حرب غزة الثانية تُنبِئ بولادة دبلوماسية شرق أوسطية جديدة

برزت مصر وتركيا كقوتين إقليميتين بنشاطهما السياسي الحثيث في صراع غزة، كما يكتب المحلل السياسي كريم الجوهري، فهما لم تقفا عند حدود إدانة الهجوم الإسرائيلي على غزة، بل تجاوزتا ذلك بسعيهما إلى وضع حد طويل الأمَد لإطلاق النار، وبهذا يستشرف الجواهري نشوء دبلوماسية إقليمية جديدة من شأنها إعادة تشكيل العلاقة بين دول المنطقة وبين إسرائيل والغرب.

الكاتبة ، الكاتب: Karim El-Gawhary

ربما تكون الصور التي نراها في غزة اليوم هي نفسها التي رأيناها قبل أربعة أعوم خلال الحرب في غزة. ولكن على عكس ما حدث آنذاك فإن إسرائيل تجد نفسها اليوم في مهب رياح إقليمية عاصفة تُظهر ايضاً ثقة جديدة بالنفس تتمتع بها قوى المنطقة.

توافُق نادر

يتجلى هذا من بين ما يتجلى في الدبلوماسية العربية الجديدة القائمة على الأسفار، التي لا تهاب زيارة غزة وهي واقعة تحت القصف. البداية قام بها رئيس الوزراء المصري هشام قنديل، ثم أعقبه يوم السبت وزير الخارجية التونسي رفيق عبدالسلام، الذي أطلق إشارة أخرى من إشارات التدخل العربي، بقوله من غزة: "على الإسرائيليين أن يفهموا أن العالم العربي تغير، وأنهم لم يعودوا مُطلَقي اليد، كما أنهم ليسوا محصنين ضد الهجمات، وليسوا فوق القانون الدولي"، مدلياً بتصريحه هذا من أمام أنقاض مقر رئيس وزراء حماس، إسماعيل هنية، الذي دُمِّر في غارة جوية ليلية.

والخطوة التالية هي زيارة لغزة، قرَّر القيام بها وفد من الجامعة العربية برئاسة أمين الجامعة الدبلوماسي المصري نبيل العربي. فقد كان سكان غزة يشتكون قبل أربعة أعوام لأن أخوانهم العرب تخلوا عنهم، أما اليوم فإن رؤساء الوزراء العرب ووزراء الخارجية وقادة الجامعة العربية يتقاطرون على غزة واحداً تلو الآخر.

رئيس الوزراء المصري هشام قنديل ورئيس وزراء حكومة حماس المقالة في قطاع غزة إسماعيل هنية. رويترز
تضامُن مع الفلسطينيين: رئيس الوزراء المصري هشام قنديل زار رئيس وزراء حكومة حماس المقالة في قطاع غزة إسماعيل هنية، وأعلن عن استعداده للتوسط من أجل وضع حد لإطلاق النار.

​​قد يعترض أحدهم قائلاً إن كل هذا يبقى مجرد إشارات لا تُسْمِن ولا تغني من جوع. غير أن القوة الرمزية المنبعثة من تلك الإشارات لا يمكن التقليل من شأنها، وهي تبين أن العالم العربي الرسمي هو الذي يبادر – ولأول مرة - بإعلان موقفه، وليس المتظاهرين في الشوارع فحسب كما كان الحال سابقاً.

الرسالة موجهة أيضاً إلى أوروبا والولايات المتحدة، ومفادها: إذا أردتم أن تبدأوا عهداً جديداً مع العالم العربي الجديد والمتحول، فلم يعد يكفي في الصراع المسلح الجديد في غزة أن تعترفوا بحق إسرائيل المشروع في الدفاع عن النفس مع توجيه الرجاء بعدم قتل المدنيين.

الجبهة الدبلوماسية المعارضة، التي تتشكّل في القاهرة، انضم إليها رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان أيضاً، الذي سافر إلى القاهرة في زيارة سريعة مؤخراً.

"نتانياهو يستغل صمت العالم ليرتكب جرائمه": هذا ما صرّح به إردوغان بوضوح في كلمته التي ألقاها بجامعة القاهرة، أي في المكان نفسه الذي ألقى فيه الرئيس الأمريكي باراك أوباما ذات مرة، بعد توليه منصبه، خطاباً لقي اهتماماً كبيراً، وعد فيه بفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات مع العالم العربي والإسلامي. وأضاف إردوغان في كلمته: "إن إسرائيل تحول المنطقة إلى مستنقع من الدماء، ومصر وتركيا لن تقبلا بذلك".

تحالُف ضد إسرائيل

وبالنسبة لإسرائيل فإن القوى الإقليمية في الوقت الحالي تتحرك بسرعة كبيرة وبوضوح على نحو لا يخدم مصالحها. قبل أربع سنوات كانت تركيا وحدها هي التي تسعى إلى وضع حد لحصار غزة، أما الآن فقد انضمت إليها مصر، القوة الإقليمية الثانية في المنطقة.

دبابة إسرائيلية على مشارِف قطاع غزة. غيتي إميجيس
ذكريات الحروب الماضية: في إطار تبادل إطلاق النار باستخدام صواريخ غزة وغارات إسرائيل الجوية، نشبت حرب بين إسرائيل وغزة، في 27 ديسمبر/ كانون الثاني عام 2008، أسمتها إسرائيل بعملية "الرصاص المصبوب". وفي ذلك الوقت، لقي 1400 فلسطيني مصرعهم، بينهم الكثير من النساء والأطفال. وتم تدمير أكثر من 6200 منزل في غزة. وعلى الجانب الإسرائيلي، لقي 13 شخصا حتفه.

​​ولكن، بدلاً من مجرد إدانة إسرائيل فحسب، يحاول التحالف المصري التركي الجديد المساهمة بشكل فاعل في تشكيل السياسة. ففي القاهرة، التقى أولاً رئيس حركة حماس، خالد مشعل، ورئيس حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية بممثلي جهاز المخابرات المصرية، الذي كان قد توسط، من قبل، من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل. ومن ثم التقى الجميع بأمير قطر وبرئيس الوزراء التركي.

ويتردد في دوائر المفاوضات أن الهدف هذه المرة هو التوصل إلى وقف إطلاق للنيران طويل الأمد، وهذا لا يعني فحسب إيقاف الهجمات الإسرائيلية على غزة وإيقاف إطلاق الصواريخ الفلسطينية تجاه إسرائيل، بل يتضمن أيضاً فتح حدود قطاع غزة، المقطوع عن العالم الخارجي، الذي يعيش فيه مليون ونصف مليون نسمة.

وبهذا لن تُعالَج فقط أعراض المرض الغزاوي، بل أسبابه أيضاً. وهذه هي إحدى النقاط الحاسمة لدى الجانب الفلسطيني، الذي يريد الحصول على ضمانات من أطراف غير الطرفين المصري والتركي. وهكذا يجد المصريون والأتراك أنفسهم في دور مَن يبحث عن تلك الضمانات في أوروبا أو في الولايات المتحدة. وبذلك قد تنفتح قناة كبيرة للمحادثات غير المباشرة بين حماس وإسرائيل، تحت رعاية وسطاء من المنطقة نفسها.

دبلوماسية جديدة

أحد ممثلي جهاز المخابرات المصري عبّر عن الأمر بطريقة إيجابية قائلاً: "لقد وجدنا قاسماً مشتركاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكن ما زال هناك عمل ينبغي إنجازه لضمان احترام وقف إطلاق النيران وعدم تجدُّده قريباً". وحتى الآن لم تعلن إسرائيل أو حماس عن موقفهما تجاه جهود مصر وتركيا في التوسط.

لكن الجديد هو أن المنطقة لم تعد تكتفي بالتحديق بالولايات المتحدة وأوروبا، بسلبية وعجز، ولم تعد تنتظر وتتطلع إلى تدخل دبلوماسي إيجابي منهما. وبات الصراع في غزة هو ساعة ولادة لدبلوماسية إقليمية جديدة تبحث عن حلول بنفسها.

هنا لا تتغير موازين القوى بين إسرائيل والقوى الإقليمية فحسب، بل إن العلاقة تتشكل من جديد بين منطقة اكتسبت ثقة أكبر بالنفس من ناحية، وبين أوروبا والولايات المتحدة من ناحية أخرى.

 

 

كريم الجوهري – القاهرة
ترجمة: صفية مسعود
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2012