الإتجاه جنوبا!

الطاهر بن جلون الكاتب الذي يعد فرنسيا أكثر من أي كاتب مغربي آخر يعود بنا في هذا اللقاء إلى روايته الأخيرة ويحدثنا عن ظاهرة الهجرة على أبواب الاتحاد الأوروبي، عن "أبناء أوروبا المدللين"وعن بلاده الأصلية. برونه أنطوان لتقته في باريس وقدمت هذه الصورة القلمية عنه.

الطاهر بن جلون، الصورة: أ ب
الطاهر بن جلون: "إنني أشعر بحب مشوب بالحذر تجاه المغرب."

​​

"الرحيل"، عنوان كتاب الطاهر بن جلون الذي يقيم منذ بضع عشرات من السنين متنقلا بين طنجة وباريس يستثير في الأذهان مشاعر الكآبة والانتظار وعالما آخر أفضل بكل تأكيد. بمناسبة صدورالكتاب في شهر يناير الماضي كان لنا موعد معه في مقهى فلور(café de flore)، المقهى ذي الطابع الأكثر حذلقة بباريس، ساعة يكون أصنام الأدب و"نجوم اللاشيء" بصدد تناول قهوتهم السوداء الصباحية الأولى بحركات مترددة و عيون ما يزال يغشاها النعاس.

قاعة المقهى التي تتوزع في أرجائها مقاعد من الجلد الأحمر وتكسو جدرانها مرايا من طراز الفن التزويقي منقعة في نور بني نحاسي وتطن بدردشات القيل والقال الصباحية لصفوة مجتمع سان جرمان دي بري. مذهولة بتأمل الأشكال اللولبية التي تسطرها حثالة قهوتي التي يساوي ثمنها 4أويرو و40 سنتا أرفع رأسي باتجاه مدخل المقهى لأرى الطاهر بن جلون وقد تخطى العتبة للتو: فاره القامة تلوح فوق هامته قبعة لبد خضراء.

دون تردد يتجه نحو طاولتي ويجلس ثاقب النظرة صارم القبضة، ودي الابتسامة وبوجه تغشاه لحية بيضاء قصيرة. "نحن الآن في واجهة الناس الذين يستعرضون أنفسهم"، يهمس لي بشيء من التواطؤ. "كنت أتردد كثيرا على مقهى فلور في بدايات مجيئي إلى باريس. أما الآن فقد انقطعت عن ذلك كليا تقريبا. لقد أصبح مكانا لترويج الاستعراض التجاري."

فرنكوشرقي

الطاهر بن جلون الذي ولد بفاس سنة 1944 قد تلقى دراسة فرنكفونية قبل أن يصبح أستاذا للفلسفة في تطوان ، بعدها غادر المغرب في سنة 1971 ليستقر بالعاصمة الفرنسية من أجل إعداد أطروحة في علم النفس. "لم أتلق تكوينا يؤهلني لمواكبة تعريب الفلسفة بالمعاهد الثانوية وتدريس الفكر الإسلامي عوضا عن الفكر العالمي. لذك ارتحلت. لكنني مع ذلك لا أعتبر نفسي كاتبا من كتاب المنفى.

ولئن عرفت بعض الأوقات العصيبة فأنا لم أشعر البتة بذلك الشعور باستحالة العودة، وانغلاق أبواب بلادي الأصلية في وجهي." في ظل ظروف مريحة داخل باريس ما بعد 68 شرع بن جلون في تحرير مقالات بصفة منتظمة كمحرر متعاون في ركن "كتب من الواقع اليومي" بصحيفة لوموند، ثم نشر روايته الأولى "حرّودة" سنة 1973. " بما أنني أكتب بالفرنسية فأنا لست كاتبا عربيا. إنها غبطة بالنسبة لي أن أستطيع التعبير بلغة أجنبية أجيدها، حتى وإن ظلت مخيلتي مطبوعة بالحضارة المشرقية."

نظرة محادثي تستعصي على الحصر وأقواله يلفها الحياء. بتهمة الاشتراك في انتفاضات سنة 1965 بالدار البيضاء وهو طالب آنذاك سيرى بن جلون نفسه بعدها بسنة يقاد إلى معسكر تأديبي للجيش المغربي. ومنذ ذلك الوقت أصبحت لمؤلف "ليلة القدر" الحائزة على جائزة غونكور لسنة 1987 علاقة ذات طابع مزدوج مع موطنه الأصلي.

"لنقل إنني أشعر بحب مشوب بالحذر تجاه المغرب. إنني أظل يقظا ونقديا، وذلك من مواصفات طبيعة الكاتب. لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن البلاد قد غدت أفضل بكثير مما كانت عليه قبل عشر سنوات. وبالرغم من انتقادات الصحافيين وقولهم بأن ما حصل من تقدم يظل غير كاف فإن محمد السادس قد أنجز عملا يمثل قطيعة هامة مع عمل أبيه الحسن الثاني.

مهمة لم يأخذ بها أي حاكم عربي على عاتقه: أن يدع لشعبه مجالا ليدلي بشهادته على سنوات من القمع والمظالم من أجل طي صفحة ذلك الماضي من بعدها." تطور إيجابي لا يستطيع مع ذلك أن يخفي رغبة قوية في الهروب لدى الشباب المغربي. "هناك خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة عدد متزايد من الشباب الذين يجدون أنفسهم في وضع الفاشلين بالرغم من دراستهم فيتجهون بأنظارهم نحو أوروبا بطريقة تبلغ حد الهوس: كل ما لايستطيعون إنجازه في المغرب سيمكنهم تحقيقه في الخارج."

نعم لتركيا والمغرب داخل الاتحاد الأوروبي

تمثل الهجرة السرية المتن الذي ينبني عليه الكتاب الجديد لبن جلون وتلعب دور تعلة لـ"نزول إلى مدارات الجحيم" بالنسبة لبطله عازل، وهو مغربي يقيم في المنفى ببرشلونة.

وفي حين جاءت الصور التي نقلتها وسائل الإعلام عن حالات موت مهاجرين سريين أفارقة فوق الأسلاك الشائكة لمدينتي سبتة ومليلة في سبتمبر الماضي لتذكر بروكسل بالضرورة العاجلة لإيجاد حل حقيقي لمشكلة الهجرة، يعبر بن جلون عن أسفه "أن لا تكون هناك سياسة اتحادية حقيقية في هذا المجال تقوم على شيء آخر غير الإقصاء والقمع." وفي رأيه أن بعض الدول الأوروبية تتعامل بطريقة أفضل من دول أخرى مع مسألة الهجرة. "فالسويد مثلا لها موقف جيد لأنها لم تعرف علاقات تاريخية مع البلدان الإفريقية."

ويرى بن جلون الذي يتعامل بصفة منتظمة مع صحيفتي La Republica و La Vanguardia الكاتالانية أن أوروبا "فرصة رائعة، لكن مواطنيها لا يدركون مدى الحظ الذي لديهم في أن يعيشوا داخل أمم يسودها السلام والأمان والثراء.

إنهم أطفال مدللون من المفترض أن يكونوا ممتنين لأسلافهم الذين ذاقوا المعاناة من أجل أن يمنحوهم هذا الكيان القائم على الحرية والديمقراطية واحترام الفرد." مرافعة حماسية النبرة لكنها لا تمنعه من الاعتراف بأن هناك أيضا عوائق. "لكن حياة راكدة هي ضرب من الموت." يضيف مستدركا.

أما عن أفق توسيع الاتحاد الأوروبي، فيقول "إذا ماكانت بلدان أوروبا الشرقية جزء من أوروبا فإنه ينبغي قبول تركيا والمغرب إذن. إن للمغرب مشروعية حقيقية للانضمام إلى أوروبا، علاوة على عناصر التقارب ووجود لغة مشتركة مع القارة الأوروبية ، ولو أن الجزائر لم تصبح مستقلة لكانت اليوم أوروبية.

إن مدينتي سبتة ومليلة الإسبانيتين الموجودتين داخل المغرب أوروبيتان، فلم لا المغرب إذن؟" وإن كان بن جلون لا يذهب حد الدعوة إلى عملية اندماج مماثلة لتلك التي تتمتع بها البلدان المؤسسة للاتحاد فإنه يتصور مع ذلك أن هذا الانفتاح المتوسطي سيكون بإمكانه "أن يوجد تسوية لمشكلة الهجرة السرية وأن يسحب البساط من تحت الحركة الإسلامية وتيارات التعصب."

بقلم برونه أنطوان
ترجمة علي مصباح
نشر المقال على مو قع الإنترنت café babel من قبل
حقوق الترجمة العربية قنطرة 2006

قنطرة

البرابرة قادمون!
بعد بدء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي يرى الكاتب المغربي طاهر بن جلون أن المغرب العربي هو المرشح القادم، لأنه يرى أن هناك العديد من الروابط التاريخية المشتركة مع أوربا.