لماذا فشلت محاكمة الاستبداد بعد ثورات الربيع العربي؟

قادة عرب تم قتلم أو توفو بعد الربيع العربي. معمر القذافي وبن علي التونسي وعلي عبد الله صالح. الصورة ب د ا
قادة عرب تم قتلم أو توفو بعد الربيع العربي. معمر القذافي وبن علي التونسي وعلي عبد الله صالح. الصورة ب د ا

لم يحاكم أي من الديكتاتوريين العرب بعد الربيع العربي على صناعتهم لدول بوليسية نشرت الخوف بين المواطنين، كما لم يحاكموا على تدميرهم لمؤسسات الدولة ولقواعد المواطنة والسلم الاجتماعي. تعليق المحلل السياسي اشفيق ناظم الغبرا

الكاتب، الكاتبة : Shafeeq Ghabra

تابعت سلسلة المحاكمات لعدد من قادة العالم العربي ممن أسقطتهم حراكات المجتمعات العربية ومطالباتها بالحرية والإصلاح السياسي خلال الربيع العربي.

وإذا ألقينا نظرة فاحصة على هذه المحاكمات ومعناها التاريخي وأثرها المستقبلي على الدول العربية، سنصل إلى استنتاج بأن هذه المحاكمات لم تتعامل بشمولية مع مظالم الحقبة الاستبدادية العربية والجرائم التي رافقتها.

إن المحاكمات التي بدأت قبل الربيع العربي عبر محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ثم بعد الربيع العربي عبر محاكمة الرئيس المصري حسني مبارك، ثم مؤخرا محاكمة الرئيس المغلوع حسن البشير في السودان وأركان نظام بوتفليقة وشقيقه في الجزائر، لم تعالج المظالم الرئيسية التي أثارتها الحقب الاستبدادية العربية الحديثة.

وفي السابق مثلا حوكم مثلا صدام حسين على مقتل عدد من الناس في إحدى مناطق العراق، ويحاكم اليوم حسن البشير على مبلغ وصل اليه أو مبلغ إنتقل اليه من الخزينة العامة أو من دول عربية.

لم يحاكم الديكتاتوريون العرب على "خيانة الأمانة" وخيانة "ثقة الناس" بهم، ولم يحاكموا على "سوء استخدام الصلاحيات" وعلى الحروب التي فجروها والإعدامات التي أقروها والقرارات المتسرعة والمتهورة التي صنعوها.

لم يحاكم أي من الديكتاتوريين العرب على صناعتهم لدول بوليسية نشرت الرعب والخوف بين المواطنين، كما لم يحاكموا على تدميرهم لبنية المجتمات العربية وتحويلهم الأخ للتجسس على أخيه والابن على أبيه، والشقيق على شقيقته. بل لم يحاكموا لتحويلهم المجتمعات لأمكنة فاقدة للروح والمبادرة والحس بالكرامة الإنسانية. لقد حول المستبدون العرب حلم كل شاب وشابه نحو الهجرة والهرب من تلك الأوطان المكسورة والأنظمة المتحجرة.

 

اقرأ/ي أيضًا | حوار مع الباحث الألماني المرموق أودو شتاينباخ

التطبيع مع العنف وموت السياسة في العالم العربي

ضعف الوعي بالحقوق الإنسانية والحريات الأساسية بين النخب

رغم الاستبداد والتطرف الديني...توق العرب والمسلمين الى الحرية وتحقيق الديمقراطية

 

 

[embed:render:embedded:node:36126]

"اعدام صدام لم يكن سوى انتقام أكثر منه محاكمة حقيقية تبرز الوجه الحقيقي للاستبداد"

محاكمة الرئيس العراقي صدام حسين بعد 2003 كان يجب أن تشمل سوء استخدامه للسلطة من خلال شنه الحرب تلو الحرب من إيران إلى الكويت. بل كان يجب أن يحاكم الرئيس العراقي على الفتك بالانتفاضة العراقية في العام 1991، وعلى عدم تجنيب العراق للكوارث وصولا لسقوطه بالكامل تحت الاحتلال الأمريكي.

بل كان يجب أن يحاكم الرئيس السابق صدام على جرائمه بحق رفاقه وأصدقائه ونخب العراق في حزب البعث وخارج حزب البعث، كما كان يجب ان يحاكم على المظالم التي مارسها بحق الاكراد والشيعة وكل معارضيه من سنة العراق. لم يكن اعدامه بعد محاكمات شكلية قرارا صائبا، فذلك الاعدام لم يكن سوى انتقام أكثر منه محاكمة حقيقية تبرز الوجه الحقيقي للاستبداد.

من جهة أخرى كان من محاكمة للرئيس السابق حسن البشير فيجب أن تشمل كل الحقبة أيضا بدءا من الانقلاب العسكري، الذي قام به ضد حكومة ديمقراطية منتخبة في العام 1989، مرورا بانتهاكات حقوق الانسان، كما أن البشير تسبب بخسارة جنوب السودان، وتسبب بانهيار الدولة وحروب أهلية ومجازر على يد الميليشيات التي أنشأها. يجب أن نتذكر أن الرئيس البشير متهم منذ 2009 من قبل محكمة الجنايات الدولية بجرائم ضد الإنسانية بسبب حرب جيشه في دارفور.

 

اقرأ/ي أيضًا |

الطغاة العرب بين ''عدالة الشعب'' وعدالة المحاكم

شبح القذافي يعرقل التحول الديمقراطي في المجتمع الليبي



"الثورة العربية، عشرة دروس عن الانتفاضة الديمقراطية" للباحث الفرنسي جان بيير فيليو

 

 

"من أين لك هذا"

وفي الوقت نفسه: محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك ما كان يجب أن تركز فقط على مسألة واحده بقدر ما كان المطلوب محاكمة المرحلة بكل تجاوزاتها وفسادها.

ألا يتطلب "من أين لك هذا" وتوريث الحكم في نظام جمهوري محاكمة نزيهة وشاملة؟ ماذا عن تحويل الدولة المصرية إلى دولة بوليسية؟ ماذا عن انتهاكات حقوق الإنسان الممنهجة التي قامت بها الأجهزة الأمنية؟ ماذا عن القتل الهمجي كما حصل مع المدون خالد سعيد الذي تحول لأيقونة الثورة؟

نتساءل كيف يصنع الفقر في مصر، فإن لم يكن النظام مسؤولا عن تفشي الفقر ونظام المساعدات الدولية، والبطالة، فمن المسؤول؟

من المسؤول مثلا في زمن الرئيس مبارك عن سجن كريم عامر، وذلك التدمير النفسي الذي وقع له في سجون مصر لمدة وصلت لثلاث سنوات بدأت في 2006؟ وماذا كانت تهمة عامر كريم وعشرات غيره سوى "الاساءة لذات الرئيس" بينما اقحمت له تهمة تتعلق بالإسلام.

لكن المظالم وسوء المعاملة في داخل السجن لم تعرف حدودا، وقد كتب فيما بعد عن ضابط السجن الذي اعتدى عليه وابقاه حبيسا. أين كريم عامر اليوم، وماذا يحصل لضحايا هذه الانظمة فاقدة الانسانية؟

 

 

 

"حول المستبدون العرب حلم كل شاب وشابه نحو الهجرة والهرب من تلك الأوطان المكسورة والأنظمة المتحجرة"

منذ أيام شاهدت فيلما وثائقيا من صناعة كريم عامر وذلك بعد أن هاجر من مصر ودنيا العرب الى أوروبا. ما لا يعيه الحاكم العربي أن المظالم وما تثيره تغطي مساحات الكون، وهي مظالم ممتدة ومستمرة، لأنها لم تحاكم ولم يتم التعامل معها.

كيف نتخلص من الاستبداد ان لم نحاكمه من خلال معرفتنا بواجبات الحاكم ودوره ومسؤولياته تجاه شعبه. بلا محاكمة الأفعال سيعود الاستبداد بحلة جديدة وشكل جديد وسيأخذ معه ما تبقى من عوالم العرب.

إن أحد أخطر المسائل الملتبسة في الواقع العربي هي علاقة العرب بالدولة. فالدولة كانت ولازالت أداة للإثراء وللقمع واداة للفرض وللفساد، هذا لا يعني ان الدولة والنظام السياسي لا يقومان بالتنمية في بعض الحالات، لكن تلك التنمية تقع بسبب تقاطع المصالح وليس بسبب غاية هدفها المجتمع والنهوض بالشعوب.

وفي الواقع فإن تهمة تدمير الشعب وتدمير الدولة هي التهمة الحقيقية للمستبدين العرب. هذا لا يعني سجن الرؤساء كما يريد البعض أو تصفيتهم كما حصل مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي أم إعدامهم كما حصل مع صدام حسين، فذلك انتقام لا ينهي الاستبداد، بل الأهم محاكمة المرحلة برموزها وثقافتها وببشاعتها وذلك بهدف بناء حاله لا تنهي الاستبداد وأمراضه.

 

العرب في هذه المرحلة في حالة بحث عن الإصلاح الجاد والتغير الأشمل بهدف الخروج من البئر المغلق الذي وضعهم فيه المستبدون العرب.

 

 

شفيق ناظم الغبرا

حقوق النشر: قنطرة 2019

شفيق ناظم الغبرا محلل سياسي معروف وأستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت.