هل ينذر انتخاب السيسي بعودة دولة الضباط السلطوية؟

يري الباحث المصري عاطف بطرس العطار في تحلليه التالي لموقع قنطرة أن معركة الانتخابات الرئاسية في مصر هي معركة غير متوازنة وتكاد تكون محسومة لمرشح الدولة عبد الفتاح السيسي، ولكن تبقى هناك فرصة، ولو نظرياً، سيختار فيها المصريون بين البقاء في دولة يوليو الجديدة القديمة، التي يحكمها العسكريون منذ 1952 وبين الخروج منها بشكلاً ما والانتقال إلى الديمقراطية، أياً كانت تحديات الوضع الخاص بالمعسكر الديمقراطي المنقسم على ذاته وعدم وجود كيانات سياسيه قوية تقدم البدائل للخروج من الحلقة الجهنمية بين حكم الدين وحكم الجنرالات.

الكاتبة ، الكاتب: Atef Botros

نجح الإخوان في الوصول للحكم وكان مسعاهم وغايتهم يتمثل في فرض تصوراتهم الهوياتية وأيديولوجيتهم على المجتمع من خلال بنية الدولة السلطوية القديمة نفسها، ولكنهم فشلوا في تحقيق أي نجاح على الصعيد السياسي بسبب طائفيتهم وانغلاقهم الاجتماعي الشديد وتبعيتهم للتنظيم الدولي ونهمهم للسلطة والثروة. وربما ساهم في فشلهم ايضا عدم تعاون مؤسسات الدولة معهم.

تعلم المصريون أن مشروع الإسلام السياسي يوظف الدين ويزايد عليه فقط للوصول الى السلطة، وأن الجماعة استغلت مشاعر البسطاء الدينية وحاجتهم فتوجهت لهم بأعمال خيرية ظاهرها التكافل وباطنها الرشوة السياسية، ولكنها فشلت في إدارة الدولة؛ لأنها أطاحت بمطالب ثورة يناير 2011، واكتفت بديمقراطية إجرائية، ولم تحترم إلا الجيش لكونه القوة الصلبة الوحيدة غيرها، فعقدت معه الصفقات وأمنت وضعه في دستورها المنفرد الذي اغضب المصريين.

 فقد الإخوان ورئيسهم شرعيتهم الشعبية والأخلاقية، وتلاحقت ردود الأفعال في شكل احتجاجات متكررة كانت ذروتها في ٣٠ يونيو ٢٠١٣ في حشد شعبي غير مسبوق ضم كل معارضيهم، تم ترجمته في ما عُرف بتحالف٣ يوليو وخارطة الطريق؛ بقيادة السيسي رجل المخابرات ووزير الدفاع في ذلك الوقت.

 تحركت المؤسسة العسكرية بدعم شعبي واسع، ولكن بإجرائات غير ديمقراطية؛ فعزلت نظام الإخوان واعتقلت قياداته وبالغت في استخدام عنف مفرط راح ضحيته أعداد كبيرة من القتلى، في الوقت الذى تصاعدت فيه ردود الافعال الارهابية ضد الاجهزة الامنية ومنشآت الدولة، وبصفة خاصة ضد الاقباط وكنائسهم، والذي تبعه إعلان جماعة الإخوان جماعة إرهابية، ورفع شعار الحرب على الإرهاب. منذ ذلك الوقت وحتى اليوم تحول المجال العام تدريجياً إلى آلة دعائية ضخمة يغذيها وقود كراهية الإخوان، في مقابل تعظيم الدور البطولي للجيش وقائده الذي تحول إلى أيقونة جديدة تستنسخ شخصية الزعيم عبد الناصر.

تبلورت ذروة الصدام فى لحظة تفاقم عناد وعنف الإخوان وتمسكهم المفرط بالسلطة من ناحية وغضب وكراهية الشارع لهم من ناحية أخرى، وهي نفس اللحظة التي ظهر فيها قائد الجيوش المُخلِص، في مشهد مسرحي بطولي، كرست له الدولة كل مؤسساتها وإعلامها لتصعيد مشاعر الكراهية ضد الإخوان، ومشاعر التقديس والإجلال للجيش وقائده، الذي إدعى عدم رغبته في الحكم. وشاركت في هذه الاحتفالية مؤسسات الدولة المختلفة، مثل الأزهر الذي أدعى أحد علمائه أن السيسي ينتمي إلى سلسلة الأنبياء، والكنيسة التي سارعت أيضاً في التهليل له.

السيسي خلال التصويت على الدستور الجديد ; Foto: dpa/picture-alliance
Regentschaft mit eisernen Faust und auf Kosten der Zivilgesellschaft: "Abdelfattah al-Sisi sieht Ägypten der Demokratie noch nicht gewachsen. 'Vielleicht in 25 Jahren', sagte er einmal. Doch so lassen sich weder politisches Gleichgewicht noch nationale Versöhnung erreichen", schreibt Botros.

شيطنة المعارضة المطالبة بالديمقراطية

 ولكن "الحرب على الإرهاب" لم تستهدف الإخوان فقط، بل امتدت أذرعها لتبطش بأي صوت يعارض النظام الجديد الذي يديره الزعيم من وراء واجهة ورقية لدولة ورئيس وحكومة انتقالية. وفي غمرة حرب دعائية شرسة استطاع النظام شيطنة وتشويه معارضيه المطالبين بالديمقراطية والحريات والمتمسكين بمطالب ثورة يناير والرافضين لعودة الدولة الامنية؛ فتم التنكيل بهم وعادت ممارسات الاعتقال والتعذيب أشد مما كانت عليه، كما داهمت الشرطه مقرات الحقوقيين، وتم حظر نشاط جماعة ٦ إبريل، التي كانت شريك رئيسي في الثورة بعد إطلاق شائعات الخيانة حولها وتشويهها إعلامياً واخيراً صدرت أحكام الإعدام الجماعية في المنيا بطريقة عبثية.

والأخطر من هذا هو نجاح النظام عن طريق الشحن الدعائي في تأسيس تأييد شعبي قوي لهذه الممارسات تحت شعار: انه لا وقت للحريات ولحقوق الانسان، ولا صوت يعلو فوق صوت "الحرب على الإرهاب"، والأولوية لمطالب الأمن والاستقرار. بل تم الترويج أيضا لفكرة أن ثورة يناير 2011 لم تكن إلا مؤامرة دبرها الإخوان بمساعدة بعض الدول المعادية، وأن الثورة الحقيقية هي ثورة ٣٠ يونيو 2013.

وهكذا أصبح الخطاب السائد، الذي روجه النظام بتحالفه الجديد وشاركت فيه الأغلبية، خطاب يزايد على الوطنية ويبالغ فيها ولا يسمح بأي اختلاف أو معارضة٬ خطاب قائم على تعظيم خطر "الجماعة الإرهابية" ووجود مؤامرة خارجية كبرى تسعى لتخريب مصر وتقسيمها. لذلك يوجب الضرب بيدٍ من حديد ليس فقط على المنتمين للجماعة والمتعاطفين معهم، بل أيضاً على كل من يخرج عن هذا الإجماع ويطالب بالحرية والديمقراطية، أو ينتصر لثورة يناير التي قامت من أجل دولة العدالة والحريات وضد اجهزة القمع الأمنية - التي استعادت عافيتها منتقمة من كل من ثار عليها.

 وفي هذه الأجواء استطاعت أجهزة الدولة وعمادها المؤسسة العسكرية وجهاز الشرطة وبيروقراطية الدولة العميقة أن تستعيد رصيدها الشعبي التي فقدت الكثير منه بعد يناير ٢٠١١، وخاصة الجيش؛ الذي قتل المتظاهرين وسحل الثوار وعرى المتظاهرات وكشف على عذريتهم٬ فقد استعاد مكانته بل تحول الى كيان مقدس فوق أي نقد أو شبهة لأنه حامي الوطن من وحش الإرهاب ومن شبح المؤامرة الكبرى.

وهكذا تحولت المزايدة على الهوية الدينية، التي سادت أثناء حكم الإخوان إلى نوع جديد من المزايدة على الوطنية، فبدلاً من توجيه صيغ التكفير لمن يعارض القوى السياسية الإسلامية أُطلقت صيغ التخوين والعمالة وكراهية الوطن على من يعارض النظام السياسي الجديد القديم، أو ينتقد المؤسسة العسكرية والزعيم، أو يناهض أية ممارسات قمعية للدولة. بات من الواضح أن النظام يراهن على هذه الحرب الدعائية لدرجة غير مسبوقه في أساليب التعاون بين الأجهزه الاستخباراتية والإعلام المحسوب على النظام؛ وتجلى هذا على سبيل المثال في بث تسجيلات تليفونية خاصة للتشهير بشخصيات تحسب على المعارضة.

نجحت كل هذه الجهود التي استغلت فشل الإخوان وغبائهم السياسي في تكوين موجة شعبية قوية في اتجاه معاكس لثورة يناير ومطالبها. وساعدت هذه الموجة بدورها المؤسسة العسكرية بدفع السيسي ليتولى رئاسة الدولة مثلما قدمت الجماعة من قبل مرشحها للرئاسة.

السيسي مرشح المؤسسة العسكرية

الباحث المصري عاطف بطرس العطار محاضر بقسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة ماربورج الألمانية وهو عضو مؤسس لمؤسسة ميادين التحرير  للتنمية المستدامة في مصر.
الباحث المصري عاطف بطرس العطار محاضر بقسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة ماربورج الألمانية وهو عضو مؤسس لمؤسسة ميادين التحرير للتنمية المستدامة في مصر.

وقد تم التمهيد لترشح السيسي واختبار التأييد الشعبي بذكاء شديد، فكانت المطالبة بتفويض شعبي لمجابهة الإخوان، استجابت لها جماهير غفيرة في ٢٧ يوليو ٢٠١٣، ثم تكرر المشهد في الاستفتاء على الدستور الجديد. وأخيرا تقدم رجل المخابرات، الذي يحكم مصر بالفعل منذ عشرة أشهر للترشيح في معركة انتخابات رئاسية، تدعمه فيها كل مؤسسات الدولة. ولذلك لا يمكن اعتبار السيسي مرشحاً عادياً، حيث انه لم يستمد قوته وصلاحيته من خلال نضال سياسي على الأرض أوتاريخ شخصي بل بسبب موقعه، الذي وُجد فيه كقائد أعلى لأقوى مؤسسات الدولة. كما أنه لا يترشح كفرد أو مواطن ولكنه يترشح مدعوماً من مؤسسته العسكرية٬ الامبراطورية الاقتصادية الكبرى، التي تتمتع بإعفائات وامتيازات واسعة دون ادنى رقابة. كما تدعمه أيضاً قطاعات أخرى من الدولة القديمة وشبكات المصالح، وجهاز أمني يمارس التعذيب ويريد الانتقام ممن ثار عليه، كما يدعمه شيوخ البترول الخائفين على ممالكهم الهشة من عدوى الحريات والديمقراطية.

تأكدت المخاوف المتعلقة بطبيعة المرحلة عندما تكلم المشير مؤخراً في الاعلام حيث قدم نفسه كشخص لا يؤمن بالحريات بحجة تعارضها مع الأمن. وهذه مغالطة مقصودة لتبرير القمع؛ فلن يتحقق أي أمن ولن ينتهي الإرهاب إلا في إطار عدالة حقيقية وتقديس تام للحريات ولحقوق الانسان، ولا يوجد أي تعارض بين الأمن وحرية التعبير التي يكفلها ايضاً الدستور الجديد.

لكن الرجل بتكوينه الأمني السلطوي الصارم وصف من يخرج في تظاهرات احتجاجية بأنه يريد تخريب الدولة، رغم أنه طالب بنفسه من قبل بتظاهرات التفويض التي أكسبته الشرعية. ولكنه وصف من يتخذ موقفاً مغايراً بأنه ضد المصلحة الوطنية التي يعرفها هو ويحدد ملامحها بمفرده. جاء كلامه وكأنه ترجمة حرفية لسلوك السلطة منذ عزل الإخوان. لم يذكر المشير أي دور يراه في "مشروعه" للمجتمع المدني، أما المواطن الفرد فهو يراه واحداً من جموع المصريين، الذين يتوقع منهم سلوكاً جماعياً، كجنود يشجعهم على القتال من أجل النصر ويحذرهم من الخروج عن المسار الذي يراه هو صحيحاً، فلا مكان لمعارضة ولا لأحزاب تشكل مجال سياسي يسمح بالخلاف وتتكون فيه المواقف والمواءمات من أجل مصلحة عامة وطنية.

أما عن نظرته للمرأة فهو يراها فقط في دور الأم أوالزوجة للجنود أو للمواطنين، تدعمهم وترعاهم، وتعتني ببيتها، وتدبر وتوفر الطاقة للدولة. هكذا تكلم الرجل العسكري كاشفاً نظرته الذكورية الأبوية التي تفتخر بحماية الذكر القوي للأنثى التي يطالبها بالبقاء في بيته. ولكن ما هو موقفه منها عندما تمارس حقوقها السياسية في الشوارع والميادين؟ يمكن الاجابة على هذا السؤال من خلال استرجاع موقفه من تعذيب المتظهارات وإهانتهن فيما عُرف بكشوف العذرية إبان ثورة يناير، حيث قام بتبرير هذه الإعتدائات على انها حماية لافراد الجيش من اتهامهم بإغتصاب الفتايات. وفي حديثه أيضاً يتقرب المشير ويتودد لأكثر الأنظمه سلطوية ورجعية، فيصف ملك السعودية بكبير العرب وحكيمهم.

Der saudische König Abdullah bin Abd al-Aziz; Foto: dpa
Strategische Partnerschaft mit dem absolutistischen Herrscherhaus in Riad: Abdelfattah al-Sisi bezeichnete den saudischen König Abdullah bin Abd al-Aziz als als den "größten und weisesten aller Araber".

إغلاق المجال العام

يبدو واضحاً من حديث المشير أنه يريد أن يغلق المجال العام تماما برفضه لوجود اي إحتجاجات او إضرابات وتنصيبه لنفسه حارساً وراعياً ومحتكراً ليس فقط لمعاني الوطنية بل ايضاً للدين والأخلاق كما ذكر في حديثاً له: "ما فيش حاجه اسمها قيادة دينية تبقى موجودة، لأن المفروض ان رئيس الدولة مسؤول عن كل حاجه فيها حتى دينها ... أنا مسؤول عن القيم والمبادىء والاخلاق والدين". وهو يبرر هذا بحجة الأمن، ليدير كل شيء وحده مع مؤسسته العسكرية التي تربى بداخلها منذ سن الخامسة عشر؛ وهي المؤسسة، التي تدعي الإنضباط والتقدم والإعتماد على العلوم الحديثة، ولكنها لازالت تتبنى جهازاً عبثياً تدعي انه يشخص ويعالج الإيدز وفيروس سي، مما أثار سخرية العالم منه. كما يسعى الرئيس المقبل لتعظيم دور الدولة المركزية، التي ستتدخل في كل الأمور لتقضي على السياسة وعلى المجتمع المدني كما ستقضي على إبداع الفرد وسعيه نحو الحرية. مشروع السيسي القائم على إنقاذ البلاد من شر الإخوان سيذهب بها بعيدا عن مسارات الديمقراطية والحرية.

وكما أضاع الإخوان فرصة تاريخية في القيام بدور الوسيط بين القوى الديمقراطية وبين القوى المحافظة وانصار الدولة الأمنية، وكما فشلوا هم في هذا لأنهم رفضوا الشراكة وطمعوا في الانفراد بالحكم وحاولوا إقصاء الجميع فاغضبوا الجميع٬ فسوف يفشل المشير أيضاً في القيام بهذا الدور، لأنه ببساطة يمثل النظام القديم والدولة الأمنية بكل المعاني، ولا يقف في المنتصف.

وقد عبر عن هذا في أحاديثه الأخيره بوضوح لا يحتمل اللبس، حيث اعتبر الديمقراطية رفاهية، "ربما يأتي وقتها بعد ربع قرن". ولذلك فهو لن يستطيع تحقيق أي توازن، لأنه يسعى لإعادة إنتاج دولة سلطوية قمعية، تخرس أصوات الحرية وتقمع المعارضة وترفض التعددية ولا تحترم حقوق الإنسان وحقوق المرأة.

معركة الانتخابات الرئاسية هي معركة غير متوازنة وتكاد تكون محسومة لمرشح الدولة، ولكن تبقى هناك فرصة، ولو نظرياً، سيختار فيها المصريون بين البقاء في دولة يوليو الجديدة القديمة التي يحكمها العسكريون منذ 1952 وبين الخروج منها بشكلاً ما والإنتقال إلى الديمقراطية، أياً كانت تحديات الوضع الخاص بالمعسكر الديمقراطي المنقسم على ذاته وعدم وجود كيانات سياسيه قوية تعمل على الأرض وتقدم البدائل للخروج من الحلقة الجهنمية بين حكم الدين وحكم الجنرالات.

 

عاطف بطرس العطار

تحرير: لؤي المدهون

حقوق النشر: موقع قنطرة 2014

عاطف بطرس العطار محاضر بقسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة ماربورج الألمانية وهو عضو مؤسس لمؤسسة ميادين التحرير  للتنمية المستدامة في مصر.