احتفاء ألماني بأسطورة السينما العربية يوسف شاهين

يوسف شاهين مخرج ناقد مقدام للغاية، سبق عصره من حيث المضمون ومن الناحية الفنية. الألماني كريستوفر ريش يتقصى كونه -حتى بعد 11 عاما من وفاته- قدوة للاستقلالية الصاعدة في السينما العربية.

الكاتبة ، الكاتب: Christopher Resch

قبل نحو خمسين عامًا بالضبط، كان يتجوَّل في صالات محطة السكك الحديدية المركزية في القاهرة بائعُ صحف شاب. إنَّه جديد في المدينة، مخلفًا وراءه القرية. وأمامه: صور فتيات مقصوصة من مجلَّات، تُزَيِّن جدران الكشك المبني من الخشب والصفيح الذي يعيش فيه. ولكن حتى هؤلاء النساء اللواتي يرتدين ملابس خفيفة لا يساعدنه كثيرًا في حُبِّه اليائس لبائعة المشروبات "هنومة". "قناوي" هو اسم هذا البطل التعيس في فيلم "باب الحديد" (محطة مصر الرئيسية، إنتاج عام 1958)، ويؤدِّي دوره المخرج نفسه: يوسف شاهين.

وها هي سينما "أرسنال" البرلينية (عام 2019) قد كرَّمت في معرض استعاديّ [استذكاري] المخرج المصري يوسف شاهين، الذي يُعَدُّ "أبو السينما المصرية" وحتى السينما العربية. لم يكن كلُّ فيلم من أفلامه الأربعة وأربعين فيلمًا جيدًا بالمعنى السينمائي. غير أنَّ جميع أفلامه تعتبر وثائقَ حيّة للتاريخ المصري المعاصر. ولهذا السبب خاصة تعتبر الأعمال الكاملة لهذا المخرج الشغوف بعمله المتوفى عام 2008 قيِّمة للغاية في وقتنا الحاضر.

"مهووس بعمله"

"يوسف شاهين كان مهووسًا"، مثلما تقول المخرجة المصرية ماريان خوري: "لم يكن يوجد سوى خط رفيع جدًا يفصل بين السينما وحياته الخاصة. كلُّ شيء كان متشابكًا، وحتى عائلته". وماريان خوري تعرف عن ماذا تتحدَّث، فهي منتجة ومخرجة سينمائية وابنة شقيقة يوسف شاهين. تضيف ماريان خوري أنَّ عمله كان يبدو مثل الدخول في عبادة.

لقد كان يوسف شاهين مفكرًا حرًا، وخلال حياته لم يكن يحبُّ -إلى أقصى حدّ- مقاطعته في أي شيء. ويظهر هذا أيضًا في مواده: ففي بداية مسيرتة كان يتناول النزاعات بين الناس البسطاء وممثِّلي الطبقات العليا أو الدولة.

كثيرًا ما كانت شخصياته تعاني من إحباط جنسي يصبح أرضًا خصبة للوحشية والعنف في ظلّ حياة صعبة غير مستقرة في المدينة الكبيرة أو في ظلّ قمع الشرطة. يمكن تفسير العديد من أفلامه جزئيًا على أنَّها رؤية ونبوءة للإضرابات التي عمَّت صناعة الغزل والنسيج المصرية في عام 2007، وأدَّت في نهاية المطاف إلى ثورة عام 2011.

"إسكندرية ليه؟"

وعلى كلّ حال فإنَّ حقوق العمال موضوعٌ شائعٌ في أعمال يوسف شاهين: في مشهد فكاهي جدًا في فيلم "إسكندرية ليه؟" (لماذا الإسكندرية؟، إنتاج عام 1978) يطلب شابٌ صغير من والده المنتمي للطبقة العليا خمسة جنيهات. يقول: "عاوز خمسة جنيه"، فيرد عليه أبوه: "يعني أدِّيْك أجرة خمسة عمال!" فيرد الابن قائلًا: "حاسب الراجل بيوخذ جنيه؟"، فيعلٍّق الأب قائلًا: " شايف الأهبل بيتكلم إزَّاي؟ زي ما يكون من الأولاد الشيوعيين".

 

صورة من فيلم باب الحديد - محطة قطار القاهرة المركزية للمخرج السينمائي المصري يوسف شاهين، من عام 1958. Quelle: AL-Film Festival in Berlin
Querdenker und Enfant Terrible des arabischen Films: Youssef Chahine war ein freier Kopf, Zeit seines Lebens ließ er sich äußerst ungern in etwas hineinreden. Das zeigen auch seine Stoffe: Früh thematisierte er die Konflikte zwischen den einfachen Leuten und Vertretern der Oberschicht oder des Staates.

 

{السؤال الكبير هو إِنْ كانت المجتمعات العربية على استعداد لإفساح المجال لمثل هذا التعدد في الهويات الذي عرضه يوسف شاهين في أعماله. - الناقد الألماني كريستوفر ريش}

 

وفي النهاية يعطي ابنه طبعًا هذا المبلغ، الذي لن يؤثِّر عليه. حصل فيلم "إسكندرية له؟" في عام 1979 على جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين السينمائي. وبذلك فقد توطَّدت شهرة يوسف شاهين في جميع أنحاء العالم.

كانت الشهرة العالمية دائمًا مهمة بالنسبة للمخرج يوسف شاهين. وهذا ما يستهدف اتّهامه بأنَّه كان دائمًا ينحرف كثيرًا إلى فرنسا أو الولايات المتَّحدة الأمريكية، وأنَّ الجماهير المصرية كانت في حقيقة الأمر غير مهمة بالنسبة له. ولكن على خلفية موضوعاته المعالجة سينمائيًا فإنَّ هذا اتِّهام مبالغ فيه.

في خدمة جمال عبد الناصر؟

وفي المقابل، كان الأكثر دقة هو انتقاده على أنَّه كان يسمح باستغلاله وتسخيره في بعض الأحيان من قِبَل جمال عبد الناصر، الرئيس المصري (من عام 1954 وحتى عام 1970) المبُجَّل كثيرًا من قِبَل الشعب: فقد كان فيلمه "النيل والحياة" (إنتاج عام 1969) إنتاجًا مشتركًا بين الجمهورية العربية المتَّحدة والاتِّحاد السوفييتي بتكليف من جمال عبد الناصر.

لكن مع ذلك فقد بقي يوسف شاهين على الدوام مستقلًا في كلِّ كيانه. وكانت رؤيته للسينما شخصيةً وعنيدةً للغاية، بحيث لا يمكن استغلالها بشكل دائم، مثلما كتب في الكُتيِّب التوضيحي القائمون على المعرض الاستعادي [الاستذكاري] في سينما "أرسنال" الألمانية.

غير أنَّ النسخة الأولى من فيلمه "النيل والحياة" لم تحظَ بترحيب المموِّلين السوفييت، وأيضًا فيما بعد كانت أفلامه تخضع مرارًا وتكرارًا للرقابة - وحتى يومنا هذا لا تزال مدرجة على قائمة [الحظر] في العديد من الدول العربية. ولهذا السبب أيضًا فقد أسَّس يوسف شاهين في مطلع السبعينيات من القرن العشرين شركته الخاصة للإنتاج، شركة أفلام مصر العالمية، التي تديرها اليوم ابنة شقيقته ماريان خوري. وقد منح تأسيس هذه الشركة المخرج الأكثر نضجًا يوسف شاهين حرِّيةً فنِّيةً أكبر.

محاكاة ساخرة للسينما السائدة

تصف الباحثة الألمانية المصرية فيولا شفيق المختصة بالسينما العربية عمل المخرج المصري يوسف شاهين بقولها: "لم يتمكَّن سوى القليل من المخرجين العرب من تحقيق مثل هذا التطوُّر من مخرج أفلام سائدة إلى مخرج وكاتب سيناريو ملتزم". وتضيف أنَّ أسلوبه يحاكي بسخرية الأفلام السينمائية السائدة، ولكنه في الوقت نفس يدمجها. تقول فيولا شفيق: "في هذا الأسلوب الهجين يشبه يوسف شاهين من دون ريب فيدريكو فيليني"، الذي يعتبر واحدًا من أكبر المخرجين السينمائيين في القرن العشرين.

إنَّ الحرِّية الفنِّية في أعمال يوسف شاهين هي قبل كلِّ شيء التي تجعله يبدو نموذجًا ساطعًا بالنسبة للمخرجين العرب اليوم. تلعب هنا سينما الزاوية في القاهرة دورًا كبيرًا كنقطة التقاء، وتعتبر منذ تأسيسها في عام 2014 سينما بيت الفنّ الأولى وربَّما الوحيدة في مصر. وفي هذه السينما يتم عرض أعمال لعظماء مثل يوسف شاهين، وكذلك لمخرجين مستقلين أقل شهرة.

 

 

{يوسف شاهين كان يريد بناء الجسور، أيضا بين الغرب والشرق. - ماريان خوري مخرجة ومنتجة سينمائية مصرية وهي ابنة شقيقة المخرج يوسف شاهين.}

 

نشأت الأفلام المستقلة في مصر تقريبًا منذ منتصف العقد الأوَّل من القرن العشرين مع بداية الرقمنة: فجأة بات بإمكان المخرجين الشباب تصوير أفلام بسعر أقل بكثير وبجهد أبسط. وحول ذلك تقول فيولا شفيق: "لقد خلق هذا التطوُّر حركة كبيرة في المشهد السينمائي، ولكنها لسوء الحظ لا تسير إلَّا بشكل متوازٍ مع صناعة السينما" - لذلك فهي بعيدة كلّ البعد عن فرص التمويل في البلاد. من المعروف أنَّ المخرجين العرب يعتمدون -أكثر بكثير مما عليه الحال في مناطق العالم الأخرى- على المانحين الأجانب، الذين غالبًا ما يفرضون مثلًا أفكار مواضيعهم.

جسر بين الغرب والشرق

كان من بين أفلام يوسف شاهين الأخيرة فيلم "المصير" (إنتاج عام 1997). في هذا الفيلم غير الاعتيادي بالنسبة له، لأنَّه فيلم بصيغة تاريخية للغاية، يعرض يوسف شاهين باستخدام مثال الفيلسوف ابن رشد الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي كيف يمكن بسرعة أن يصبح التفكير الحرُّ مهدَّدًا من التعصُّب والكراهية.

تقول ماريان خوري: "لقد كان يريد بناء الجسور، أيضًا بين الغرب والشرق". لقد نشأ هذا الجمع من سيرة حياة يوسف شاهين الخاصة. فقد كان والده لبنانيًا ووالدته يونانية. المسلمون واليهود والمسيحيون -عائلة شاهين تنتمي لهذه الفئة الأخيرة-  كانوا لا يزالون يعيشون سويةً من دون أية مشكلات. والإسكندرية -المدينة التي ولد فيها- كانت تعتبر عالمية.

يوسف شاهين، هذا المخرج العربي العظيم، كان ولا يزال رمزًا للانفتاح على العالم والتسامح. فقد تناول، على سبيل المثال، موضوع المثلية الجنسية في وقت مبكِّر جدًا - وهو موضوع محرَّمٌ حتى يومنا هذا في مصر وكذلك في العديد من الدول الأخرى في المنطقة.

والسؤال الكبير هو إِنْ كانت المجتمعات العربية على استعداد لإفساح المجال لمثل هذا التعدُّد في الهويَّات، الذي عرضه يوسف شاهين في أعماله. ليس من غير المألوف أن يكون المخرجون السينمائيون سابقين كثيرًا لزمانهم، ولكن يمكن للواقع -بلا ريب- اللحاق برَكبِهم.

 

 

كريستوفر ريش

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2019

ar.Qantara.de