ملفات أمن الدولة...سلاح ذو حدين في دول الربيع العربي

بعد عامين على الثورات العربية التي زلزلت عروش أنظمة سلطوية لا يزال الناشطون في مصر وتونس يشتكون من تعذّر الوصول إلى العديد من الملفات الأمنية بسبب الاحتفاظ بها في أرشيفات الوزارات المختصة، ويحذرون من استخدامها كورقة ابتزاز سياسي للمعارضين في حال لم يتم التعامل معها وفق قوانين العدالة الانتقالية. كريستوف دراير يسلط الضوء على ذلك.

الكاتبة ، الكاتب: Christoph Dreyer

الباحثة الأمريكية جودي برسالو مختصة في العلوم السياسية وسبق لها التعامل مع إرث بعض الدكتاتوريات المنتهية، وهي تهتم حالياً بموضوع تحقيق العدالة في الفترات الانتقالية، أي بالتعامل مع الجرائم السياسية بعد تغيير الأنظمة من الناحية القانونية وكذلك أيضًا السياسية والاجتماعية.

ولكنها مع ذلك أعجبت كثيرًا بالجولة التي أجرتها في أرشيف دائرة الوثائق الخاصة بجهاز أمن الدولة في برلين والذي كان يتبع دولة ألمانيا الشرقية.

وبعد زيارتها هذا الأرشيف قالت الباحثة التي تعمل حاليًا في القاهرة والبالغة من العمر ثمانية وخمسين عامًا: "كانت هذه في الحقيقة مزاوجة بين تقنيات الاستخبارات السوفييتية وشكل من أشكال المواهب الألمانية البروسية في دقة التوثيق والإدارة".

وحول مقارنتها الأرشيف الخاص بألمانيا الشرقية مع الأرشيف المصري تقول برسالو: "لقد قارنت ومن دون قصد ما وجدته في برلين مع الأرشيف الوطني المصري الذي تمثِّل فيه الفهرسة مشكلة حقيقية ويعاني من عدم تطبيق القانون، الذي يُلزم الوزارات بتسليم ملفاتها بعد فترة معينة إلى هذا الأرشيف. ونتيجة لذلك كان من الصعب حتى قبل الثورة العثور على المعلومات أو الوصول إلى المعلومات".

وتختلف التحديات التي تواجه المصريين في معالجة ملفات جهاز أمن الدولة المصري اختلافًا تامًا من الناحية التقنية عن التحديات التي واجهت ألمانيا الاتحادية في معالجة ملفات جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقية، والتي نشأ فيها بعد إعادة توحيدها أرشيف لهذه الملفات مقسَّم إلى أقسام.

الناشطان الحقوقيان التونسي أمين الله درويش (على اليسار) وزميله المصري محمد عبد العزيز أثناء زيارتهما لمقر حفظ ملفات أمن الدولة في ألمانيا الشرقية سابقاً (شتازي) في برلين. قنطرة
التغلّب على مشكلات الماضي بدلاً من النسيان - يحذِّر كلّ من المحامي التونسي أمين الله درويش (على اليسار) وزميله المصري محمد عبد العزيز من التأخير في المعالجة المنهجية لملفات جهاز أمن الدولة في بلديهما.

​​

اقتحام مكاتب جهاز أمن الدولة المصري

وبعد الإطاحة بنظام مبارك ظلت الصور التي تعود ليومي الخامس والسادس من شهر آذار/ مارس 2011 عالقة في الذاكرة. وهذه الصور تُذكِّر كثيرًا بالأحداث التي وقعت في ألمانيا الشرقية في شهر كانون الثاني/يناير 1990.

فبعد أقل من أربعة أسابيع من سقوط حسني مبارك اقتحمت الجماهير في كلّ من القاهرة والإسكندرية ومدن أخرى مكاتب جهاز أمن الدولة المصري من أجل الحيلولة دون إتلاف الملفات الخاصة بأمن الدولة وكذلك توفير الأدلة المحتملة على عقود من التجسّس والتعذيب.

ولكن إذا نظرنا إلى الخلف فسنجد أنَّ المتظاهرين لم يحقِّقوا سوى القليل. صحيح أنَّ المواطنين قد سارعوا بعد اقتحام مكاتب جهاز أمن الدولة إلى إخراج بعض الملفات "في حزم وكراتين"، كما يقول الصحفي الألماني فيليب شبالك، ولكن بعد ذلك لم يُعرف مصير الكثير من هذه الملفات.

فقد حمل بعض المتظاهرين قسمًا من هذه الوثائق معهم إلى منازلهم، وقام متظاهرون آخرون فيما بعد بتسليمها إلى القُضاة. ومنذ ذلك الحين تنتشر، بحسب قول شبالك، شائعات تفيد بأنَّ القضاة سلموا بدورهم هذه الملفات للجيش.

وعلى أية حال ينصبّ التركيز حاليًا في التعامل مع هذه الملفات، كما يلاحظ فيليب شبالك، على أحداث الثورة المباشرة أكثر من التركيز على أحداث السنوات السابقة.

فعلى سبيل المثال ثمة مجموع، يديرها المؤرِّخ المصري المقيم في القاهرة خالد فهمي، تعمل على توثيق روايات شهود العيان الذين شاركوا في ثورة عام 2011. وهو حريص منذ البداية على تسليم ما يحصل عليه من وثائق إلى الأرشيف الوطني لكي تكون متاحة للجمهور.

ولكن بعد أكثر من عام لا يزال فهمي يكافح حتى الآن من أجل تمكين المهتمين من الاطلاع على هذه الوثائق، كما يقول الصحفي فيليب شبالك: "يوجد اهتمام في الأرشيف بحدّ ذاته، وكذلك أيضًا لدى إدارته، ولكن المشكلة تكمن في بقاء جهاز أمن الدولة في المراكز القيادية، ولا توجد لهذا الجهاز أية مصلحة في تسريب محتويات هذه الوثائق إلى الخارج".

ملفات حسني مبارك السرية

كذلك يشعر المحامي المصري المختص بالدفاع عن حقوق الإنسان، محمد عبد العزيز بالقلق إزاء مشكلة حماية الخصوصية التي لم يتم حلها تمامًا حتى الآن. ويقول إنَّ ملفات جهاز أمن الدولة المصري والتي تم نشرها حتى الآن، على سبيل المثال في منتديات على شبكة الإنترنت، من دون التحقّق منها، لا تعتبر لذلك مفيدة في الدعاوى القضائية. ويضيف أنَّ المطلوب إيجاد دائرة مستقلة عن الحكومة تشرف على الوصول إلى هذه الملفات.

وفي المقابل تهتم حاليًا الدائرة الألمانية المختصة بوثائق جهاز أمن الدولة التابع لدولة ألمانيا الشرقية كثيرًا بالدول العربية. فتستقبل هذه الدائرة في مقرها في برلين تقريبًا في كلِّ شهر وفدًا قادمًا من العالم العربي كضيف لديها.

ويقول رئيس هذه الدائرة، رولاند يان، إنَّ الجانب المهم في طريقة تعامل الألمان مع الملفات الأمنية هو نجاحنا في إيجاد التوازن بين مصالح الضحايا ومصالح الجمهور، ويضيف: "كانت معادلة النجاح التي تم تحقيقها في ألمانيا هي التوفيق بين حماية الخصوصية وسيادة القانون".

دخول جموع المواطنين إلى مقر أمن الدولة في الإسكندرية. د ب أ
حقائق ممزقة - بعد ثلاثة أسابيع من سقوط حسني مبارك اقتحم المتظاهرون في كلّ من القاهرة والإسكندرية مكاتب جهاز أمن الدولة في كلتا المدينتين، من أجل الحيلولة دون إتلاف الملفات والوثائق المهمة.

​​

وكذلك تعمل مؤسسات ألمانية أخرى على دعم الدول العربية في شمال إفريقيا بخبراتها في التعامل مع الماضي. فعلى سبيل المثال تدير دائرة النصب التذكارية الموجود مقرها في السجن الاحتياطي المركزي السابق في برلين بمنطقة هوهنشونهاوزن العديد من المشاريع وخاصة في تونس.

وفي تونس يعتبر التعامل على الأقل من الناحية النظرية مع ملفات الشرطة السرية وأمن الدولة متقدمًا أكثر مما هي عليه الحال في مصر.

وعلى أية حال يتمتَّع المواطنون في تونس من الناحية النظرية بحقّ (صارم جدًا) في الاطلاع على الملفات، وكذلك يناقش التونسيون مسودة قانون يحدِّد قواعد لتحقيق العدالة في الفترة الانتقالية وإنشاء دائرة مناسبة لهذا الغرض.

ولكن مع ذلك لا تزال الوزارت تحتفظ في أرشيفاتها بالعديد من الملفات التي ولهذا السبب لا يمكن الوصول إليها.

"يجب علينا أيضًا سماع أصوات الضحايا"

من ناحية أخرى يحذِّر رولاند يان من المبالغة في أهمية مثل هذه الدائرة التي يترأسها ويقول يجب علينا ألاَّ ننسى أنَّ هذه الملفات لا تعكس إلاَّ وجهة نظر جهاز أمن الدولة، ويضيف: "يجب علينا أيضًا سماع أصوات الضحايا".

وكذلك يؤكِّد الخبير الألماني من أصل سوري ناصيف نعيم، المختص بالقانون الدستوري والمقيم في مدينة غوتنغن الألمانية، على ضرورة وضع قواعد أساسية لتبادل الخبرات مع دول الربيع العربي، ويقول: "يجب علينا هنا في ألمانيا نقل تجاربنا وخبراتنا من دون أي تعليق". ويضيف أنَّ الناس لا يريدون على أية حال أن يتم تلقينهم، بل يجب مساعدتهم لتطوير نماذجهم الخاصة.

وعلى أية حال توجد بالنسبة للكثير من المواطنين في كلّ من تونس ومصر الكثير من القضايا الأكثر إلحاحًا من معالجة الجرائم التي ارتكبتها الأنظمة الديكتاتورية هناك. ومن بين هذه القضايا انتشار البطالة وبعض المشكلات الاقتصادية الأخرى، وكذلك أيضًا وجود اعتبارات سياسية على قدر كبير من الأهمية.

فعلى سبيل المثال ينظر الكثيرون من المصريين إلى الدعاوى القضائية المرفوعة ضدّ فلول حسني مبارك وكذلك إلى عملية تنظيم ملفات جهاز أمن الدولة على أنَّها من الأمور الثانوية. وفي استطلاع للرأي وجدت خبيرة العلوم السياسية، جودي برسالو أنَّ اهتمام المصريين ينصب أكثر على إجراء الإصلاحات في الأجهزة الأمنية والقضاء.

ولكن مع ذلك يحذِّر المحامي التونسي أمين الله درويش من التأخير في المعالجة المنهجية لملفات جهاز أمن الدولة، ويقول: "نحن لا نعرف شيئًا على الإطلاق حول نوعية الملفات الموجودة في الوزارات وكميتها".

ويضيف أنَّ المشكلة تكمن في إمكانية استخدام هذه الملفات والوثائق طالما بقي الوضع على ما هو عليه كأداة سياسية من أجل تخويف المعارضين السياسيين. ويقول محذِّرًا: "إذا لم نتمكَّن من الحيلولة دون الاستمرار في التعامل بهذا الشكل مع هذا الموضوع، فعندئذ سوف تفقد هذه الملفات قيمتها وسيتم تحويلها في يوم ما إلى ورقة للمساومة السياسية".

 

كريستوف دراير
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013