مهرجان أبو ظبي: قوس قزح سينمائي بعد العاصفة

بعد الجدل الذي أُثير حول إمكان إلغاء أو إبقاء مهرجان أبو ظبي السينمائي على خريطة المهرجانات العربية جاءت وقائـــع الدورة السادســــة لتضرب كـــل الحسابات، إذ نجحت المراهنة على خبرات الماضي وعلى روح العمل الجماعي والمحافظة على العناصر صاحبة الكفاءة في اغناء الدورة الحالية، كما تكتب فيكي حبيب في مقالاها التالي.



عد التخبط الذي عاشه مهرجان أبو ظبي السينمائي خلال الشهور القليلة الماضية، وتلبد أجوائه مع ما أُثير حول إمكان إلغائه أو إبقائه على خريطة المهرجانات العربية، شمّر كثيرون عن سواعدهم ما أن أُعلن افتتاح الدورة السادسة:

الباحثون عن منصب أعدّوا العدة لإغراق صفحات المجلات والجرائد بكل صنوف المديح والإطراءات، علّهم يتسلقون مركزاً وسط التغيرات. والشامتون ترقبوا بهدوء الأخطاء التي لا بد أن ترتكبها الإدارة العربية الجديدة، نظراً لانخفاض الموازنة وضيق الوقت (تغيرت الإدارة قبل أسابيع قليلة من بدء المهرجان) والتفاوت في الخبرة، بعد استلام المخرج والممثل الإماراتي علي الجابري إدارة المهرجان من سلفٍ صاحب باع طويلة ومكانة لا يُستهان بهما في عالم المهرجانات العالمية: الأميركي بيتر سكارليت الذي عرف خلال عمله في المهرجان كيف يسرق الأضواء من مهرجان دبي، أول المهرجانات السينمائية الخليجية.

لكنّ النتيجة لم تكن في الحسبان، وجاءت وقائـــع الدورة السادســــة لتضرب كـــل الحسابات: راهن الجابري على روح العمل الجماعي محافظاً على العناصر صاحبة الكفاءة ممن أغنت الدورات الماضية بخبرتها... من دون أن يعر آذاناً صاغية للمتطفلين والمتسلقين الباحثين عن وظيفة. وانتقــــلت المسؤولية بسلاسة من «هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث» إلى مؤسسة two four54، مدعومة بحضور سياسي رفيع للمرة الأولى في عمر المهرجان، تمثّل بحضور وزير الخارجية في دولة الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان ووزير التعلـــيم العالي والبحث العلمي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان في حفلة الافتتاح.

ولم يمرّ هذا الحضور الرسمي من دون أن يثير ارتياحاً لدى المهتمين بهذا المهرجان الذي تغيّرت إدارته للمرة الثالثة على رغم عمره القصير (أنشئ قبل ست سنوات) من دون أن يفت المراقبون الإشارة إلى تداعيات ستعود بالفائدة على هذا الحدث السينمائي الذي على رغم حداثته بات يعوّل عليه صناع السينما العربية الكثير.

مهرجان أبو ظبي السينمائي
بعد الجدل الذي أُثير حول إمكان إلغاء أو إبقاء مهرجان أبو ظبي السينمائي على خريطة المهرجانات العربية جاءت وقائـــع الدورة السادســــة لتضرب كـــل الحسابات، إذ نجحت المراهنة على خبرات الماضي وعلى روح العمل الجماعي والمحافظة على العناصر صاحبة الكفاءة في اغناء الدورة الحالية.

​​

 

السينما أولاً

وإذا كان تقويم أي مهرجان سينمائي يرتكز أولاً وأخيراً على مستوى الأفلام التي يقدمها، فإن مبرمجي مهرجان أبو ظبي نجحوا باستقطاب سلة من الأفلام العالمية التي سبقتها سمعتها بعد عرضها في أبرز المهرجانات الدولية... وإن كان لا يزال باكراً جداً التفكير باكتشافات سينمائية، تُطلق من منصة أبو ظبي أو أية منصة سينمائية خليجية إلى العالم... خصوصاً أن هذه المهرجانات لا تزال وليدة، مقارنة بمهرجانات عريقة، خطت أشواطاً كبيرة في دنيا الفن السابع... ولا يعوزها التلويح بإغراءات مادية كبيرة لجذب صناع الأفلام إلى حاضرتها.

ولا شك في أن الدرب لا يزال طويلاً، لوصول مهرجاناتنا إلى ذاك المستوى، مهما أُنفق عليها. ولنا أن نتذكر الأموال الطائلة التي وضعت في تصرف المهرجانات السينمائية الخليجية الثلاثة في بداية عهدها، والملايين التي وزعت لاستقطاب هذا الفيلم أو ذاك النجم، قبل أن يصبح هناك ما يشبه القاعدة العامة، سواء عن اقتناع أو لضرورات فرضها الواقع الاقتصادي، بأن ليس بالمال وحده تصنع المهرجانات... بل بالخبرة والتصاق المهرجان بثقافة البلد وحبه للسينما.

وإذا كان من شبه المستحيلات أن تفضل الأفلام الكبيرة مهرجاناً من مهرجاناتنا لتشهد عروضها الأولى، فإن الأنظار تتوجه أولاً في تقويم أي مهرجان عربي إلى كمّ الأفلام المميزة التي استطاع أن يستقطبها بعدما عرضت في المهرجانات الكبيرة مثل كان وبرلين والبندقية... ثم، وهذا هو الأهم، تتحول الأنظار إلى الأفلام العربية المختارة في البرنامج، بما يشي بقوة مهرجان ما أو تراجعه.

أمام الاختبار الأول، شهد المهرجان عروض أفلام أجنبية، استقبلتها الصحافة الأجنبية بترحاب شديد ونقد إيجابي. أما في السينما العربية، وبعدما اعتاد أبو ظبي في السنتين الماضيتين على الاستحواذ على النصيب الأسد من أبرز ما أنتجته سينمانا، غير تارك للمهرجانات العربية الأخرى إلا ما تيسّر، فإن هذه الدورة لم تشف غليل الشامتين... وإن لم توفر اقلامهم عن حق مسابقة الأفلام الروائية الطويلة التي أتت هزيلة مقارنة بالأفلام الوثائقية التي تفوقت في هذه الدورة لناحية مستواها، مع أفلام مثل «عالم ليس لنا» للفلسطيني مهدي فليفل الذي استطاع أن يقتنص ثلاث جوائز رئيسية (جائزة اللؤلؤة السوداء للفيلم الوثائقي وجائزة فيبريسي وجائزة نتباك)، من خلال تصويره بديناميكية عالية وحس إنساني كبير أهل فليفل في مخيم عين الحلوة في بيروت للاجئين الفلسطينيين اثر رحلاته المتعاقبة على المخيم لأكثر من 10 سنوات.

وكانت تورونتو شهدت العرض العالمي الأول لهذا الفيلم قبل أن يحطّ في أبو ظبي التي احتضنت أفلاماً أخرى مميزة مثل «يلعن بو الفوسفاط» للتونسي سامي تليلي (جائزة أفضل فيلم من العالم العربي) و «البحث عن النفط والرمال» لوائل عمر وفيليب ديب (جائزة أفضل مخرج من العالم العربي)... من دون أن ننسى فيلم هالة لطفي الروائي الأول «الخروج للنهار» الذي فازت عنه بجائزة أفضل مخرجة من العالم العربي في مسابقة «آفاق جديدة» وعودة المخرج التونسي الكبير نوري بوزيد («مانموتش») الذي منحته لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية الطويلة (تألفت من شبانة عزمي وشيدومير كولار وسمير فريد ونيكي كريمي واسماعيل فروخي) جائزة أفضل مخرج من العالم العربي بعدما حجبت جائزة أفضل فيلم من العالم العربي، التي ذهبت في مسابقة «آفاق جديدة» للفلسطينية آن ماري جاسر عن فيلم «لما شفتك».

وحسناً فعلت لجنة التحكيم بحجب هذه الجائزة، نظراً لمستوى الأفلام المتنافسة: «حراقة بلوز» (موسى حداد) و «عطور الجزائر» (رشيد بلحاج) و «ما نموتش» (نوري بو زيد). فإذا استثنينا الفيلم الأخير، فإن الفيلمين الآتيين من الجزائر خيّبا الآمال على رغم تطرقهما إلى موضوعين من عمق المجتمع الجزائري: الأول دنا من موضوع «الحراقة» أي الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر البحر، بلغة تلفزيونية أكثر مما هي سينمائية. والثاني اختار تيمة الإرهاب بنفس استشراقي لا يخلو من الخطاب المباشر.

مهرجان أبو ظبي السينمائي 2012
باختصار، كل شيء في هذه الدورة، يشي بأننا كنا أمام تظاهرة سينمائية سبقتها تحضيرات طويلة لا دورة ظلّ مصيرها معلقاً حتى أسابيع قليلة من الافتتاح، كما تكتب فيكي حبيب حول مهرجان أبو ظبي السينمائي 2012.

​​

أما جائزة اللؤلؤة السوداء للفيلم الروائي، فكانت من نصيب الفيلم التركي «آراف ما بين وبين» الذي تناول بقسوة أزمة مراهقة آتية من بيئة محافظة بعد أن تقرر إجهاض جنين حملت به من علاقة غير شرعية. وكتحية للفن المسرحي، مُنحت جائزة لجنة التحكيم الخاصة لفيلم «جيبو والظل» للمخرج مانويل دي أوليفيرا الذي يأبى إلا أن يمتشق كاميرته على رغم بلوغه عامه الـ104.

دعم السينما العربية

ولا يمكن المراقب لأداء المهرجان وتطوره من سنة إلى سنة إلا التنويه بعودة مقره إلى قصر الإمارات بعدما حطّ العام الماضي في «فيرمونت-باب البحر»، ما سبّب حينها إرباكاً للمدعوين، نظراً للمسافات الطويلة بين مقر المهرجان وصالات العروض السينمائية.

باختصار، كل شيء في هذه الدورة، يشي بأننا كنا أمام تظاهرة سينمائية سبقتها تحضيرات طويلة لا دورة ظلّ مصيرها معلقاً حتى أسابيع قليلة من الافتتاح... من هنا يصبح السؤال ملحاً عن مصير صندوق «سند» لدعم صناع السينما من العالم العربي، والذي يقدم الدعم للأفلام في مرحلتين أساسيتين: مرحلة التطوير (20 ألف دولار كحد أقصى لكل مشروع)، ومراحل الإنتاج النهائية (60 ألف دولار أميركي كحد أقصى لكل مشروع)... في ظل الحديث عن إيقافه.

طبعاً قرار من هذا النوع من شأنه أن ينسف هدفاً أساسياً من أهداف المهرجان لجهة دعم السينما العربية... بالتالي يصبح أي حديث عن قوس قزح سينمائي يعدنا به مهرجان أبو ظبي مهما حقق من نجاح، مجرد كلام في الهواء.

 

أبو ظبي - فيكي حبيب
حقوق النشر: الحياة اللندنية 2012