إسلاميو ما بعد الثورات: بداية نهاية الأيديولوجيا

يقدم الكاتب والإعلامي المعروف خالد الحروب في هذه المقالة قراءة لنتائج فوز الإسلاميين في مصر وتونس والمغرب، كما يوضح كيف أن الشعوب في نهاية الأمر ستحكم على إنجازات هذه الحركات بعيدا عن الأيديولوجيا وشعار "الإسلام هو الحل".



تؤكد نتائج الانتخابات في بلدان ما بعد الثورة التوقع السائد منذ فترة طويلة وهو أن المرحلة القادمة في المنطقة العربية ستتميز بوجود الإسلاميين في السلطة في شكل أو في آخر وفي أكثر من بلد عربي. فوز الإسلاميين في الانتخابات المصرية يأتي بعد فوز حزب العدالة والتنمية الإسلامي في المغرب والذي جاء بدوره بعد فوز حركة النهضة في تونس. في ليبيا هناك توقعات غير بعيدة عن الواقع بفوز مشابه أو قريب للإسلاميين في حال تنظيم أية انتخابات. في الأردن واليمن والجزائر لا أحد يقلل من حجم التيارات الإسلامية وإمكانية حصولها على نسب عالية في أية انتخابات.

وعلى رغم أن تجربة الاسلاميين العرب في الحكم ليست مشرقة، على الأقل في الحالتين اللتين شهدناهما في السنوات الماضية في السودان وغزة، إلا أن ذلك لم يقلل من التأييد الشعبي لهذه التيارات. وربما يُفسر ذلك جزئياً بإحالة فشل هاتين التجربتين إلى العوامل الخارجية والعلاقات مع العالم والمحيط أكثر مما أحيل إلى قدرة الإسلاميين وكفاءتهم في الحكم. وهكذا تبدو الشعوب العربية مصرة على خوض مغامرة تسليم أمور الحكم إلى الإسلاميين لحقبة من الزمن. وتحتاج هذه الشعوب إلى تجربة حقيقية وعريضة مع الإسلاميين حتى تستطيع الحكم عليهم بموضوعية بعيداً عن العاطفة الدينية والتأييد شبه الأعمى.

يقول كثير من الإسلاميين أن دورهم قد جاء ومن حقهم أن يحكموا بعد أن حكم القوميون والليبراليون والاشتراكيون والمحافظون التقليديون في البلدان العربية. هنا ليس ثمة أية مشروعية للشك في ذلك الحق ما دام يأتي من طريق الديموقراطية والانتخابات. أي ديموقراطي حقيقي لا يستطيع إلا أن يسلم بهذا الحق الديموقراطي، حتى لو كان معارضاً للإسلاميين على طول الخط. لكن ما يظل خاضعاً للجدل والنقاش والتخوف العميق والمُبرر هو منسوب ترسخ اعتقاد الإسلاميين بالديموقراطية وبمضامينها الواسعة والكلية، وخضوعهم لمنطق تداول السلطة سلمياً وعدم التمسك بها فور الظفر بها. هذا التخوف يظل مُشرعاً بانتظار ما تنجلي عنه السنوات القادمة وممارسة الإسلاميين في السلطة. لكن ما يُمكن التأمل به الآن هو تقليب بعض جوانب هذه الفورة الإسلاموية الانتخابية وسيطرتها على الشارع ودفعها للتيارات الناطقة باسمها إلى سدة الحكم، ونتائجها البعيدة الأمد.

 

شعار "الإسلام هو الحل"


أية انتخابات تحصل في أي بلد عربي أو اسلامي تأتي بعد عقود طويلة من فشل دولة الاستقلال الحديثة، وهي الدولة التي نُظر إليها بكونها إماً حامية للتجزئة، أو موروثة عن الاستعمار، أو محكومة من قوى علمانية وغير إسلامية، أو كل ذلك مجمتعاً. وقد نُسب ذلك الفشل واختزلت آلياته المُعقدة وظروفه المُتداخلة إلى سبب تسطيحي تم تسويقه بمهارة فائقة من الإسلاميين وهو "عدم الحكم بالشريعة".

كل الحلول والحكومات والسلطات فاشلة، وفق الإسلاميين، بسبب استبعاد الإسلام من الحكم. ولهذا، فإن الشعار المُبسط والنافذ الذي اعتمده الإسلاميون كان "الإسلام هو الحل". لا يقدم هذا الشعار الغامض والفضفاض اية استراتيجية او برامج سياسية او اقتصادية او علاقات دولية، لكنه بالغ التأثير بكونه يخاطب وجدان الشعوب التي يشكل الاسلام والتدين العام بنية عميقة في وعيها التاريخي. وقد تضاعف تأثير ذلك الشعار بكونه ظل يُطرح من جانب تيارات وحركات تعرضت للقمع والاضطهاد على مدار فترات طويلة وتمثلت صورة الضحية في المخيلة الجمعية العامة. اضيف الى ذلك كله اشتغال الاسلاميين على مسألة تخويف شعوبهم من "التغريب" ومن أشكال الحداثة الجديدة والصادمة واعتبارها تهديداً مباشراً للهوية الاسلامية والدين. وقد تفاعل ذلك التخويف خلال العقود الماضية مُبقياً مسألة الهوية في صدارة اهتمام "الشارع".

وتمكنت التيارات الإسلامية من الاحتماء بها وتصدر موقع الدفاع عنها. وبالتوازي مع ذاك تراجعت مسائل العدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية، والحرية السياسية، والديموقراطية، ولم تحتل نفس الموقع الذي احتلته مسألة الهوية. وهذه الاخيرة هي اقرب الى التعبئة الايديولوجية والتحريض منها إلى اية مقاربة اخرى للحكم والسلطة، وهي تعبئة كان حاملها الفعال شعار "الإسلام هو الحل" الذي يزيح جوهر المسائل والمعضلات بكسل فادح عن الاجندة العامة.

وقد خدم ذلك الشعار الإسلاميين بقوة هائلة في عقود وجودهم في المعارضة، وكان الفشل الذريع للنخب الحاكمة في البلدان العربية في بناء دول ومجتمعات فعالة لا يعمل سوى على تعزيز ذلك الشعار، مضيفاً هالة سحرية انتظارية غيبية تنتظر قدوم المُخلّص حامل الشعار. بالترافق مع ذلك كله عملت مسألة الهوية والدين على تدعيم ادعاء صريح او ضمني عند الحركات الإسلامية بأنها تنطق باسم الدين وتمثله. وهو ما دفع عموم الناس إلى الاحتماء بالإسلاميين بكونهم حماة الدين.

الاختبار الحقيقي

الصورة د ب ا
عبد الاله بن كيران أمين عام حزب العدالة والتنمية حاول ارسال تطمينات بعدم التراجع عن الحقوق والحريات في البلاد

​​

في الحقبة القادمة ستتعرض هاتان المسألتان، أو الآليتان: شعار "الاسلام هو الحل"، والنطق باسم الدين، وما تمثلانه من حمولة ايديولوجية، إلى اختبار علني وشامل في مختبر الوعي الشعبي. ربما يأخذ هذا الاختبار ردحاً من الزمن، وقد يلتهم عمر جيل بأكمله، لكن يبدو انه لم يعد ثمة مناص منه وعبور هذه المرحلة التاريخية من عمر الشعوب العربية كي يتحول وعيها تدريجاً من الهوس المُبالغ فيه بالهوية الى وعي الواقع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. او بلغة اخرى أن يتحول وعي الشعوب والرأي العام من طوباوية تعليق الآمال على شعارات ايديولوجية حالمة إلى مواجهة الواقع ومحاكمة الأحزاب والحركات بناء على ما تقدمه من برامج فعلية وحقيقية على الأرض.

ليس هناك أي حل سحري أو طريق مختصر يقود إلى إنجاز عملية معقدة ومركبة مثل تحديث وتعميق الوعي الشعبي وتظهير معظمه من سيطرة الشعارات الجامحة. الحل الوحيد هو التجربة العملية والانخراط في الواقع وتنزيل الشعارات الايديولوجية من عليائها إلى أرض التطبيق. عندها تتضاءل مفاعيل التعبئة الايديولوجية التي تتبناها الأحزاب والحركات، ويخفت بالتالي تأييد هذه الحركة أو تلك استناداً إلى الهوية الدينية أو الشعار الايديولوجي الذي تحمله. يصبح التأييد وعدمه محكومين بالإنجاز السياسي والاقتصادي وسواه. وعندها فقط تسير المجتمعات نحو تسييس صحي ومتوازن وحقيقي، ومن دون شك أن ذلك سيتطلب مرحلة طويلة وربما مريرة أيضاً.

الصورة د ب ا
المرشح الشاطر من الإخوان المسلمين في مصر

​​في حقبة الاختبار القادم للتيارات الإسلامية وهي في سدة الحكم سيتم، بالجملة أو بالتدريج، نزع الصفة التمثيلية للإسلام التي أُلصقت بالتيارات للإسلامية، سواء بسبب ادعاء هذه الاخيرة تلك الصفة، أو كتحصيل حاصل لمجموعة من الظروف والعوامل. وعندما يتوازى تحييد تمثيل الحركات الإسلامية للدين مع التطور الجماعي والشعبي في طرائق تقويمها، أي بناءً على السياسة والإنجاز وليس الهوية والنسبة إلى الدين، فإن الامر المفصلي الذي سيتطور هو تعزيز الفصل بين هذه الحركات واحتكارها لتمثيل الدين، أي اعتبارها أحزاباً سياسية من حقها المنافسة السياسية، فيما الدين شيء آخر. ونتيجة لذلك سيتحرر الوعي الشعبي تدريجاً أيضاً من وطأة التأثيم العارم الذي يندلع عشية كل انتخابات ويطارد كل ناخب متدين إن لم يمنح صوته للحركة الإسلامية المُشاركة فيها.

وبالتوازي مع ذلك وأمام التحديات الهائلة التي تواجه المجتمعات العربية كالفقر والعدالة الاجتماعية والتنمية وفرص العمل لأجيال وشرائح الشباب العريضة والمحبطة، فإن المشكلات الحقيقية هي التي ستزحف لتحتل صدارة الأولويات الشعبية على حساب مسألة الهوية المُفتعلة.

مسألة الهوية والخوف عليها ستنكشف وتظهر بكونها مضخمة وتخويفية، وستعود لتأخذ حجمها الطبيعي العفوي التوافقي. ليس هناك خوف على هوية العالم العربي والاسلامي وهي ستدوم كما هي وكما كانت عليه لقرون طويلة. وهذه سمة الهويات والحضارات العريضة والراسخة في العالم، والتي تُستبطن في الثقافة في شكل تلقائي. ستبقى هوية العالم العربي عربية إسلامية كما بقيت هوية وديانة الصين بوذية - شنتوية، وبقيت هوية وديانة أوروبا مسيحية بروتستانتية وكاثوليكية، وبقيت روسيا أرثوذكسية، والهند هندوسية سيخية. هذا بالتوازي وربما على الرغم مع العلمانية السائدة في هذه الحضارات، وإلحاد بعضها. لكن لم تتطور تلك الحضارات وبلدانها، إلا عندما توقفت الهوية عن فجاجتها وأفسحت الطريق للسياسة والتاريخ والتعايش لقيادة المجتمعات.

 

 

خالد الحروب

مراجعة: هشام العدم

حقوق النشر: قنطرة 2011