الربيع العربي في الميزان..... حصاد مرّ للثورات العربية؟

يقدم الكاتب الكاتب المعروف والأكاديمي المصري في جامعة درام البريطانية خليل العناني في هذه المقالة محصلة لأهم نتائج الربيع العربي وأبرز المحطات في هذه المسيرة الثورية الشعبية، مؤكدا أن هناك مواقف ونتائج لا تبعث على الارتياح.



قد يكون من المبكر إطلاق حكم نهائي على نتائج الثورات العربية أو ما بات يعرف بـ الربيع العربي، إن لم يكن بسبب السخونة والاشتباك على أكثر من جبهة ثورية كما هي الحال في اليمن وسورية وجزئياً ليبيا، فعلى الأقل لأن حصاد الثورات قد يحتاج سنوات وربما عقوداً من أجل تقويمه والحكم عليه في شكل موضوعي. بيد أن جردة حساب للشهور الماضية ربما تكشف بعضاً من ملامح هذا الحصاد وتنبئ بما هو آتٍ، وهو ما يمكن النظر إليه من خلال ثلاث زوايا أساسية: طبيعة المرحلة الانتقالية، حال القوى السياسية، درجة الفعل الجماعي الثوري. وقبل تقويم هذه الزوايا، يمكن القول إن الشعور المتزايد لدى قطاع غير قليل من شباب الثورة في مصر وتونس أو من أقرانهم في البلدان العربية الأخرى هو القلق الممزوج بالتشاؤم على مستقبل الربيع العربي.

 

وفي ما يخص طبيعة المرحلة الانتقالية، فإن أقل ما توصف به هذه المرحلة في بلد مثل مصر هو التخبط والغموض. وحينما يأتي الغموض من العسكر فهذا يؤشر الى أحد أمرين لا ثالث لهما، إما سوء الإدارة والتخطيط أو سوء النية المتعمد. وبين الخيارين يقع الجميع في حيرة واضطراب مما يحمله المستقبل. فالمجلس العسكري الذي في يده أمور البلاد يتعاطى مع المرحلة الانتقالية ليس باعتبارها عملية تطهير واقتلاع لنظام قديم بكل مؤسساته وشخوصه وثقافته تمهيداً لإقامة نظام جديد وبنية سياسية ديموقراطية تقطع الصلة بكل ما هو قديم، وإنما باعتبارها فترة تهدئة من أجل استئناف عمل النظام القديم ولكن في حُلّة جديدة خالية من الشخوص ولكن بـ "الروح" والآليات ذاتها.

مرحلة التخبط

الصورة د ب ا
استمرار الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالحرية والديمقراطية في سوريا

​​
ويمكن التدليل على ذلك بحزمة من القرارات الأخيرة التي أصدرها المجلس وتعكس جانباً من الطريقة التي يفكر بها المجلس، لعل من أهمها قرار تفعيل قانون الطوارئ، وتقييد الحريات المدنية، وازدراء المطالب الفئوية، وعدم الاستجابة لضغوط الشارع... إلخ. وهو ما يعكس إحساس العسكر بأن الأمور قد دانت لهم وأن مرحلة "عدم التوازن" التي أعقبت خروج مبارك من السلطة انتهت وتحولت إلى مرحلة ثبات وثقة بإدارة المرحلة من دون مزاحمة أية قوة سياسية أو اجتماعية مهما قيل عن شعبيتها وتنظيمها. الآن يتحدث العسكر بلغة الشركاء والآباء الشرعيين للثورة، وليس فقط مجرد حراسها على نحو ما رددوا خلال الأسابيع الأولى للثورة. وما يفعله العسكر الآن أشبه بما يفعله أي حاكم جديد يسعى الى تقديم نفسه باعتباره الأكثر حكمة واتزاناً واستيعاباً لكل الأطراف والأطياف. لذا لا يخلو أسبوع واحد في مصر من اجتماع يعقده المجلس العسكري مع ممثلي القوى والحركات السياسية في مختلف أطيافها، فضلاً عن اجتماعه مع أصحاب المهن كأساتذة الجامعات والصحافيين والمثقفين والنقابات العمالية وأخيراً الفلاحين.

ولا يلبث أن يخرج المجتمعون يكيلون الثناء والمديح على صفحات الجرائد والقنوات الفضائية للمجلس العسكري على غرار ما كان يحدث مع نظام مبارك. وقد نسي هؤلاء جميعاً أن العسكر، وإن لعبوا دوراً مركزياً في عدم انزلاق الثورة المصرية الى منعطف العنف، إلا أنهم، وإذا تغاضينا عن ارتباطهم مؤسسياً بالنظام القديم، محسوبون على النخبة القديمة، على الأقل بحكم التعريف الإجرائي للكلمة ومن دون إسقاطات سياسية. وطبقياً، فهم محسوبون أيضاً على الطبقة الغنية أو العليا التي استفادت، ولا تزال، من البنية الاقتصادية والاجتماعية التي رسّخها النظام المخلوع.

احتواء مدروس

الصورة د ب ا
"في ما يخص طبيعة المرحلة الانتقالية، فإن أقل ما توصف به هذه المرحلة في بلد مثل مصر هو التخبط والغموض"

​​

بكلمات أخرى، هناك ما يشبه عملية "احتواء" واستفراد تُمارَس تجاه القوى السياسية في مصر في شكل يثير التأمل والقلق. ويكاد المرء يصل إلى قناعة بأن ثمة سيناريو لمستقبل الحكم في مصر يجرى الإعداد له والعمل على تنفيذه في شكل هادئ ليس في مصلحة التحول الديموقراطي أو يتماشى مع أهداف الثورة المصرية. وهو ما قد يفسر رد فعل بعض القوى الرئيسة كجماعة الإخوان المسلمين التي صعدّت أخيراً من لهجتها تجاه المجلس العسكري إلى حد تحذيره من أي تأجيل للانتخابات التشريعية، وهو ما يحمل في طيّاته استشعاراً بمحاولة تعطيل أو على الأقل إطالة أمد المرحلة الانتقالية. وفي ما يخص حال القوى السياسية في مصر وتونس فأقل ما توصف به هو الاستقطاب والانقسام إن لم يكن التربص والعداء. وكأن هذه القوى لم تبرأ من أمراض النظام السلطوي الذي نشأت في كنفه ويبدو أنه سكنها ولم تعد قادرة على التخلص منه. وبعيداً من الانقسامات الأيديولوجية المزمنة بينها، فقد فشلت هذه القوى في الاتفاق على الحد الأدنى اللازم خلال المرحلة الانتقالية.

وكان من المتوقع أن تتفق هذه القوى على "خريطة طريق" للمرحلة الانتقالية بحيث تمارس فيها ضغطاً على من هم في السلطة إن لم يكن من أجل التعجيل بانتهاء هذه المرحلة والدخول في مرحلة بناء الأنظمة الجديدة، فعلى الأقل من أجل كبح طموحات وتطلّعات من بيدهم الأمر حالياً، وضمان عدم استفرادهم بالتخطيط للمرحلة الجديدة من دون استشارة أصحاب المصلحة الأساسيين الذي دفعوا ثمناً باهظاً لهذه الثورات. ولا يخلو الفضاء العام من اشتباكات ومواجهات بين أنصار التيارات السياسية المختلفة في شكل أبعد عنهم الجمهور وقلل من وزنهم في مواجهة أهل الحكم الحاليين. لذا ليس مستغرباً أن تتردد نغمة المطالبة ببقاء العسكر في السلطة في بلد مثل مصر، ويصبح الأمر أكثر غرابة حينما تأتي الدعوة على لسان بعض السياسيين الذين يسعون الى مداهنة العسكر نكاية بخصومهم.

الفعل الجماهيري

الصورة د ب ا
"هناك ما يشبه عملية "احتواء" واستفراد تُمارَس تجاه القوى السياسية في مصر في شكل يثير التأمل والقلق"

​​

وفي ما يخص درجة الفعل الجماعي الثوري، فهي وصلت في مصر وتونس إلى أدنى مستوياتها خلال الأسابيع الماضية. ولا نقصد تراجع حجم التظاهرات والتحركات الشعبية الجماعية فحسب، وإنما في الأساس تراجع الالتحام بين الشارع والقوى السياسية من جهة، وتفتيت المطالب الثورية من جهة أخرى. فبالنسبة الى العلاقة بين الشارع والقوى الثورية فهي تمر بدرجة ملحوظة من البرود والضعف بعدما انصرف السياسيون إلى مصالحهم الخاصة وانشغلوا بعقد اللقاءات والتحالفات سواء مع من بيدهم الأمر أو بين بعضهم بعضاً. أما بالنسبة الى المطالب الثورية فلم تعد القائمة واحدة، وإنما باتت هناك مطالب متعددة ومختلفة وصلت أحياناً إلى حد التضارب مما ساهم في انصراف الكثيرين عن المشاركة في الفعل الجماعي الثوري. والأخطر أن الكتلة الثورية التي شهدت تماسكاً واضحاً خلال المرحلة الثورية انتقلت من الزخم إلى التفتت، ومن الاتفاق إلى الاختلاف، ومن الإصرار على استكمال مطالب الثورة إلى الإحباط وعدم الثقة بالمستقبل. خذ مثالاً على ذلك ما كان يعرف بـ "مليونيات الجمعة" في مصر التي وصلت خلال الأسابيع الأخيرة إلى مئات عدة وبالكاد آلاف للمطالبة بتحقيق أهداف الثورة. وهو مؤشر خطير على إمكانية إجهاض الثورات العربية قبل أن تتحقق أهدافها. وإذا كانت هذه هي الحال في مصر وتونس، وكلتاهما تتمتع بدرجة لا بأس بها من الحداثة السياسية والمؤسسية، فالحال قطعاً لن تكون أفضل في ليبيا التي تشهد بذور انقسامات وخلافات جهوية، وأغلب الظن أنها ستسير في اتجاه نوع من المحاصصة السياسية.

 

خليل العناني

حقوق النشر: صحيفة الحياة اللندنية 2011