي عن عقيدتهم واعتناق المسيحية والطريقة الأخرى هي القتل والثالثة وأكثرها فاعلية هي الطرد حيث طُرِدَ معظم يهود أوربا الشرقية من الأراضي المسيحية في نهاية القرن الخامس عشر.

من الممكن قراءة ميثاق عمر على أنه وثيقة تطبق الإبعاد والإقصاء على الذميين لأنه يشترط عليهم تمييز أنفسهم من المسلمين بملابس معينة وسلوكيات أخرى مميزة. على أي حال، في الحقيقة، لم يُقْصَدْ من تنظيمات ميثاق عمر الإبعاد والإقصاء ولكن لتطبيق التمييز التراتبي بين المسلمين وغير المسلمين ضمن نظام اجتماعي شمولي واحد.

كان على غير المسلمين أن يبقوا في أماكنهم، ويتجنبوا أي عمل وخاصة أي عمل الديني قد يتحدى تفوق الإسلام أو المسلمين. لقد احتل الذمي منزلة معينة في المجتمع الإسلامي، وهي منزلة وضيعة ولكنها كانت منزلة مع ذلك. ورغم أنهم كانوا هامشيين فإن الذميين المسيحيين واليهود احتلوا موقعاً ثابتاً معروفاً معترفاً به ضمن تراتبية النظام الاجتماعي الإسلامي. وعلى حد تعبير برنارد لويس، فإنهم تمتعوا بنوع من المواطَنَة، رغم أنهم كانوا مواطنين من الدرجة الثانية.

وهنالك تفسيرات أخرى للمكانة المفضلة نسبياً التي تمتعت بها الأقلية اليهودية في إسلام العصر الوسيط مقارنة بإخوانهم في العالم المسيحي الشمالي القرون الوسطى حين ننظر إلى العلاقات اليهودية الإسلامية من خلال العدسة الأثنية/العرقية.

تاريخياً تميز الشرق خلال القرون الوسطى بتغاير وتنوع العناصر الأثنية بصورة أكبر من الغرب. شكّل العرب والإيرانيون والأتراك والبربر واليهود والمسيحيون والزرادشتيون وآخرون المشهد الاجتماعي وكونوا فسيفساء منحت المجتمع صبغة إنسانية غنية وملمساً ثقافياً متنوعاً.

بالإضافة إلى ذلك وكما لوحظ سابقاً اتصفتْ المجموعة الذمية بوجود تغاير وتنوع في تركيبتها، حيث يوجد دينان أو أحياناً ثلاثة أديان مختلفة تتعايش في نفس المكان.

إن البصيرة الأنثروبولوجية والاجتماعية تساعد على تفسير ما كان يبدو في الشرق الأوسط على أنه علاقة متسامحة بين المسلمين وغير المسلمين( رغم أننا لا نعني بالتسامح ما تعنيه هذه الكلمة في وقتنا الحاضر). على العكس، أنها توضح بصورة أفضل غياب التسامح ونمو العنف الذي كان يستهدف اليهود في المسيحية خلال العصور الوسطى.

في بداية القرن الثاني عشر، مرت أوربا بنوع من إقصاء وإبعاد الآخر الذي نشأ من تجانس ديني وقومي في العالم المسيحي الكاثوليكي. لقد أجج هذا من الشعور المعادي لليهود وولّد تصاعداً متزايداً من أعمال العنف استهدفت اليهود.

لقد عانت المسيحية في أوربا الشمالية من هذه الفترة فصاعداً من نقص التمايز العرقي الإثني الذي نجح في الإسلام مع العوامل الدينية والقانونية والاقتصادية في الحفاظ على موقع اليهود ضمن تراتبية هرمية النظام الاجتماعي و تغذية الإنغراس الثقافي الاقتصادي والاجتماعي للأقلية اليهودية في المجتمع العربي.

هذه العوامل حافظت على اليهود من أن يعزلوا ويقصوا بصورة تامة من النظام الاجتماعي الإسلامي، وخففت من النظرة إليهم على أنهم أجانب غرباء وحمتهم ووقَتْهُم من أنواع العنف التي أصابت اليهود وخاصة في البلاد المسيحية الشمالية في معظم القرون الوسطى العليا والمتأخرة.

ذاكرة الاضطهاد

ليس من المدهش أن اليهود الذين عاشوا في الأراضي الإسلامية في العصور الوسطى لم يحفظوا أية ذاكرة جماعية عن عنف قام به مسلمون ضد اليهود، ناهيك عن معاداة السامية. و هذا على خلاف شديد مع إخوانهم الذين عاشوا في الأراضي المسيحية والذين رسموا تاريخهم على شكل سلسلة طويلة من المعاناة.

ولكن هنالك سلسلة واحدة من العنف تأتي إلى الذاكرة. وهي المذابح والتحويل القسري التي قامت به طائفة متعصبة من الموحّدين في شمال أفريقيا وأسبانيا في القرن الثاني عشر ضد اليهود والمسيحيين وحتى المسلمين المنشقين أو الذين لا يوافقون طريقتهم. وهذا الاضطهاد هو الذي أجبر عائلة ميمون على هجرة وترك أسبانيا والاغتراب.

لقد ألّفَ اليهود في أراضي الأشكنازي( أوربا الوسطى والشرقية) عدداً كبيراً من القصائد والمراثي في أثر الاضطهادات التي تعرضوا لها والشهداء الذين سقطوا منهم وخاصة بعد مذابح اليهود في الراينلاند وفي أماكن أخرى خلال الحملة الصليبية الأولى، وقد أُدْخِلَ قسم كبير من هذا النصوص الرثائية إلى الطقوس الدينية والتي ما زالتْ تُتْلى في المعابد إلى يومنا هذا.

وعلى العكس من هذا، ومن بين آلاف القصائد العبرية التي كُتِبَتْ خلال القرون الإسلامية الكلاسيكية، فإن القصيدة العبرية الوحيدة من العصور الوسطى التي تنوح وتبكي على اضطهاد تعرض له اليهود في أرض عربية حسب معرفتي هي قصيدة تبكي و تنوح على استئصال المجتمعات اليهودية في شمال أفريقيا وأسبانيا خلال إرهاب الموحّدين.

والأمثلة الأخرى للمراثي اليهودية حول الاضطهاد التي كُتِبَتْ في أسبانيا المُسْلِمَة تَذْكُرُ أعمال العنف التي قام بها مسيحيون لا مسلمون. في عام 1006، أُغْتِيلَ وزير يهودي في مملكة البربر في غرناطة في أسبانيا وبعد ذلك قام غوغاء المسلمين بالقضاء بصورة كاملة على جميع المجتمع اليهودي. وكثيراً ما تُعْرَضُ هذه الحادثة على أنها تمثل الطبيعة المعادية للسامية التي أتّسَمَ بها المجتمع الإسلامي القروسطي. ولكن هذا هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة.

وأهم ما يدل على ذلك، هنالك مرثيتان ترثيان موت الوزير لشاعر يهودي معاصر لا تتضمنان أية إشارة إلى أن الوزير كان ضحية اغتيال سياسي معادي لليهود أو إلى المذبحة التي تبعت ذلك.

التعايش الطوباوي بين الإسلام واليهودية

على ضوء ما تقدم من تصوير للحياة اليهودية في ظل الإسلام التي قدمناها هنا، قد يتساءل قارئ لماذا لا أسمي الوردة وردة وأستخدم المصطلح التعايش الطوباوي بين الدينين؟

لا يعود السبب إلى أن اليهود في ظل الإسلام قد تعرضوا إلى اضطهاد متكرر. في الحقيقة، ومن هذه الناحية، لقد عانوا من خوف وقلق أقل بكثير مما عاناه أخوتهم اليهود الأوربيون الذين اعتقدوا أن المسيحية أرادت إما أن تقضي عليهم أو تنفيهم، أو على الأقل تحدد حرياتهم الدينية والمادية.

إن السبب يعود إلى أن اليهود في ظل الإسلام حتى في القرون الكلاسيكية وهي فترة الازدهار الأمني والاقتصادية والثقافية شعروا بأنهم يعيشون في المنفى، في Galut. وربما قد لاموا أنفسهم كما هو شأن اليهود منذ الأزمنة الإنجيلية الذين رأوا أن كالوت Galut إنما هو عقاب من الله لآثامهم. ولكنهم شعروا بعذاب المنفى وهذه الحقيقة أُسْتُحْضِرَتْ من جديد مع كل سلسلة اضطهاد.

وبالإضافة إلى ذلك، كان الاضطهاد خفيفاً ومتفرقاً ومتباعداً. وكَالوَتْ إسماعيل على خلاف كَالَوتْ أدوم والذي جاءت منه المسيحية حسب ما جاء في المدرش(التفسير اليهودي للنصوص المقدسة) لم يصل إلى درجة الإقصاء والإبعاد والاستثناء وهذا جعل من الممكن تحمله بعض الشيء.

وهذا لا يعني أن يهود الإسلام سلّموا بالظلم والاضطهاد أو قبلوا به برباطة جأش. على العكس تماماً. ولكنهم لم يتوقعوا أن يعاملوا بالمساواة( كما ظن يهود ألمانيا في القرن التاسع عشر أنهم كانوا يعاملون بالمثل). لقد اعتقدوا أنهم طالما التزموا بالتعليمات والحدود التي فرضها عليهم القانون الإسلامي، فانهم سيُحْمَون وسيأمنون من الأذى.

ولقد تبين صدق هذا الاعتقاد حين تجاوز اليهود وخالفوا الحدود مثلاً بارتداء الملابس بسرف وبذخ أو العمل في وظائف مناصب حكومية لها سلطة على المسلمين، و لهذا فقد عوقبوا من قبل السلطات الإسلامية لمخالفتهم للاتفاقية الثنائية المعروفة بميثاق عمر.

وعلى أي حال فإن هذه الأمثلة المتفرقة لاضطهاد الحكومة لهم تؤكد ثبات ورسوخ نظام الذمة وجعل اليهود أقل قلقاً وخوفاً ورهبةً من الاضطهاد العشوائي. لهذا وذاك وبالإضافة إلى الاندماج الاقتصادي الذي تمتع به اليهود في القرون الكلاسيكية كل ذلك جعلهم ينفتحون ويشتركون في ثقافة جيرانهم العرب المسلمين في تلك الفترة الرائعة من التاريخ اليهودي من وجهة النظر هذه قبل النهضة الأوربية.

الخاتمة

من المؤسف ان الإسلام اليوم تبنى عدداً من صفات وخواص معاداة السامية الأوربية. إن أول من نشر معاداة السامية على الشاكلة المسيحية في الشرق الأوسط هم المسيحيون العرب في القرن التاسع عشر. وفيما بعد تأسْلَمَتْ كراهية اليهود هذه أي اتخذت طابعاً إسلامياً مدعوماً بخليط غليظ من نصوص معادية لليهود من المصادر الإسلامية، تلك النصوص التي لم يكن من أهمية لها ولا تأثير لها على معاملة المسلمين لليهود في القرون السابقة.

أنه من المؤسف حقاً أن ما يُسَمّى بالأصولية الإسلامية اختارت دولة إسرائيل كأحد أهدافها الرئيسية. إن ما ندعوه اليوم بالأسلاموية أو ظاهرة الإسلام الراديكالي ـ وهي اصطلاحات أفضل لظاهرة العودة إلى أصول الإسلام ـ ركّزَتْ وسَلّطَتْ غَضَبها في بداية نشأتها في القرن الثامن عشر على الحكّام و الأنظمة العلمانية أو تلك التي تبدو كافرة أو التي تتصف بصفات غربية وليس على اليهود.

وبالنسبة لليهود يبدو هذا بالطبع كنسخة طبق الأصل للكره والبغض الأوربي من القرون الوسطى التقليدي لليهود. ولسوء الحظ فقد عتّمَ هذا على أي فهم متوازن لماضي الإسلام الحقيقي ومواقفه وسياسته المتسامحة المتساهلة تجاه اليهود والأقليات غير المسلمة الأخرى.

وهنالك عدد كبير من اليهود داخل إسرائيل وخارجها في الشتات يعتقدون أن الإسلام معادٍ للسامية بالفطرة وان المسلمين قد كرهوا واضطهدوا اليهود منذ زمن محمد وأن الإسلام هو العدو الأبدي للشعب اليهودي. وهنالك عدد( ولكن ليس جميعهم) من اليهود من البلاد العربية الذين يعيشون الآن في إسرائيل استبدلوا ذاكرة القبول الإسلامي لليهود وفترة الانسجام الكبير في الماضي ببغض ومقت شديد ضد الإسلام في الوقت الحاضر.

يجب أن تبذل الجهود في كل أنحاء العالم سواء في الشرق الأوسط أو أوربا أو أميركا من أجل تشجيع فهم أكثر توازناً للعلاقات اليهودية الإسلامية في القرون الوسطى وذلك بدعوة المسلمين واليهود (ومن ضمنهم إسرائيليين) جميعاً معاً من أجل استكشاف الثقافة المشتركة في الماضي.

ويمكن أن تلعب ألمانيا دوراً كبيراً في هذا الشأن سواء من خلال البرامج الموجودة حالياً مثل تلك الموجودة في Wissenschaftskolleg في برلين وفي معاهد ومؤسسات أخرى أو في مشاريع مستقبلية مثل تلك التي أقترحها حديثاً ولف لبنيز ونفيد كيرماني.

إذا انتهى يوما ما الصراع بين العرب واليهود بصورة تامة، عندئذ سييُصْبِحَ ممكناً رؤية الماضي مرة أخرى ليس، بالطبع، كتعايش طوباوي بين الدينين ولكن كزمن عاش فيه اليهود مغروسين في مجتمع إسلامي في تعايش خلاّق مشتركين في أمور كثيرة ومتحررين إلى درجة كبيرة من البغضاء ومعاداة السامية التي عانى منها إخوانهم في الأراضي المسيحية.

بقلم مارك كوهين، أستاذ دراسات الشرق الأدنى والتاريخ اليهودي في جامعة برنستن في الولايات المتحدة الأميركية. نشر المقال باللغة الألمانية في صحيفة فرانكفورتر ألكمانية تسايتونغ بتاريخ 25.10.2003

الترجمة عن الإنكليزية كامل الزيادي