تونس...نقطة مضيئة في سماء ربيع عربي ملبد بالغيوم

أذهلت تونس، التي انبلج منها صبح الربيع العربي، العالم بكونها الاستثناء في ظل ما تشهده ليبيا واليمن ومصر وسوريا من ثورات مضادة. وشكّل دستور تونس الجديد نقطة مضيئة في سماء ربيع عربي ملبّد بالغيوم. دستور كتبه الإسلامي والعلماني والقومي والبعثي وامتزجت لحظة إقراره بالزغاريد والعناق والدموع. كما يطلع محمد بن رجب من تونس موقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: محمد بن رجب

عاش التونسيون بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم حدثا تاريخيا مشهودا تمثل في التصويت على الدستور الجديد الذي يؤرخ للجمهورية الثانية بنسبة 92.59 % من أصوات نواب المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان) . وامتزجت الدموع بالزغاريد داخل المجلس وتعانق النواب في لحظات رهيبة تؤرخ لولادة قيصرية لدستور الحرية والكرامة.

 وأثبت التونسيون للعالم أجمع قدرتهم على تجاوز المحن والصعوبات التي كادت تعصف بالثورة وتدخل البلاد في أتون حرب أهلية لا يعرف مدى الدمار والمصائب التي ستخلفها.

 الاستثناء في دول الربيع العربي 

 لقد أذهلت تونس التي انبلج منها صبح الربيع العربي العالم بأن كانت الاستثناء في ظل ما تشهده ليبيا واليمن ومصر وسوريا من تطاحن و تقاتل وانقلاب حتى تحوّلت الثورة هناك إلى لعنة وبالتالي فقد مثّل حدث إمضاء دستور تونس الجديدة نقطة مضيئة في سماء ربيع عربي ملبّد بالغيوم.

 دستور كتب له أن يولد مكتملا بعد صراع مرير بين الفرقاء السياسيين برغم ما تخلّل المرحلة من أوقات حرجة بعد اغتيال السياسيين العلمانيين المعارضين شكري بلعيد ومحمد الإبراهمي.

 دستور سطّره الإسلامي والعلماني

 دستور كتبه الإسلامي والعلماني والقومي والبعثي وامتزجت لحظة إقراره بالزغاريد والعناق والدموع. إنها لحظات تاريخية تحمل في طياتها رغبة في تجاوز مرحلة تأسيسية صعبة من أجل أنموذج تونس عربي أملا في الديمقراطية والعدل لتحقيق أهداف ثورة 14 يناير 2011، ثورة الحرية و الكرامة وهي خطوة أساسية على درب الرقي الحضاري. 

المجلس التأسيسي التونسي أو البرلمان التونسي
صوّت 200 من أعضاء المجلس التأسيسي (البرلمان) لصالح نص الدستور الجديد، مقابل 12 عضوا معترضين، و4 أعضاء ممتنعين. وأشاد رئيس المجلس الـتأسيسي مصطفى بن جعفر بروح التوافق التي سادت عملية المصادقة على الدستور التونسي الذي صاغه المجلس المنبثق عن انتخابات 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011.

 نموذج للشعوب الأخرى

 ولأنّ العالم كان يتابع لحظة بلحظة ما يجري في تونس طوال السنوات الثلاث الأخيرة فقد انبهر بما حصل ولأول مرة في بلد عربي بمثل هذا الاستثناء من خلال دستور يحترم حقوق جميع التونسيين، اعتبره الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون "مرحلة تاريخية جديدة " مؤكدا على أنّ " العملية الانتقالية الديمقراطية في تونس اجتازت مرحلة تاريخية جديدة بالمصادقة اليوم دستور جديد "، ومشددا على أنه "مقتنع بأن المثال التونسي قد يكون نموذجا للشعوب الأخرى التي تتطلع إلى إجراء إصلاحات".

 واعتبرت الولايات المتحدة الأمريكية أنّ الأمر يتعلق "بلحظة تاريخية " و"بمكتسب هام في الوقت الذي تواصل فيه تونس السير على طريق الانتقال السياسي "مشيرة إلى أنّ دستور تونس الجديد "يضمن احترام حقوق التونسيين وهو مؤهل لتحقيق طموحات الشعب من أجل مجتمع ديمقراطي".

 واعتبر رئيس البرلمان الأوروبي مارتن شولتز المصادقة على دستور تونس "حدثا تاريخيا" مؤكدا انبهاره بروح الوفاق والمسؤولية التي تغلبت على المصالح الحزبية الضيقة من أجل تونس ديمقراطية ومتعددة وعصرية وثرية ثراء تراثها التاريخي.

 المساواة بين الجنسين

 ويقرّ الدستور التونسي الجديد في فصله العشرين مبدأ "المساواة بين التونسيات والتونسيين في الحقوق والواجبات" والذي ينص على التالي: "المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة، وتهيّئ لهم أسباب العيش الكريم".

 منع التكفير والتحريض

 ولم يكتفِ المشرّع بذلك بل عمل على منع التكفير والتحريض على العنف وكفالة حرية الضمير من خلال الفصل السادس الذي جاء في الصيغة التالية :"الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها".

 ومنح الدستور الجديد قوات الأمن والجيش طابعا "جمهوريا" وألزمها بالحياد التام في الفصل 18 الذي ينصّ على أنّ: "الجيش الوطني جيش جمهوري وهو قوة عسكرية مسلحة قائمة على الانضباط، مؤلفة ومنظمة هيكليا طبق القانون، ويضطلع بواجب الدفاع عن الوطن واستقلاله ووحدة ترابه، وهو ملزم بالحياد التام . ويدعم الجيش الوطني السلطات المدنية وفق ما يضبطه القانون".

محمد المنصف المرزوقي ومهدي جمعة
كلف الرئيس التونسي محمد المنصف المرزوقي المهندس مهدي جمعة (عمره 52 عاما) بتشكيل حكومة مستقلين من المفترض أن تقود البلاد حتى إجراء انتخابات عامة.

 ويؤكد الدستور على منع التعذيب وحرمة الجسد في الفصل 23: "تحمي الدولة كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي و المادي. ولا تسقط جريمة التعذيب بالتقادم".

 حرية الفكر والتعبير

 وأقرّ الدستور حرية الفكر والتعبير في الفصل 31 : "حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات". وفي الفصل 32: "تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة. تسعى الدولة إلى ضمان الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال".

 وجاء في الدستور في فصله 36 ضمانة حق الإضراب ومنعه على الأمنيين ورجال الجيش: "الحق النقابي بما في ذلك حق الإضراب مضمون . ولا ينطبق هذا الحق على الجيش الوطني. ولا يشمل حق الإضراب قوات الأمن الداخلي والديوانة". وأقرّ المشرّع حق الاجتماع والتظاهر السلميين في الفصل 37: " حرية الاجتماع و التظاهر السلميين مضمونة".

 انتصار على التطرف

 عقب توقيعه على الدستور التونسي الجديد صحبة كل من رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر و رئيس الحكومة حينذاك علي العريض قال الرئيس محمد المنصف المرزوقي وقد بدا متأثرا: "تونس تحتفل بولادة النص المؤسس لعلاقة غير مسبوقة في تاريخ شعب تونس القديم والجديد". واعتبر أنّ "هذا الحدث التاريخي يمثل انتصارا على الإرهاب الذي حاول عبر اغتيال الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد إيقاف مسلسل التحرر الفكري والسياسي الذي يجسده الدستور". مؤكدا على أنّ الدستور هو انتصار على الديكتاتورية المقيتة.

 وأكد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أنّ: "تونس نجحت في وضع دستور يثبّت الحريات ويحفظ الحقوق بعد الإطاحة بالنظام الديكتاتوري بثورة سلمية خلافا لدول الربيع العربي التي لم تحقق الوفاق الذي حققته تونس". داعيا إلى تطبيق كل ما جاء في الدستور الجديد على أرض الواقع.

 من ناحيته قال رئيس الحكومة المستقيلة علي العريض :"لقد عملنا من أجل إنجاح تجربتنا وبناء ديمقراطيتنا وتحقيق أحلام شعبنا وصياغة تعاقدات اجتماعية وسياسية وثقافية جديدة". أما رئيس المجلس التأسيسي (البرلمان) مصطفى بن جعفر فقد أكد على أنّ هذا الدستور يتميز بدسترة مهنة المحاماة واعتبار السلطة القضائية سلطة ثالثة وفر لها الدستور الإطار القانوني الذّي يُخول للقضاة العمل بعيدا عن الضغوطات.

مظاهرات احتجاجية في تونس بعد اغتيال معارض يساري
كان اغتيال المعارض اليساري محمد البراهمي بعد ثلاثة أشهر من اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد أدخل البلاد في أزمة سياسية. المتفائلون بنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس يرون فيها الشمعة المتبقية من الربيع العربي بعد توصل حزب النهضة الإسلامي الحاكم والمعارضة العلمانية إلى خارطة طريق توافقية. بينما يتخوف آخرون من مخاطر انزلاق التجربة عن مسارها. فهل يجعل توافق حزب النهضة مع المعارضة من تونس نموذجا يحتذى به؟

 المستقبل الديمقراطي

 وقالت الناشطة الحقوقية توكل كرمان الحائزة على جائزة نوبل للسلام في رسالتها إلى الشعب التونسي: "أبارك للشعب التونسي العظيم توقيع المجلس التأسيسي على مشروع الدستور الجديد، وكما علمتنا تونس كيف نشعل ثورات الياسمن هاهي تعلمنا كيف نصنع مستقبلنا الديمقراطي".

 وثمّن وزير الخارجية الكندي جون بيرد النجاح التي تحقق في تونس بعد إقرار دستورها الجديد: "أبدى التونسيون عزيمة قوية على درب بناء مجتمع جديد ديناميكى منفتح وديمقراطي". مشيدا بالتنصيص على المساواة بين الجنسين وإقرار حرية الضمير والمعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية.

 أين حصلت الثورة؟ في مصر أم في تونس؟

 ويتفاءل أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية الدكتور محمد ضيف الله بما حصل من إنجاز تاريخي وقال لموقع قنطرة: "يوم 27 يناير 2014 تم التوقيع على دستور صادق عليه  200 نائب أفرزتهم أنزه انتخابات شهدتها تونس طوال تاريخها، وفي نفس اليوم يصبح السيسي ماريشالا (برتبة مشير)، والمجلس العسكري يدعوه "للاستجابة لرغبة الشعب المصري" ويرشحه إلى رئاسة جمهورية مصر العربية، سؤال إلى الذين صفقوا للسيسي في مصر أو في تونس: في أي البلدين وقعت ثورة؟".

  ويضيف ضيف الله: "الواضح إلى حدّ الآن أنّ تونس كانت مهيّأة إلى الثورة، وقامت فيها ثورة حقيقة، والدليل على ذلك الدستور الذي كان توافقيا بين مكونات المشهد السياسي. والواضح أيضا أنّ ما كان يعتبر ثورة في مصر إنما محركها الأساسي هو التأثر بالثورة التونسية لا أكثر، وها قد وقعت الردة عليها، وعادت مصر إلى حكم العسكر" .

 وأوضح رئيس مجلس الأمة الجزائري عبد القادر بن صالح أنّ "هذه المناسبة غالية ليست فقط على التونسيين وإنما كذلك على كافة الشعب الجزائري باعتبارها لحظة تاريخية تجسد انتصار رجال تونس ونسائها ومثقفيها على الديكتاتورية والخلافات الحاصلة داخل قبة التأسيسي".

علي العريض
قدم رئيس الوزراء التونسي علي العريض، المنتمي للتيار الإسلامي، استقالته يوم الخميس 9 يناير/ كانون الثاني 2014 لإفساح الطريق أمام إدارة انتقالية، في إطار اتفاق مع المعارضة لمواصلة طريق التحول الديمقراطي.

 الحضارات تبنى وفق مسار

 وقال الدكتور محمد العادل الأكاديمي والخبير في العلاقات العربية التركية ورئيس المعهد التركي العربي للدراسات بأنقرة ورئيس الجمعية العربية التركية للعلوم والثقافة والفنون: "مبروك لتونس دستورها .. لأنّ من سطره هم أبناء تونس بكل طيفهم .. فخطوة الدستور رغم نقائصها تبني لخطوة أكبر منها .. فالحضارات لا تبنى مرة واحدة وكذلك الأوطان .. المهم أن ندرك حساسية المرحلة .. ويتحقق الحدّ الأدنى من الإجماع الوطني، لتهتم تونس بملفات عالقة، ملفات التنمية وتعزيز ثقافة المواطنة والولاء للوطن، وإعادة هيكلة الدولة والمؤسسات"، مشددا على ضرورة العمل على زرع التفاؤل واستعادة الهمة، همّة العمل ثم العمل، وتعزيز روح المبادرة عبر أدوات الفعل المدني الذي أدرك أنه يصنع المعجزات".

 وقال أستاذ اللغة والحضارة العربية بالجامعة التونسية محمد جمال دراويل لموقع قنطرة منبّها: "... وحتّى لا تتكرّر أخطاؤنا لزم على التّونسيين أن ينتبهوا جيّدا إلى أنّ إنجاز الدّستور ليس إنجاز الدّيمقراطيّة فالدستور نقطة ارتكاز ضروريّة، فيما مسار إرساء الدّيمقراطيّة طويل طويل، إذ أن الديمقراطية تربية وثقافة، وعي وسلوك".

 إنجاز منقوص ما لم يقترن بإصلاحات جوهرية

 واعتبر الكاتب الصحفي كمال بن يونس في مقال بجريدة "الصباح" أنّ "المصادقة على الدستور وعلى تشكيلة الحكومة التوافقية الجديدة لئن كان انجازا تاريخيا جديدا يسجل للنخبة الحاكمة والمعارضة والمستقلين ، فإنه يظل انجازا منقوصا .. بل منقوصا جدا إذا لم يقترن بإصلاحات جوهرية لسلوكيات سياسية تعاني منها تونس منذ عقود .. لكنها استفحلت بعد الثورة وخاصة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 " .

 وأضاف :" إذا كان قادة العالم والمنطقة رحبوا بقوة بالتوافق على نص الدستور الجديد وعلى تشكيلة حكومة السيد مهدي جمعة المستقلة والشبابية، فإن الحضور القوي لممثلي الدول الشقيقة والصديقة في تونس والتفاؤل الكبير الذي برز في بيانات الاتحاد الأوروبي والعواصم العربية والعالمية، معطى ينبغي على الحكومة الجديدة أن تستغله وأن تسخّر له آليات الدبلوماسية الرسمية والدبلوماسية الموازية خدمة للمصالح العليا لتونس".

 

محمد بن رجب – تونس

تحرير: علي المخلافي

حقوق النشر: قنطرة 2014