
الرسومات الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد في صحيفة ''تشارلي إبدو'' الفرنسية:نشر الرسومات المسيئة سكب للزيت على النار
لم يكن الفوضويون اليساريون والقائمون على صحيفة "تشارلي إبدو" سيتصوَّرون في الأيَّام الأولى من عمر صحيفتهم ما سيحدث ولا حتى في أعمق أحلامهم التي يرون فيها أنَّ المعنيين في البيت الأبيض يرتجفون منهم، وأنَّهم أصبحوا الآن موضوع الحديث في قصر الإليزيه! وصحيح أنَّ الأمور لم تصل في الواقع تمامًا إلى هذا الحدّ، ولكن في الحقيقة إنَّ صحيفة تشارلي إبدو الساخرة التي أسَّسها قبل ردح طويل من الزمن بعض الشباب الفرنسيين اليساريين المتطرِّفين قد احتلت في الأيَّام الأخيرة مكانًا لها في جدول أعمال السياسة الخارجية؛ حيث ردَّت الإدارة الأمريكية على الرسومات المسيئة التي نشرتها هذه الصحيفة وكذلك أيضًا رئيس الوزراء الفرنسي جان مارك إيرولت ووزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس.
ولكن هذا لم يكن كافيًا، إذ تعيَّن إغلاق بعض المدارس الفرنسية بشكل مؤقت وكذلك إغلاق بعض القنصليات والسفارات والمؤسَّسات الثقافية الفرنسية في عشرين دولة تعدّ غالبية سكَّانها من المسلمين - من منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط وأفغانستان وباكستان وحتى إلى إندونيسيا. لقد كانت الأجواء هادئة لفترة طويلة فيما يتعلَّق بصحيفة تشارلي إبدو الساخرة، إذ فقدت هذه الشعلة اليسارية في نهاية التسعينيَّات راديكاليَّتها التي كانت تميِّزها في السابق. وأدَّى حينها دعم الصحيفة لتدخل حلف الناتو في حرب كوسوفو إلى خلق خلافات وفيما بعد إلى استقالة العديد من المحرِّرين. ولم يبقى من هذه الصحيفة إلاَّ لهجتها الاستفزازية وموقفها الواضح في مناهضتها الكنيسة والدين.
التحريض علامتها التجارية
وفي تلك الأيَّام نشرت على صفحتها الأولى رسمًا كان المقصود فيه النبي محمد وهو يقول: "ما أصعب هذا القدر حينما يحبّك المغفَّلون". ولذلك تقدَّمت جمعيَّتين إسلاميَّتين ضدّ صحيفة تشارلي إبدو بشكوى أدَّت في شهر شباط/فبراير 2007 إلى محاكمة قضائية. ولكن في آخر المطاف تمت تبرئة صحيفة تشارلي إبدو من تهمة "التحريض على العنصرية". وفي بداية شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2011 نشرت الصحيفة طبعة تحمل عنوان Charia Hebdo "الشريعة الأسبوعية". وبحسب ما ذكرت هيئة التحرير فقد كان هذا ردًا على نية العمل بالشريعة الإسلامية في كلّ من تونس وليبيا.
أساطير سياسية وتفسيرات خاطئة
وفي فرنسا تم إضرام النار في مبنى صحيفة تشارلي إبدو ردًا على الإعلان عن الطبعة التي نشرت فيها الرسومات المسيئة للنبي محمد. وتم كذلك إغلاق موقعها الإلكتروني بشكل مؤقت من قبل قراصنة على شبكة الإنترنت. واتَّضح الآن أن هؤلاء القراصنة الذين هاجموا موقع الصحيفة الإلكتروني كانوا من تركيا. والآن تثير صحيفة تشارلي إبدو وللمرة الثالثة على التوالي الحديث حولها من خلال عناوينها التي تتعرَّض للإسلام. وحتى الآن أثارت هذه الخطوة ردود فعل معظمها رافضة لدى الكثيرين من اليساريين الذين يقدِّرون هذه الصحيفة الساخرة كثيرًا أو قليلاً. كما أنَّ الكثيرين يعتقدون أنَّ هذه الصحيفة تسعى ببساطة في ظلِّ الأزمة الاقتصادية الحالية إلى زيادة حجم مبيعاتها.
الاستفزاز كاستراتيجية للتسويق
وبالنسبة للحكومة في باريس تعتبر قضية صحيفة تشارلي إبدو مهمة خاصة فيما يتعلَّق بالأمن. حيث يخشى المسؤولون من أنَّ الاحتجاجات الموجَّهة قبل كلِّ شيء ضدّ الولايات المتَّحدة الأمريكية والمنظَّمة بصورة جزئة من قبل حركات سياسية مثل الجماعة السلفية في شمال إفريقيا وآسيا يمكن أن يتم توجيهها الآن ضدَّ فرنسا أيضًا. ولذلك حذَّر وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس الذي علم بنشر صحيفة تشارلي إبدو لهذه الرسومات المسيئة أثناء وجوده في القاهرة من "سكب الزيت على النار". وعلى الرغم من وصف رئيس الوزراء الفرنسي جان مارك إيرولت حرِّية التعبير باعتبارها "حقًا أساسيًا"، إلاَّ أنَّه نوَّه في الوقت نفسه إلى استخدام هذه الحرِّية بشكل يعي بالمسؤولية.
وفي المقابل حصلت هذه الصحيفة الساخرة على الدعم من معسكر اليمين السياسي؛ إذ صرَّحت زعيمة حزب "الجبهة الوطنية" مارين لوبان في صحيفة لوموند قائلة إنَّها في الواقع ليست من قرَّاء تشارلي إبدو ولكن حرِّية التعبير على حدِّ قولها مهدَّدة وذلك لأنَّ المعنيين قد استجابوا كثيرًا جدًا لضغوطات الأصوليين. ولكن هذا لم يكن كافيًا، إذ إنَّ هذه السياسية التي نصَّبت نفسها مدافعة عن الحرِّيات تسعى في كلِّ فرصة إلى مزيد من التصعيد السياسي، وذلك من خلال دعوتها إلى فرض حظر على حجاب المسلمات وطاقية اليهود في الأماكن العامة.
برنهارد شميد
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012