مهرجان ''نمشي''...رقصات عصرية في مراكش العتيقة

للمرة الثامنة، أقيم في المدينة المغربية مراكش مهرجان الرقص المعاصر "نمشي"، ورغم أن هذا النوع من الفن الراقص ما زال جديداً في الدول العربية، إلا أن المهرجان نجح في تحويل ساحات المدينة العريقة إلى مسارح في الهواء الطلق يزورها عدد كبير من أهالي المدينة المتحمسين. أستريد كامنسكي كانت بين المتفرجين وتطلعنا على بعض جوانب المهرجان.

الكاتبة ، الكاتب: Astrid Kaminski

فنانة بلجيكية ترسم بالطبشورة، وببطء وتركيز، شكل قلب إنسان على رصيف الساحة المتسخ أمام باب الدكالة، أحد الأبواب الثمانية للمدينة العتيقة في مراكش.

بقايا طعام وزجاجات محطمة وروث الحمير ورائحة البول وزيت السيارات تركت أثرها على هذه الساحة بين باب المدينة ومحطة الحافلات.

مدمنون فاقدون تقريباً للوعي وتجار مخدرات يجلسون بجوار شجرة نخيل. إنه مكان لا يدفع زائره على البقاء فيه طويلاً إن كان لديه بديل. لكنه حدس أهل مراكش بقرب حصول حدث مميز، قوي.

وفعلاً، بعد فترة وجيزة يتجمع الناس حول الفنانة البلجيكية التي تزرع قلباً من الطباشير في جسم هذه الساحة. إنها بداية عرض فني لمجموعة IN EXTREMIS البلجيكية، وفي الوقت ذاته هي افتتاحية لمهرجان الرقص المعاصر "نمشي ـ On Marche" في مراكش.

​​

أحكام مسبقة

وهو المهرجان الوحيد من نوعه في المغرب، وأحد المحافل المهمة التي يلتقي فيها فنانو الرقص المعاصر في العالم العربي، بالإضافة إلى تونس وبيروت. ما يسمى بثورات الربيع العربي لم يزد من تقبل هذا النوع من الفن.

تجاذبتُ أطراف الحديث مع طالب هندسة جلس مصادفةً إلى جانبي في الطائرة، وقد أكد لي وجود الأحكام المسبقة التي يطلقها البعض على فناني الرقص المعاصر: "يُنظر إلى فناني الرقص المحترفين من الرجال على أنهم مثليون، والنساء على أنهن دون شرف".

الكثير من المشاركين في المهرجان عانوا من هذه الأحكام المسبقة. بعضهم تعرض للضرب في الحي الساكن فيه بدعوى أنه "مثلي"، وآخرون كافحوا من أجل أن يُسمح للفتيات بالمشاركة في ورشة عمل أقاموها لتعليم الرقص المعاصر.

وقد رأينا في تونس قبل فترة قصيرة البعد السياسي الذي يكتسبه الفن، عندما يـُجرَّد من أبعاده الثقافية. وأفضل مثال على ذلك هو ما حصل حول مقطع الفيديو لرقصة "هارلم شيك Harlem Shake" على يوتيوب.

وهي الرقصة التي انتشرت في أواخرعام 2012 وتتكون من ثلاثين ثانية من الرقص بتحريك الخصر والأرجل والأذرع بطريقة سريعة تشبه الارتجاج، وقد سارع كثيرون إلى تقليدها وسجلوا مقاطع فيديو مشابهة لهارلم شيك في مواقف غريبة ومضحكة.

أرض الواقع

ولكن، في تونس تم تحويل هذه الأفعال "التافهة" لمراهقين مباشرة إلى المحاكم، أو تم الإجابة عليها من قبل جماعات متدينة بتقاليد مملة للغاية.

لو كانت منظومة القيم لهذا الرقص تحاول فرض نفسها على منظومة قيم أخرى مستوحاة من التدين التقليدي، لما اكتسبت هذا البعد السياسي الكبير الذي أكسبها إياه عدم الفهم الكلي لها.

هذه الحادثة في تونس كانت أحد محاور الندوات التي أقيمت على هامش مهرجان الرقص المعاصر في مراكش.

في الندوة الأولى تركز الحوار حول ضرورة أن يكون هذا النوع من الفن مرئياً، وذلك في ظل جهل المؤسسات الحكومية والمجتمع بضرورة الرقص التعبيري. أما الندوة الثانية فتعاملت مع السبل العملية لخلق أسس لهذا النوع من الفن.

هناك من يقول إن بقاء مهرجان الرقص المعاصر في تونس بات مهدداً بسبب إرهاق مديرته، وحالة المبادرات الخاصة لتعليم الرقص المعاصر صعبة في كل مكان.

أثناء الندوة يهتف توفيق عزالديو في وجه خالد، معلم رقص مفعم بالحاجة الكبية إلى التواصل ومليء بالأوهام من الدار البيضاء: "ليس لدينا أي شيء هنا!"، وذلك لكي يبدد أوهامه ويرجعه إلى أرض الواقع.

جانب من المدينة العتيقة في مراكش. أستريد كامنسكي
جانب من المدينة العتيقة في مدينة مراكش المغربية حيث أقيم مهرجان الرقص المعاصر.

​​

وبالرغم من ذلك، يلاحظ المرء أن هذا اليأس هو جزء من الحماس الموجود لدى الأفراد. وحينها يقول الراقص الشاب خالد ك.: "لا أحتاج إلى مسرح أوبرا باريس للتعبير عن الأشياء التي تهمني".

حيز من الحرية

وبالفعل، فقد قام خالد بتقديم عرض في مساء اليومين الذين سبقا الندوة: قام خالد بتحويل نفسه بطريقة ساخرة إلى دمية من الصور النمطية للمجتمع.

فارتدى من فوق لباس ضابط، ومن تحت لباس شيخ صوفي، ووضع في فمه سيجاراً ضخماً (ربما كلفه هذا السيجار الجزء الأكبر من الميزانية). بعد ذلك دار خالد حول العمارة بحركات تشبه حركة رجل إشارة المرور، جميلة ومضحكة وغريبة.

وفي آخر المطاف يظهر جسده العاري من تحت سترة الضابط، ويبدأ بتلوين جسمه حتى الفم باللون الأسود.

تناول هذه الموضوعات يُظهر كيف أن مدير المهرجان توفيق عزالديو يهدف عمداً إلى التذكير دون كلل أو ملل بحيز الحرية الصغير التي حافظت عليه التقاليد في ظل الدين.

ويقول عزالديو إن ممارسة الوقوع في النشوة هي ممارسة تسمح بالرقص الجسدي الفردي، دون أن يختلط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب.

من هنا فإن "المشية" التقليدية التي يشارك بها فنانو المهرجان مع عازفي الدقة المراكشية التقليدية تشكل محور عروض المهرجان الذي استمر أربعة أيام.

تُقام هذه "المشية" في ساحة لا يأتيها الكثير من المشاة عادة في شارع محمد الخامس الصاخب بحركة المرور. ولكن هنا أيضاً لا تكاد الفعالية أن تبدأ، حتى يجتمع الناس للتفرج عليها.

في هذا العرض يشكّل الراقصون بأجسامهم حلقة مرنة ويعبرون الساحة في ساعة من الزمن بحركة إلى الأمام يزداد إيقاعها تدريجياً.

​​

وفي أحد اللحظات الرائعة لهذا العرض يرفع عز الديو زميلته، وهي راقصة من الدار البيضاء نظمت المهرجان معه، في الهواء، وكأنها كائن دون وزن رُفع في سماء مراكش الشتوية.

هذه اللحظة الساحرة، وكأنها أوتوبيا صغيرة، تبقى عالقة طويلاً في الأذهان، حتى بعد أن يعيد عزالديو زميلته إلى الأرض. ولكن، رغم هذه اللحظات، من الصعب أن يفهم المتفرج معنى هذا العرض من الوهلة الأولى، فالعرض يتطلب التدقيق والتركيز من أجل فهمه.

ولكن، يبدو أن مقولة "من يتوقف، يبقى" ينطبق على أهل مراكش وساحتها المشهورة "جامع الفنا" المعروفة برواة القصص.

فحب المشاركة والتفرج لدى عابري السبيل في المغرب يعطينا فكرة عن ديناميكية التجمع لديهم، وذلك على الرغم من أن حركة 20 فبراير، كما تسمى النسخة المغربية للربيع العربي، تختلف كثيراً عما جرى في الدول العربية الأخرى.

انتشار الحماس

أطفال مدرسة ابتدائية من طبقة شعبية بسيطة بعيدة عن الأوساط الثقافية هم الدليل على قدرة انتشار الحماس سريعاً.

بعد أسبوع من التدريب مع مدرب الرقصات الفرنسي برناردو مونتيه والموسيقار دجيز قدموا لأهاليهم وللمتجمعين في باب الدكالة عروضهم المتسمة بالدعابة والديناميكية العالية.

جانب من مهرجان مراكش. أستريد كامنسكي
يذكّر القائمون على المهرجان بحيز الحرية الصغير التي حافظت عليه التقاليد في ظل الدين.

​​

إنها فعاليات أقيمت في المعهد الثقافي الفرنسي الفخم وكلية إنتاج الأفلام الأكثر فخامة، وكلاهما موجودان في مبنيين جذابين عصريين وفيهما عناصر بناء تقليدية.

وهي فعاليات مجانية للجمهور، وذلك بفضل مؤسسات وشركات إنتاج بلجيكية وفرنسية تتحمل تكاليف العروض.

حلم ووهم وثورة

أحد العروض التي تُفام هنا اسمه Rev`illusion وهي كلمة جديدة مركبة من كلمات "حلم" و "وهم" و "ثورة"، وهو عرض تقدمه فرقة "أنانية" المغربية والتي تقوم بعروض راقصة في جميع أنحاء العالم.

أثناء العرض يستحم الراقصون الأربعة بغبار الذهب المحلول بالماء، فيبدون في آخر العرض وكأنهم جزء من الديكور الداخلي لبيت سعودي. وسيمضي بعض الوقت حتى يكون بمقدورهم أن يستحموا بورق الذهب الأصلي.

 

أستريد كامنسكي
ترجمة: سامر خليل
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013