تونس... نهاية عقد "التوافق" بين العلمانيين والإسلاميين

فاقم إعلان الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، نهاية "التوافق" مع حزب النهضة الاسلامي من الاحتقان السياسي في البلاد، التي تعيش منذ أشهر على وقع أزمة سياسية خانقة، ومشاكل اقتصادية واجتماعية كثيرة. الصحافي إسماعيل دبارة يسلط الضوء لموقع قنطرة على أسباب وتداعيات حالة الاحتقان الأيديولوجي التي تعاني منها الدولة التونسية.

الكاتبة ، الكاتب: Ismail Dbara

أعلن الرئيس التونسي السبسي نهاية التوافق السياسي مع حليفه في الحكم، بسبب خلاف بين الطرفين على بقاء الحكومة من عدمه، كما جدد دعوته لرئيس الحكومة يوسف الشاهد للتوجّه إلى البرلمان لنيل الثقة، لكن لا يبدو أنّ لهذه القطيعة استتباعات خطرة كما في السابق، نظرا لتغيّر معطيات كثيرة.

دام التوافق بين العلمانيين والاسلاميين في تونس 5 سنوات، ورغم كونه توافقا هشا و"مغشوشا" بين الخصوم/ الأعداء، فإن المراقبين يعتبرون ذلك التوافق بمثابة "الوصفة السحرية"، التي جنّبت تونس مصير ليبيا واليمن وسوريا، رغم أن هذه التجربة مازالت غير مكتملة وبلا مؤسسات دستورية راسخة.

بداية النهاية

شهد العام الحالي مؤشرات كثيرة توحي بأن نهاية التوافق قد اقتربت، أو أنّ شروط استمرار التوافق بصدد الانتفاء، إذ تغيّرت الخارطة السياسية بشكل جذري، فالحزب الأوّل من حيث عدد النواب (نداء تونس) لم يعد أولاً، ولا حتى ثانيًا، بعد موجة استقالات لنوابه، أحدثت شروخا بالغة في هذا الحزب الحاكم الذي أسسّه الرئيس السبسي بهدف تحقيق التوازن في المشهد السياسي بعد فوز الإسلاميين بالانتخابات وهيمنتهم على الخارطة الحزبية في البلاد.

وكان من الطبيعي أن يستغل الاسلاميون هذا التشظي، الذي أصاب "الحليف" فصارت حركة النهضة مؤخرا تصدح بمواقف مناهضة لخط "التوافق" الذي سارت عليه منذ أغسطس 2013.

أعلن حزب "نداء تونس" الحاكم في بيان نشره يوم 14 أيلول/سبتمبر 2018 تعليق عضوية رئيس الوزراء يوسف الشاهد بعد رفضه الإجابة على استجواب داخلي للحزب يتهمه فيه بالخروج عن الخط الحزبي، وهو ما اعتبره المراقبون تصعيداً جديداً للخلاف بين الشاهد ونجل الرئيس التونسي، حافظ قائد السبسي، الذي يشغل منصب الرئيس التنفيذي للحزب، مهد للقطيعة بين السبسي وحركة النهضة.
أعلن حزب "نداء تونس" الحاكم في بيان نشره الجمعة (14 أيلول/سبتمبر) تعليق عضوية رئيس الوزراء يوسف الشاهد بعد رفضه الإجابة على استجواب داخلي للحزب يتهمه فيه بالخروج عن الخط الحزبي، وهو ما اعتبره المراقبون تصعيداً جديداً للخلاف بين الشاهد ونجل الرئيس التونسي، حافظ قائد السبسي، الذي يشغل منصب الرئيس التنفيذي للحزب، مهد للقطيعة بين السبسي وحركة النهضة.

ومن المؤشرات الأخرى التي أوحت بقرب اعلان القطيعة، نذكر مبادرة الرئيس السبسي لإقرار المساواة في الميراث بموجب قانون لم يُعرض بعدُ على البرلمان.

فهمت النهضة أنّ المبادرة تستهدف احراجها و"ابتزازها" سياسيا ورفضتها بشكل صريح، فموضوع الميراث حساس للغاية في أدبيات الإسلام السياسي، وبات الطلاق بين حليفي الأمس، أقرب من أي وقت مضى، خاصة مع تركيز حملات اعلامية وافتراضية تبادل خلالها الطرفان الاتهامات والاساءات، إلى أن تصادما بشكل أوضح بخصوص بقاء رئيس الحكومة الحالي يوسف الشاهد المختلف منذ أشهر مع ابن الرئيس والمدير التنفيذي لحزب "النداء"، حافظ قائد السبسي، والذي يُنظر اليه على أنه "الوريث" المحتمل لأبيه، وأنه هو من تسبّب في انقسام الحزب وهجرة قياداته وكوادره، بسبب سوء الادارة وهيمنة منطق "العائلة".

السبسي لم ينته!

المتابع لنشاط الباجي قائد السبسي السياسي منذ عودته للمشهد في العام 2011 بعد عزلة استمرت سنوات كثيرة، قد يدرك أنّ هذا السياسي العجوز والذي تربى وشارك في تشييد بيئتين استبداديتين بعمله مع الرئيسين بورقيبة وبن علي، لن يستسلم بسهولة ولن يرفع الراية البيضاء بعد فشل جهوده، وجهود ابنه، في عزل يوسف الشاهد من رئاسة الحكومة.

فهو القائل "لن يحكم معي أحد!" وهو القائل أيضا "أعرف ماذا أفعل!" وزلاته أمام الاعلام توحي بشخصية صعبة المراس لا ترضخ بسهولة، بل إن كثيرين يرون تمسّكه بالترشح للرئاسة في سن متقدمة، مردّها رغبة جامحة في تسديد دين قديم للنهضة، التي وعدته بالرئاسة ثم تنصّلت من وعدها وفضّلت عنه حليفها السابق المنصف المرزوقي، فأسس حزبا وعاد في العام 2014 رئيسا شرعيا منتخبا!

بالمقابل، بدا السبسي ضعيفاً وغير مُقنع في حواره التلفزيوني وهو ينهي علاقاته بالإسلاميين ويحضّ رئيس الحكومة – الذي اقترحه بنفسه لهذا المنصب - على التوجّه للبرلمان لنيل الثقة، فالثقة شبه مضمونة للشاهد بوجود حزام سياسي كبير يشمل نواب النهضة ونوابا آخرين انشقوا عن "نداء تونس" وشكلوا كتلة برلمانية جديدة، إضافة إلى دعم خارجي كبير يحظى خاصة من الجهات المانحة التي تبارك سياسات الخصخصة التي يتبناها يوسف الشاهد.

 

ما الذي دفع الرئيس السبسي إلى إعلان القطيعة الآن، في حين ظلت "النهضة" تنكرها أصلا؟

عام أخير تبقى للسبسي في رئاسة الجمهورية، يبدو أنه سيستغله لترميم بيته الداخلي ووقف نزيف الاستقالات من حزبه، ومن المرجح أنه سيتولى بنفسه هذه المهمة التي فشل فيها ابنه، وقد يضطر كذلك للمسارعة إلى تقديم قانون الميراث لمزيد الضغط على النهضة ودفع الكتلة البرلمانية الجديدة التي تساند الشاهد لتحديد موقفها "الأيديولوجي" من النهضة، إذ من الصعب أن تتفق هذه الكتلة غير المتجانسة مع الإسلاميين الا في ضرورة بقاء رئيس الحكومة في منصبه، أما ما دون ذلك، فالاختلاف واضح وجوهري، فكثير من هؤلاء النواب استقالوا من حزب الرئيس بسبب توافقه مع الإسلاميين، وربما تدرك حركة النهضة أنه لا يمكن التعويل على هذا الصنف لتعويض حليف قوي وموثوق كالرئيس السبسي.

أما السبسي، فسيعمل حتما على دق إسفين بين الطرفين، وايجاد تمايز بينهما ومنع تقارب "أبنائه" المستقيلين من حزبه مع الاسلاميين، ولن يجد أفضل من طرح قانون الميراث لفعل ذلك، ولا يُستبعد أن يكثّف من تنسيقه مع المركزية النقابية القوية والتي تطالب بدورها برحيل يوسف الشاهد وتهدد بالإضراب العام الشهر المقبل.

النهضة تتمسك بـ"التوافق"

في خضمّ مناورات السبسي للبقاء فاعلا في المشهد التونسي رغم صلاحياته المحدودة بموجب الدستور الجديد، حرص الطرف الإسلامي على تأويل تصريحات الرئيس بشكل مغاير. فقد أبدت "النهضة" في بلاغ رسمي تمسكها بخيار التوافق، وجددت اشادتها بالرئيس السبسي ودوره في انجاح الانتقال الديمقراطي، وأكدت أن الاختلاف في وجهات النظر حول عدد من القضايا التي تعيشها البلاد وفي مقدمتها الاستقرار الحكومي لا يعني تنكرها للعلاقة المتينة التي تربطها برئيس الجمهورية.

وصبّت تعليقات قادة النهضة في الاعلام جميعها في هذا الاتجاه، رغم تأكيد السبسي أنّ التوافق في تونس انتهى بطلب من النهضة وليس العكس.

وأيًا يكن الأمر، يدرك حزب النهضة الاسلامي أنّ التعايش مع العلمانيين لم يعد خيارا خاضعا لتوازنات المشهد الحزبي، فتقلّص دور الحزب الفائز أولا في انتخابات 2014، يؤكد أن ذلك التوافق الهشّ كان عبارة عن "تحالف تكتيكي" بين حزبين ينتهي بانتهاء سياقاته.

أما تقاسم السلطة بين العلمانيين والإسلاميين، فمن الواضح أنه سيتمر سواء بضغط من اكراهات الداخل أو بضغط من الخارج الذي يحتضن التجربة التونسية ويروم تقديمها كقصة نجاح في منطقة ملتهبة بالنزاعات والحروب.

 

إسماعيل دبارة

حقوق النشر: قنطرة 2018