أحكام تعسفية تناقض معايير العدالة الدولية والإنسانية

بدلاً من إصلاح نفسه، حكم القضاء المصري بإعدام مئات الإخوان المسلمين في حين لم ينظر في قضية الفض الدموي العنيف لاعتصامات معارضي الانقلاب التي قُتل فيها المئات، وأجّل محاكمة حسني مبارك لسنوات رغم مقتل المئات إبّان ثورة يناير 2011. تدهور أداء السلطة الثالثة المصرية يمثل فشلا ذريعا سيدفع ثمنه جميع المصريين، كما يكتب الصحافي كريم الجوهري في تحليله التالي لدور القضاء في مصر.

الكاتبة ، الكاتب: Karim El-Gawhary

يبدو أنَّ أحكام الإعدام الجماعية باتت تعدّ حاليًا جزءًا من الواقع الحزين في القضاء المصري. فبعد يومين فقط وعمليًا من دون تقديم أية أدلة أو براهين، حكم يوم الاثنين (28 / 04 / 2014) قاضٍ مصري في مدينة المنيا في صعيد مصر على 683 شخصًا بالإعدام، من بينهم محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في مصر.

لقد حكم هذا القاضي نفسه قبل شهر بالإعدام على 529 متَّهمًا من الإخوان المسلمين في محاكمة جماعية سريعة أخرى، على الرغم من أنَّه لم يصادق الآن إلاَّ على إعدام 37 شخصًا من المتَّهمين الذين أدانهم في الحكم البدائي وقام بتعديل أحكام الإعدام الصادرة بحقّ الباقين إلى عقوبة بالسجن مدى الحياة.

وفي كلا المحاكمتين تمت إدانة المتَّهمين بالاعتداء على رجال الشرطة والدعوة إلى ممارسة العنف وكذلك تم اتِّهامهم بالإقدام على تدمير الممتلكات العامة والخاصة. وفي كلتا الحالتين، كان الأمر يتعلق بهجوم جماعي حاشد على مراكز للشرطة في جنوب صعيد مصر - في اليوم الذي قامت فيه الشرطة والجيش بفكّ اعتصام الإخوان المسلمين ومعارضي الانقلاب في مدينة القاهرة بطريقة وحشية.

إضرار عميق بسمعة القضاء المصري

Aktivisten der Jugendbewegung 6. April in Kairo; Foto: DW
Politisches Aus für die Initiatoren der Januar-Revolution gegen das Mubarak-Regiem: Ein Gericht in Ägypten hat alle Aktivitäten der oppositionellen Jugendbewegung 6. April verboten. Der Organisation werden nach Angaben der Justizbehörden vom Montag Spionage und Verleumdung des ägyptischen Staates vorgeworfen. Die Gruppe war 2011 maßgeblich an der Organisation der Massenproteste gegen Präsident Husni Mubarak beteiligt.

وكذلك أصدرت في يوم الاثنين (28 / 04 / 2014) محكمة مصرية أخرى حكمًا يقضي بحظر حركة شباب 6 أبريل العلمانية، التي تعتبر تجمعًا مكوَّنًا من ناشطي ميدان التحرير الشباب. لقد شاركت هذه الحركة مشاركة حاسمة في إسقاط حسني مبارك. وتم اتِّهام حركة شباب 6 أبريل بالتجسُّس وبتشويه صورة مصر. ولكن في الواقع على الأرجح أنَّ صورة القضاء المصري على وجه الخصوص قد أُصيبت في هذا اليوم بأضرار شديدة.

ونظرًا إلى "إزدواجية المعايير" في هذا الحكم، الذي أصدره القضاء المصري، يتعيَّن في الواقع مثول المدَّعين العامين والقضاة أنفسهم خلف قفص الاتِّهام. إذ بينما كان هناك على سبيل المثال في المحاكمة الأولى 529 متَّهمًا من الإخوان المسلمين تم التنديد بهم ووصفهم بالإرهابيين وحكمت عليهم المحكمة مباشرة بالإعدام، لم تنظر حتى الآن أية محكمة في فضّ اعتصام الإخوان المسلمين ومعارضي الانقلاب من قبل رجال الشرطة والجيش بطريقة دموية، أتاحت المجال لوقوع الاشتباكات العنيفة التي وقعت في صعيد مصر. وبحسب المصادر الرسمية فقد قُتل في هذه الاشتباكات في الصيف الماضي 623 شخصًا، في حين تحدَّثت تقارير أخرى عن وقوع أكثر من ألف قتيل.

وحتى فيما يخص الـ840 مصريًا الذين فقدوا حياتهم في أثناء الانتفاضة على حكم مبارك، لم تتم حتى الآن مساءلة أي شخص تقريبًا ومحاكمته قانونيًا. إذ لم يحصل سوى ثلاثة أفراد من رجال الشرطة برتب منخفضة على عقوبات مخفَّفة، كما تمت تبرئة ضبَّاط الشرطة المتَّهمين الذين كان يبلغ عددهم 183 ضابطًا. وفي المقابل لا يزال يتم الآن تأجيل محاكمة مبارك نفسه ووزير داخليَّته السابق منذ ثلاثة أعوام. وفي الأصل كان محكومًا على الفرعون حسني مبارك بالسجن مدى الحياة، ولكن أُعيد فتح ملف القضية من جديد ولا تزال قيد التداول حتى الآن.

القضاء كمعاون لتنفيذ رغبات النظام؟

وفي المقابل لقد تم فرض الحظر على نشطاء ميدان التحرير العلمانيين أعضاء حركة 6 أبريل بين ليلة وضحاها، وكذلك تم إحضار بعض الصحفيين للمثول أمام المحكمة بتهمة دعم جماعة إرهابية، وذلك بسبب اتصالاتهم مع جماعة الإخوان المسلمين.

وبالإضافة إلى ذلك تم سجن طلاّب لمدة 17 عامًا على خلفية الاشتباكات العنيفة التي وقعت مؤخرًا في الجامعات. فقد تم الحكم في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2013 على 21 شابة من مدينة الإسكندرية، بينهن سبع قاصرات، بالسجن لفترات تصل إلى عشرة أعوام، وذلك بسبب مشاركتهن في مظاهرة لدعم الرئيس محمد مرسي الذي عزله العسكر.

وعلى الرغم من تخفيف بعض الأحكام الصادرة بحقّ الإخوان المسلمين ومعارضي الانقلاب في محكمة الاستئناف، وعلى الرغم من احتمال القيام في محكمة الاستئناف بتخفيف أحكام الإعدام الصادرة الآن؛ فإنَّ الضرر الذي أصاب سمعة القضاء المصري كبير جدًا، حينما يقدم القضاء على استخدام المحاكم الابتدائية من أجل إرسال رسائل سياسية، قبل البدء في محاكم الاستئناف بشيء يمكن وصفه بالمحاكمات القانونية.

Demonstration von Aktivisten der Bewegung 6. April vor dem Obersten Gerichtshof in Kairo; Foto: Reuters
Protest gegen eine Justiz im Dienste des Regimes: Aktivisten der Jugendbewegung 6. April demonstrieren gegen die Verurteilung ihrer Mitglieder und die Unterdrückung der Meinungsfreiheit am 6. April 2013 vor dem Obersten Gerichtshof in Kairo. Der Anführer der Bewegung 6. April, Ahmed Maher, wurde im Dezember wegen nicht genehmigter Proteste zu drei Jahren Gefängnis verurteilt.

ولكن في الحقيقة لا يمكن بهذه البساطة الاعتقاد بأن القضاة المصريين يتلقون مكالمات هاتفية من جهات عليا، تُملي عليهم الأحكام التي ينبغي إصدارها. ففي الواقع كانت الحركة حتى في عهد مبارك بين القضاء والنظام معقدة للغاية. وكان بوسع النظام دائمًا احتلال المناصب الرئيسية مثل منصب قضاة المحكمة الدستورية العليا أو رئيس هيئة الادّعاء العام، ولكن مع ذلك كان بعض القضاة يصدرون مرارًا وتكرارًا أحكامًا لم تكن تروق للنظام، وكثيرًا ما كانت هذه الأحكام ضدّ الإخوان المسلمين.

القضاء الموازي

وفي تلك الأيَّام، كانوا يصدرون في بعض الأحيان أحكامًا بالبراءة، لأنَّ اعترافات المتَّهمين كانت تتم بفعل التعذيب ولم تكن لها بالتالي أية قيمة قانونية. كذلك كان "انعدام الثقة" في القضاة واحدًا من الأسباب التي كانت تحمل نظام مبارك على تطوير القضاء العسكري بالتوازي مع القضاء لاستخدامه ضدّ المدنيين، بغية الحصول في المحاكم العسكرية على الأحكام المطلوبة.

وحتى أنَّ القضاة ذوي التوجّهات الإصلاحية قد خرجوا في عام 2006 إلى الشوارع من أجل الاحتجاج على عمليات التزوير الضخمة في الانتخابات، التي كانوا مشرفين عليها - فقبل خمسة أعوام من الثورة كان القضاة هم مَنْ شكَّلوا طليعة الاحتجاجات ضدّ النظام. بيد أنَّ الغالبية العظمى من القضاة تكيَّفت في بيئة استبدادية مع الحكم أحيانًا بالحق وأحيانًا بالباطل، وكانوا يأملون عدم ملاقاة أية صعوبات عند ذوي السلطة والحكام.

وبعد إسقاط مبارك بقي القضاء تمامًا على حاله من دون أي تغيير. ولم يكن يتم البدء بالدعاوى ضدّ ممثِّلي النظام القديم إلاَّ بتردّد وببطء شديد. وسبب ذلك لم يكن يعود إلى القضاة وحدهم. فقد بقي رئيس المدَّعين العامين من عهد مبارك في منصبه حتى حين. كما كانت أيضًا وزارة الداخلية، المسؤولة عن التحريات وجمع الأدلة، تظهر بصورة معقل للنظام القديم، ولا تبدي سوى القليل من التحمّس.

ثم حدثت المواجهة المباشرة في عهد الرئيس محمد مرسي الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين. إذ اتَّهم محمد مرسي القضاة بأنَّهم من فلول نظام مبارك. وفي المقابل كان القضاة ينتقدون مرسي ويقولون إنَّه يسعى إلى السيطرة على القضاء وإلى احتلاله من خلال ممثِّلين مقرَّبين من الإخوان المسلمين. فقد قامت المحكمة الدستورية بناءً على مسألة شكلية بحلّ البرلمان المنتخب، ​​الذي شكَّل فيه الإخوان المسلمون الأكثرية. ولذلك تحدَّث الإخوان المسلمون عن انقلاب قضائي - لكنهم لم يكونوا يتوقعون أنَّ العاقبة ستكون انقلابًا عسكريًا حقيقيًا.

المواجهة مع الإخوان المسلمين

Anhänger von Ex-Präsident Mohammed Mursi in Kairo; Foto: dpa/picture-alliance
Vorprogrammierter Konflikt: Zum endgültigen Bruch mit der Justiz kam es im November 2012, als Mursi ein Präsidialdekret erließ, in dem er seine Entscheidungen als von der Gerichtsbarkeit immun erklärte. Damit ging die Richterschaft endgültig auf die Barrikaden. Von jetzt an war die Justiz eine der Schlüsselinstitutionen, die den Sturz Mursis aktiv betrieben.

ومن ثم حدثت القطيعة النهائية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، حينما أصدر مرسي مرسومًا رئاسيًا، أعلن فيه أنَّ قراراته تتمتّع بحصانة قضائية. وحينها احتجّ القضاة على هذا المرسوم وبدؤوا المواجهة النهائية. ومنذ ذلك أمسى القضاء من المؤسَّسات الرئيسية التي عملت بجد ونشاط على إسقاط مرسي. ولكن كانت هناك أيضًا معارضة للعسكر: إذ تعرّض  75 قاضيًا، صرّحوا بأنَّ إبعاد مرسي من منصبه قد تم بطريقة غير مشروعة، للإقالة والفصل من نادي القاضاة. وتمت إحالتهم إلى محاكمات تأديبية، بتهمة ممارستهم نشاطات سياسية محظورة. وبطبيعة الحال لم يسرِ هذا الإجراء على القضاة الذين أعلنوا تأييدهم الانقلاب.

وأمَّا في دستور مصر الجديد فإنَّ القضاء يشكِّل الآن دائرة مغلقة. وفي حال استبعاد أحد القضاة من المحكمة الدستورية، فعندئذ يحقّ لزملائه اختيار خليفة له. يقوم القضاة بانتخاب رئيس هيئة الادّعاء العام ويتعيَّن على القضاة الموافقة على القوانين الجديدة من أجل تنظم جهاز القضاء، قبل التمكُّن من عرضها على البرلمان.

إنَّ ما يبدو مثل استقلال تام في القضاء، يحمل في داخله خطر بقاء القضاء المصري معزولاً عزلاً تامًا عن العمليات الاجتماعية والسياسية - باعتباره نخبة قائمة بذاتها، لا يتعيَّن عليها تجديد ذاتها أبدًا، كونها ستغلق بالتالي المجال من الخارج أمام أية محاولة للإصلاح.

وبدلاً من عمل القضاء المصري على إصلاح نفسه، يرضى بالحلول الوسط من خلال لعبه دور ملاك الثأر والقصاص من جماعة الإخوان المسلمين. وفي دورهم هذا لا ينظر القضاة إلى أنفسهم كثيرًا كمعاونين لتنفيذ رغبات النظام؛ بل يعتقدون أنَّ عليهم العمل على حماية الدولة، التي يرونها معرّضة لخطر يشبه "المؤامرة الدولية من جماعة الإخوان المسلمين"، طبقًا للدعاية التي يتم الترويج لها حاليًا في وسائل الإعلام المصرية، وتهدف إلى إثارة حالة الاختيار بين "إمَّا نحن أو هم".

لقد انحاز القضاء المصري بشكل واضح إلى طرف، على الرغم من أنَّه كان يتعيَّن عليه في يومنا هذا بالذات، وفي ظلّ حالة الاستقطاب السياسي هذه، العمل في الحقيقة كقضاء محايد. وكان من الممكن أن يشكِّل هذا بالذات اختبارًا، يستطيع من خلاله القضاء في مصر إثبات مهنيته واستقلاليّته من خلال الإجراءات القانونية. ولكن بدلاً عن ذلك لم يقم قضاء مصر بإصدار أحكام قاسية وحسب، بل لقد فشل أيضًا فشلاً شديدًا.  إذ إنَّ تدهور السلطة الثالثة في الدولة يمثِّل نذير شؤوم، سوف يدفع ثمنه في النهاية جميع المصريين.

 

كريم الجوهري

ترجمة: رائد الباش

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2014