الخوف من لدغ العقارب

الحرب الأهلية جعلت السودان من أفقر بلدان العالم. الصحفي الألماني راينهارد باومغارتن يصحبنا في زيارة لجبرونا، أحد مخيمات اللاجئين الواقعة على أطراف الخرطوم، حيث يعيش مئات الآلاف من مشردي الحرب

يقول دينسيو: خمسون طفلا توفوا العام الماضي بسبب لدغات العقارب. دينسيو ينتمي إلى الدنكا من جنوب السودان لكنه يعيش منذ أحد عشر عاما في جبرونا، وهو أحد أكبر مخيمات اللاجئين الواقع

في محيط العاصمة الخرطوم، وفي هذا المخيم يعيش مايقرب من ثلاثمائة ألف الى اربعمائة ألف

انسان.

ان لفظ الحياة لا ينطبق حقا على هؤلاء لأن الظروف المحيطة بهم تمثل مأساة مؤلمة. لقد شاهدت بعيني الحال المزري لكثير من اللاجئين في مناطق عديدة في الشرق الوسط ووسط آسيا لكن لم يصل الى مثل هذا الحد من البؤس المحزن في هذا المخيم. الناس بلا حراك هنا، ينتظرون ويحاولون أن يعيشوا ويبقوا على الحياة ويأملون في مستقبل أفضل.

وقدمني دينسيو إلى عائلته، وفي غضون ثوان قليلة التف حولنا العديد من الأطفال وقمت بإحصائهم

فوجدت عددهم حوالي أربعين، فسألت دنيسيو مازحا : أكلهم أولادك، فأجاب ضاحكا لا، أنا عندي عشرين فقط، وهذ الرجل الكاثوليكى المتدين متزوج بإمرأتين وزوجته الثانية كانت زوجة أخيه ـ تولاها بعد وفاته وفقا لتقاليد القبيلة والعائلة وبالتالي أصبح مسئولا عن أطفاله.

لاأحد يرعى ويهتم بشئون ضحايا الحرب في جبرونا، انهم يعيشون في أكواخ من الكراتين المتراصة مع بعضها من أكياس ذات ألياف مشدودة على أعمدة أوألواح من الصفائح التي تدق في الأرض. المحظوظ هو الذي يسكن حجرات خشبية أو بيوت من الطوب الطيني الجاف.

ويقول دينسيو : وفي الأيام الممطرة تصبح البيوت الطينية رخوة وآيلة للسقوط ويتهدم الكثير منها

ويدفن السكان تحت أطلالها.

ومن يسعده الحظ يقوم بخلط التبن بوحل الطين لعمل الطوب اللازم للبناء لكن ذلك ليس ممكنا للكثيرين القيام به لأن ذلك يحتاج الى مال، وعليه يقضى الكثيرون نحبهم ويموتون كل عام في أوقات المطر في الصيف من خلال تهدم البيوت الطينية وسقوطها.

ان الفقر المدقع والبؤس يصبغان كل مظاهر الحياة في جبرونا، وأطفال دينسيو يلتفون حولنا وهم

يرتدون قمصانا مليئة بالثقوب وسراويل متسخة تفوح منها رائحة القذارة والبول وانوفهم منسابة

وعيونهم دامعة، ويقول دنسيو : لايوجد ماء في جربونا، ونحن نعيش في الصحراء ويجب علينا

شراء كل كل قطرة ماء من التجار بأسعار غالية.

ثم أخذني دينسيو الي مخيم لكبار السن، فرأيتهم يجلسون في حجرات مصنوعة من الخشب

لحمايتهم من الشمس ليقول رئيس القبيلة كفان: نحن نشعر بالتعب، ونتجمد من البرد فالليل قارس

البرودة هنا في جربونا. الكثير من السكان يعيشون في العراء بلا أسقف تحميهم ويتضورون جوعا.

العنف والتشرد

منذ عام 1983 تستعر حرب أهلية دموية في السودان، الناس في الجنوب يشعرون بالتفرقة والتمييز

عن أقرانهم في الشمال. وفي نهاية عقد الثمانينيات فر رئيس القبيلة كفان مثله مثل الآخرين من جنوب السودان الى العاصمة. فالمتمردون من الجيش الشعبي لتحرير السودان اجتاحوا وقتئذ قريته وسلبوا ونهبوا واغتصبواا الناس بالقوة وقاموا بترحيلهم وانتهكوا الحرمات. ويقول كفان : لقد خطفوا الشباب وورحلوهم لتجنيدهم بالقوة.

ويعيش كفان هنا في جبرونا منذ ست سنوات، وقبل ذلك عاش في ثلاث من مخيمات اللاجئين الأخرى

حول العاصمة السودانية، حيث يقطن أكثر من مليوني شخص. ينتمي رئيس القبيلة كفان وأتباعه الى شعب الدنكا ويعد أصلهم الى المالفالغريون، ويقول: اذا حل السلام بالسودان سنعود في الحال الى بيوتنا وبلدنا.

وسألت الرجل المسن كفان : اذا أردت ان تقطع هذه المسافة البعيدة الى الجنوب كيف ستتغلب عليها وتعود الى بلدك ؟ رد قائلا بهدوء وبحزن : اذن سأذهب مسافة 1000 كيلو متر على قدماي.

فقر مدقع والحلم بالدعوة

ان الوجوه قاتمة وذات بشرة سمراء داكنة تظللها مسحة من الألم والحاجة الى كل شيء. ورؤوس

نحيفة وهزيلة يرتدي أصحابها ملابس رثة ورديئة كانوا مربي ماشية ويعملون في مجال الزراعة

ويتدخل شاب هزيل أجوف الخد ويقول : كان لدينا كل شيء في الجنوب، الحيوانات،المحاصيل كالذرة

والماء واللبن، والآن ليس لدينا اي شيء.

انهم يحلمون بالعودة الى الوطن والسلام،، وثمانون بالمائة من سكان جربونا ولدوا في مخيم اللاجئين

الكبار منهم يتوقون الى أكواخهم المحروقة من الطين والأعشاب ويحلمون الى العودة الى مراعيهم حيث ترعى الآن أبقار قبائل أخرى تربى .

وفي طريق العودة تترامى البيوت المتهدمة والتي دمرتها جرافات الحكومة. ويقول دينيسو: انهم لايريدوننا هنا ولا يريدوننا في الجنوب أيضا، وفي دعابة خفيفة ملؤها مرارة يضيف قائلا: ربما يرسلون الينا العقارب هذه الليلة!

بقلم راينهارد باومغارتن، 2004
ترجمة شكري عبد الحميد