تركيا..... من وسيط إقليمي إلى لاعب دولي

تسعى تركيا إلى دور أكبر في السياسة العالمية، وذلك مع اتساع دائرة نفوذها السياسي في المنطقة. لكن مشاكلها الداخلية والأزمات الإقليمية تشكل تحديات هامة لسياستها الخارجية الطموحة، بحسب ما يكتب أيهان سيمسك في التحليل الآتي.

الكاتبة ، الكاتب: Ayhan Simsek



خلال خطاب له على هامش اجتماع لمجلس العلاقات الخارجية في الولايات المتحدة، قال ستيفن هادلي، المستشار السابق لمجلس الأمن القومي الأمريكي، إن "تركيا أصبحت أحد أهم خمس أو ست دول في العالم ... يا لها من سخرية، فإذا نظرت إلى الأداء الاقتصادي، لا بد أن تتساءل عما إذا كان على تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو العكس".

ملاحظة هادلي تبرز التحول الاقتصادي والسياسي المدهش للدولة التركية، إضافة إلى تغير مكانتها على الساحة الدولية. فقبل حوالي عقد من الزمان كان يُنظر إلى تركيا كدولة غير نامية لا تتمتع بالديمقراطية، وتعتمد على مساعدة صندوق النقد الدولي وتسعى بكل طاقتها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

لكن تركيا الآن، بالنظر إلى نموها الاقتصادي خلال العشر سنوات الأخيرة، والذي حطم كل الأرقام القياسية، توصف بأنها "صين أوروبا". وكدولة تعيش بها أغلبية مسلمة في ظل نظام سياسي ديمقراطي وغير ديني واقتصاد حر وفعال، فإن تركيا تقدم الآن كنموذج للاقتداء به في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

سياسة الـ"360 درجة"

د ب ا
وزير خارجية تركيا ذو النفوذ الواسع، أحمد داود أوغلو، يعتبر مهندس "سياسة اللامشاكل" التي تتبعها البلاد مع جيرانها. لكن الانحياز إلى أطراف، كما هو الحال في سوريا وإسرائيل، أفقد تركيا دورها كوسيط

​​لا ينكر الاتحاد الأوروبي تزايد أهمية تركيا الاقتصادية والسياسية بالنسبة له. لكن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي يواجه عقبات، بسبب الصراع المستمر حول قبرص منذ عقود ومعارضة بعض الدول الأعضاء منحها عضوية كاملة، مفضلين بدلاً من ذلك "شراكة مميزة". إلا أن الأزمة التركية-الأوروبية، المستمرة منذ ست سنوات، لم تؤثر على توسع النفوذ السياسي لتركيا، عن طريق علاقات سياسية واقتصادية وثيقة مع منظمات إقليمية حول العالم، وهي استراتيجية سماها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو "سياسة الـ360 درجة".

فقد قامت تركيا بافتتاح سفارات وقنصليات جديدة، خاصة في أفريقيا والشرق الأوسط، إضافة إلى رفع تمثيلها في معظم المؤسسات متعددة الأطراف، بدءاً بمنظمة الدول الأمريكية وحتى منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي. كما حصلت تركيا على صفة "عضو مراقب" في الاتحاد الأفريقي منذ سنة 2005، وبدأت سلسلة من الاجتماعات الوزارية مع جامعة الدول العربية في نفس العام.

هذه السياسة الخارجية الفاعلة ساعدت تركيا على إحراز عضوية غير دائمة في مجلس الأمن الدولي بين سنتي 2009 و2010. كما أن مواطناً تركياً، هو الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو، يشغل منصب الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي منذ سنة 2005، ويسعى من خلال خطة طموحة إلى تقوية صورة المنظمة دولياً. وفي مطلع الشهر الحالي قررت منظمة شانغهاي للتعاون قبول تركيا كـ"شريك حوار"، مما دعم جهود أنقرة الهادفة إلى التحول للاعب مؤثر في الساحة الدولية.

القوة الوسطى

د ب ا
يعتبر أستاذ العلاقات الدولية حسين باغشي أن "تركيا تتصرف سوياً مع الغرب"، ويرى أن جهود تركيا ليست بديلاً لسعيها من أجل الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي. بل على العكس، فإن هذه الجهود تزيد من جاذبية تركيا للاتحاد الأوروبي.

​​وبحسب أستاذ العلاقات الدولية حسين باغشي، فإن جهود تركيا ليست بديلاً عن سعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بل على العكس، فإن هذه الجهود تجعل من تركيا شريكاً جذاباً للاتحاد الأوروبي. ويصف باغشي تركيا بأنها "قوة وسطى"، أي دولة لا يمكنها تحديد التطورات السياسية أو تنظيمها لوحدها، إلا أن قوتها "الناعمة" مهمة لإحداث تأثير قوي، إما بالتعاون مع دول أخرى أو من خلال المؤسسات الدولية.

ويقول باغشي إن "جهود تركيا لكسب المزيد من النفوذ في الساحة الدولية مرتبطة بشكل وثيق مع نموها الاقتصادي وازدهارها المتزايد، إضافة إلى استقرارها السياسي وسعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي". إلا أنه لا يتفق مع من يقولون أن لدى الحكومة التركية، التي يتزعمها حزب العدالة والتنمية الديني المحافظ، أجندة "عثمانية جديدة" أو إسلامية مخبأة وراء استراتيجية سياستها الخارجية.

ويتابع أستاذ العلاقات الدولية بالقول: "تركيا عضو في معظم المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية الغربية. كما أنها تتصرف بالتعاون مع العالم الغربي. ومن خلال قوتها الاقتصادية والعسكرية، فقد أضحت تركيا قوة إقليمية مؤثرة. لكنها ليست قادرة على بناء نظام عالمي وحدها.إلا أن ازدياد نفوذ مجموعة الدول الصناعية العشرين في السياسة العالمية دفع تركيا إلى تحمل المزيد من المسؤوليات فيما يتعلق بإعادة تشكيل وتصميم النظام العالمي الجديد".

الصورة دويتشه فيله
يقول محلل السياسة الخارجية سميح إيديز: "عندما ننظر إلى الوضع الراهن، مع وجود عشرات الصحافيين في السجن، والدعاوى القضائية ذات الدوافع السياسية، والضغط المتنامي على الصحافة، فإن "النموذج التركي" يقفد معناه".

​​تشغل تركيا اليوم المركز السابع عشر على قائمة أكبر اقتصادات العالم، ويتوقع صندوق النقد الدولي لها أن تقفز إلى المركز الخامس عشر بحلول سنة 2013. وفي إطار سعيها للقيام بدور أقوى ضمن مجموعة العشرين، فإن تركيا ستترأس المجموعة سنة 2015. من جانبه أعرب نائب رئيس الوزراء التركي، علي باباتشان، في وقت سابق من هذا الشهر، عن تفاؤله بأن بلاده ستصبح ضمن أقوى عشرة اقتصادات في العالم بحلول سنة 2023، التي تصادف مرور مائة عام على تأسيس الجمهورية التركية. كما تأمل تركيا في أن تصبح عضواً كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي في نفس العام.

ورغم هذه الأهداف الطموحة، إلا أن الأحداث السياسية والدبلوماسية المحلية حدت من قدرة تركيا على أن تصبح لاعباً دولياً فاعلاً. ورغم أن تركيا تشكل نموذجاً للتحول الديمقراطي بالنسبة لدول الشرق الأوسط وأفريقيا، إلا أن الأحداث الأخيرة، كالصراع بين القوى العلمانية وحكومة حزب العدالة والتنمية الديني المحافظ، إضافة إلى الميول الاستبدادية المناهضة للديمقراطية لدى الحكومة والمسألة الكردية العالقة تثير القلق حيال المعايير الديمقراطية في البلاد.

الصراع التركي-الكردي شهد تصعيداً في الشهور الأخيرة، مع ازدياد وتيرة هجمات حزب العمال الكردي الإرهابي. ومنذ سنة 2009 أدت سلسلة من العمليات الأمنية، التي استهدفت الذراع المدني للحزب، المتمثل في اتحاد المجتمع الكردستاني، إلى اعتقال آلاف الأكراد، من بينهم عدد من الشخصيات السياسية البارزة.

وفي هذا السياق يوضح المحلل السياسي في صحيفة "ميليّت" التركية، سميح إيديز، أنه "عندما نأخذ بعين الاعتبار وجود عشرات الصحافيين في السجن وعدد من الدعاوى القضائية ذات الدوافع السياسية وازدياد الضغط على الصحافة، فإن "النموذج التركي" يفقد معناه، لاسيما في عيون المثقفين وفي عيون كثير من دول الشرق الأوسط". لكنه يستدرك بالقول: "من جهة أخرى، وفيما يتعلق بنجاح النمو الاقتصادي، فإن النموذج التركي سيستمر في كونه مصدراً للإعجاب في عيون سكان الشرق الأوسط".

تغير في السياسة الخارجية

وبحسب الناقدين، فإن أحد أهم موارد السياسة الخارجية التركية يكمن في قوتها الناعمة وتأثيرها الإيجابي على دول المنطقة، من خلال تحركاتها دبلوماسيتها الحساسة. لكن سياسات حكومة العدالة والتنمية الأخيرة أضرت بهذا المورد بشكل كبير. فمنذ سنوات اتخذت تركيا موقفاً محايداً تجاه الصراعات بين دول المنطقة، وركزت على جهود الوساطة. وقد قامت أنقرة بجهود دبلوماسية فعالة من أجل حل الأزمة النووية الإيرانية، ولعبت دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل، إضافة إلى محاولة تشجيع نظام الأسد على مدى سنوات من أجل القيام بإصلاحات. لكن بعد المواجهات الدامية في سوريا، تبنت الحكومة التركية سياسة حازمة تجاه نظام الأسد، ووفرت الدعم والمساعدة للمعارضة.

وفي هذا الصدد يعتبر سميح إيديز أن "التغير في السياسة الخارجية بدأ في قمة دافوس سنة 2009، عندما غادر رئيس الوزراء التركي المنصة بعد سجال مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز. هذا أدى أولاً إلى تضرر العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وإلى فقدانها لقدرة التأثير على إسرائيل. وأثناء الأزمة السورية قطعت تركيا علاقاتها مع الأسد ووفرت دعماً للمعارضة". ويضيف إيديز أن تركيا "ومن خلال الانحياز إلى أحد الأطراف في هذه الصراعات الحيوية، فقدت دورها السابق".

سياسة تركيا الحازمة والفاعلة في المنطقة سببت إزعاجاً لإيران، التي انتقدت علانية سياسة أنقرة تجاه الصراع في سوريا. كما أن علاقة تركيا بجارها العراق شابها التوتر الشهر الماضي، عندما رفضت أنقرة تسليم نائب الرئيس العراقي المطلوب طارق الهاشمي. كما أن منتقدي حزب العدالة والتنمية يتخوفون من صعود كتلتين طائفيتين متنافستين من السنة والشيعة في المنطقة. فمن جهة أولى هناك محور إيران والحكومة العراقية بقيادة المالكي، إضافة إلى نظام الأسد في سوريا وحزب الله في لبنان. ومن جهة أخرى هناك تركيا والسعودية ودول الخليج.

ويتوقع سميح إيديز أن تستمر تركيا في كونها لاعباً مهماً في المنطقة، إلا أن انحيازها الواضح إلى أحد الأطراف سيضعها في مواجهة اختبارات حاسمة، مضيفاً: "لن تكون تركيا كالنرويج في المنطقة – تلعب دور الوسيط بين الأطراف المختلفة وتساهم بشكل فاعل في عمليات السلام. نفوذ تركيا في المنطقة سيستمر وقد ينمو حتى. لكن بطريقة مختلفة تماماً".

 

آيهان سيمسك
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: دويتشه فيله 2012