مسرحية "انتظار المطر" - رحلة البحث عن الذات

ضمن إطار مشروع تعاون عراقي ألماني أخرج "المسرح الدولي المفتوح" مسرحية "انتظار المطر" - عن مسرحية صموئيل بيكيت "انتظار غودو - الرب". وتعرض هذه المسرحية المجتمع العراقي في بحثه عن ذاته. ليوني كيرشر تحدَّث إلى القائمين على هذا المشروع.

​​ "يجب الاستمرار!" يقول هذه العبارة المخرج المسرحي العراقي الكردي، إحسان عثمان وهو يقرع بأصابعه فوق المنضدة الخشبية بإيقاع منتظم مؤكِّدًا على ما يقول: "لا يستطيع المرء الكلام دائمًا وحسب؛ فقد كان لدينا ماضٍ سيِّئ. وصحيح أنَّ بإمكان المرء أن يشتكي، بيد أنَّ الإصرار على الشكوى ليس حلاً. وإذا كان المرء يعاني من مشكلة في عدم تحرير نفسه من هذا الوضع فإنَّ السبب يكمن فيه هو بالذات. ونحن أردنا إظهار ذلك في مسرحيَّتنا".

واسم هذه المسرحية التي يتحدَّث عنها المخرج إحسان عثمان هو "انتظار المطر". وقد عرضها "المسرح الدولي المفتوح" في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر الماضي في مدينتي بوتسدام وبرلين وكذلك في شهر كانون الأوَّل/ديسمبر في مدينتي أربيل ودهوك في المنطقة الكردية من شمال العراق.

مسرحية مخرجة عن مسرحية "انتظار غودو - الرب"

ومسرحية "انتظار المطر" هي المسرحية الرابعة التي أخرجها "المسرح الدولي المفتوح" والذي تم تأسيسه من قبل المخرج إحسان عثمان والممثِّلة أنتية س. هوبوخَر Antje C. Hobucher في عام 2005 في برلين. وتشير هذه المسرحية باستمرار إلى الوضع السائد في العراق؛ كما أنَّ إخراجها مقتبس عن مسرحية صموئيل بيكيت "انتظار غودوت - الرب".

مشهد من المسرحية
بين الاستسلام للقدر والأمل - بطلا المسرحية "عربو" و"كاكي" في تيه وسط الصحراء

​​ وبعد عرض مسرحية "الموت والفتاة" التي تم عرضها قبل عام وتم فيها طرح أسئلة حول موضوع الانتقام والحقّ والعدالة والذنب والتصالح، بالإضافة إلى نقاش موضوع التغلّب على آثار الحكم الدكتاتوري التي تعود إلى عهد الرئيس صدام حسين، كان اقتباس هذه المسرحية عن مسرحية "انتظار غودو - الرب" مناسبًا من أجل الاستمرار في عكس الوضع السائد في العراق.

"تصوِّر المسرحية جدال العراقيين مع أنفسهم وحول أوضاعهم؛ وهي تعرض السؤال عن سبب حدوث ما حدث والمكان الذي وصل إليه العراقيون الآن؟" مثلما توضِّح أنتية هوبوخَر. ويقول من ناحية أخرى إدواردو فرنانديز تينلادو Eduardo Fernández-Tenllado المشارك في تنظيم عرض المسرحية باختصار، إنَّ هذه المسرحية تعالج موضوع تلاقي ثقافتين مختلفتين تمام الاختلاف والصعوبات في فهم الآخر والاقتراب، بالإضافة إلى العزلة والأمل والاسقاط.

والآن لاحظ إدواردو فرنانديز تينلادو أثناء عرض مسرحية "انتظار المطر" بعض الارتياح، على العكس تمامًا مما لاحظه في مسرحية "الموت والفتاة" التي أثيرت فيها جدالات شديدة.

بابل - بلبلة حديثة

إنَّ ما ميَّز هذه المسرحية هو عرضها وإخراجها بأربعة أشكال مختلفة؛ حيث تم عرضها باللغة الألمانية واللغة الإنكليزية واللغة الكردية وكذلك بلغات متعدِّدة. وقد تم إخراج كلِّ عرض من قبل مخرج مختلف، بحيث تدفَّقت في العروض جوانب ثقافية مختلفة.

وتم إخراج العرض المتعدد اللغات من قبل إحسان عثمان. وفي هذا العرض تحدَّث كلّ ممثِّل لغة بلده، بحيث نشأت عن ذلك "بابل حديث" أؤ بلبلة حديثة من اللغة الكردية والعربية والفارسية واللهجة الأمريكية واللغة الألمانية. وعلى هذا النحو لم ينقل الممثِّلون فقط البلبلة اللغوية، بل لقد عايشوها بشكل مباشر بأنفسهم كما أنَّهم أضفوا لهذا السبب على المسرحية عاملاً مثيرًا للغاية.

وسبقت العرض الكردي ورشة عمل استغرقت أسبوعًا، تمت فيها ملاءمة هذه المسرحية مع الوضع المتأزِّم في العراق؛ وتم نقل مسرح أحداثها إلى الصحراء. وكذلك تم تحويل اسمي البطلين الأصليين في مسرحية "انتظار غودو - الرب"، أي "فلاديمير" و"إستراغون" إلى "عربو" و"كاكي" - ما يعني بالكردية "العربي" و"الكردي".

صدًى إعلامي واسع؛ لم تُقابل هذه المسرحية باهتمام كبير من قبل المشاهدين في العراق وحدها، بل كذلك في ألمانيا

​​ وتم تحويل السيِّد "بوزو" وخادمه "لوكي" إلى ضابطة أمريكية وأجيرتها الألمانية. وكذلك حوِّل الصبي الصغير الموجود في عمل صموئيل بيكيت إلى ملاك أدَّت دوره ممثِّلة إيرانية. و"العربي" و"الكردي" اللذان هربا لتوِّهما من السجن يتيهان في الصحراء. وأثناء بحثهما عن مخرج من الصحراء تلتقي بهما الضابطة الأمريكية وأجيرتها الألمانية. ويأمل العربي أن تكون الضابطة الأمريكية وأجيرتها تعرفان طريق الخروج من الصحراء.

غير أنَّ هذا الأمل لا يتحقَّق. إذ يتحتَّم عليهما معرفة أنَّ الضابطة وأجيرتها هما أيضًا في حيرة من أمرهما وأنَّهما تأملان من ناحية أخرى في أن يكون هذان العراقيان عارفين الطريق، وذلك لأنَّهما يجب أن يعرفا هذا البلد كونهما من أبنائه. وهكذا يبقى العربي والكردي مرابطين في مكانهما، في حين تواصل المجندتان تيههما على غير هدى عبر الصحراء.

ويتذبذب الممثِّلون بين الاستسلام للقدر والأمل، بينما يظهر أنَّهما يحولان دون الحركة والتغيير. وفي آخر المطاف يقف المرء في هذا التذبذب جامدًا بين الانتظار والأمل. وحتى أنَّ الملاك الذي يظهر للباحثين في الصحراء باعتباره شخصًا ذا قدرات فوق طبيعية لا يستطيع مساعدتهم، بل يخبرهم بانتظام عن مجيء المطر أي مجيء المنقذ، ولكن من دون أن يظهر هذا المنقذ على أرض الواقع. وتبقى النهاية مفتوحة.

هزلية شافية بدلاً من مطر منظِّف

والموضوع المحوري في هذه المسرحية هو الانتظار - سواء كان الآن انتظار غودوت، الرب أو انتظار المطر. غير أنَّ المشاهد ينتظر تعرّف شخوص المسرحية على أنَّ من شأنهم هم بالذات أن يتولّون أمورهم وقدرهم ويخطون الخطوة التالية، وليس أن يأملون في حصولهم على مساعدة غامضة من الخارج.

ومسرحية "انتظار المطر" تشكِّل الإجابة العراقية على "غودو". وكذلك يعتبر هطول المطر في الصحراء أمرًا غير محتمل، مثلما هي الحال مع ظهور "غودو" في المسرحية الأصلية. ويبقى الخلاص والتحرّر من الماضي بواسطة المطر أمرًا مستحيلاً.

ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ هذه المسرحية لا تترك المرء من دون أمل. فالوضع غير المعقول والحوارات التي تتطوَّر حول ذلك تضفي على مسرحية "انتظار المطر" طابعًا هزليًا. وهذه الهزلية هي التي تساعد المشاهد - ضمن هذا الوضع الذي يعتبر في الحقيقة مأساويًا - على الابتعاد الذي يستطيع من خلاله التحاور مع نفسه. والهزلية هي بالنسبة للممثِّلة أنتية س. هوبوخَر ما يشكِّل عنصر الجاذبية والإثارة في مسرحية صموئيل بيكيت، إذ إنَّ "لها أثر شافٍ كما أنَّها تساعد في عكس الوضع".

المسرح وسيلة لعلاج صدمة العراقيين

ولا تنعكس الشعبية الواسعة التي يحظى بها المسرح في العراق وإسهامه هناك في معالجة الماضي الذي ما يزال حديثًا جدًا فقط في الاستثمارات الحالية التي يتم استثمارها في القطاع الثقافي - على الأقلّ في المنطقة الكردية. فالمسرح مهم لأنَّه يؤدِّي أيضًا دور الطبيب لاسيما وأنَّ هناك حاجة ماسة لآلاف من الأطبَّاء - إن لم يكن لملايين من الأطبَّاء - من أجل معالجة الصدمة التي أصيب بها العراقيون، حسب تعبير إحسان عثمان.

ويقول إحسان عثمان إنَّ المسرح يساعد العراقيين من أجل فهم وضعهم بشكل أفضل. وكذلك يستطيع المرء - حسب تعبير أحسان عثمان - ومن خلال الأعمال المسرحية التغلّب على الماضي ومناقشه بشكل أفضل، بغية تمكين الناس فيما بعد من الإقبال على الحياة والاستمرار في السير. والمسرح يقوم بدور "طاولة لمعالجة مشاكل المجتمع".

وحتى الآن لاقت أغلب عروض مسرحية "انتظار المطر" صدًى إيجابيًا واسعًا، حيث كانت دور المسارح التي تم فيها عرض هذه المسرحية في العراق وفي ألمانيا كثيرة الزوَّار، كما كتبت الصحافة تقارير إيجابية حول هذا المشروع.

وقد شارك حتى الآن ضمن إطار مشاريع "المسرح الدولي المفتوح" التي أقيمت بالتعاون مع وزارة الثقافية العراقية ووزارة الثقافة في المنطقة الكردية أكثر من ستين فنانًا من ألمانيا والعراق في مسرحيَّات تم عرضها في ألمانيا وفي الخارج. وعلى الرغم من أنَّ هذه المجموعة المسرحية تعتبر مجرَّد طاقة صغيرة، إلاَّ أنَّ هدفها هو البدء بالمبادرات.

صدًى إيجابي في ألمانيا

والمخرج إحسان عثمان يرى أنَّ إثبات المشاريع المسرحية جدارتها يكمن في الطلب المستمر على مشاهدة المسرحيَّات؛ يقول إحسان عثمان: "إنَّ الدليل على نجاح هذا المشروع هو استمراره، أي زيادة الطلب على مشاهدته في العراق وفي ألمانيا. وكذلك يدل التمكّن من عرض مسرحيَّتين خلال عام على وجود اهتمام كبير".

ويقول إحسان عثمان إنَّ عمل العراقيين كان مثيرًا؛ حيث حضر وزير الثقافة الكردي العرض الأوَّل لمسرحية "انتظار المطر" في ألمانيا. وتضيف أنتية هوبوخَر إنَّه ما يزال يجب أن يتم العمل بسرعة من أجل منح تأشيرات دخول إلى ألمانيا للممثِّلين العراقيين العاملين في الفرقة المسرحية. فالشك في قبول طلب الحصول على التأشيرة أو رفضها يزيد كثيرًا من صعوبة التخطيط.

وهكذا اضطرت هذه الفرقة المسرحية إلى الاعتذار عن عرض عمل مسرحي، وذلك لأنَّ الممثِّل الرئيسي لم يحصل على تأشيرة لدخول ألمانيا. وتقول أنتية هوبوخَر وإدواردو فرنانديز تينلادو وإحسان عثمان بابتسامة وإجماع:"لكنَّنا كلّنا متفائلون".

ويستأذن إحسان عثمان منصرفًا، إذ يجب عليه السفر إلى المطار وذلك لأنَّه سوف يلقي في اليوم التالي محاضرة حول الوضع في العراق. وكذلك يتم التحضير للمشروع التالي الذي سيقوم به "المسرح الدولي المفتوح"؛ فمن المفترض أن تُعرض في أربيل في الحادي عشر من شهر آذار/مارس مسرحية "ماغلونه الجميلة" - وهي مسرحية تم إخراجها طبقًا لعمل يوهان لودفيغ تيك Johann Ludwig Tieck، وتتحدَّث عن الحبّ في أيَّام الحرب وقد تم إخراجها في لغة مفهومة على مستوى عالمي.

ليوني كيرشر
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

تلقّي الأديب الألماني فريدريش شيلّر في العالم العربيّ:
بداية واعدة مع "حب ودسيسة"
حتفل ألمانيا هذه السنة بمرور مائتي سنة على وفاة الشاعر والمسرحي الكبير فريدريش شيلر. عبده عبود، أستاذ الأدب المقارن في كلية الآداب بجامعة دمشق، يتناول في مقاله حركة تعريب أعمال هذا الأديب ومدى رواجها في العالم العربي.

روبرتو شويلي
مثال نموذجي للتبادل الثقافي
استطاع المسرحي روبرتو شويلي أن يحقق حلمه في الدخول في حوار مع بعض الدول الإسلامية عبر زيارات مسرحية متبادلة ومشاريع مشتركة. بيتر فيليب يعرّف به.

ملف:
التبادل الأدبي العربي-الألماني
يعتبر الأدب دوما أحد الوسائل الرئيسية في حوار الحضارات، وغالبا ما يتمثل هذا في شكل أنشطة صغيرة تعمل في الخفاء: المترجم والناشر مثلا اللذان يعيشان على حافة الكفاف، ويقتاتان من العمل في التعريف بالثقافة الغريبة المحبوبة. ونقدم هنا مبادرات ألمانية وعربية