عرب ويهود معًا في زيارة إلى أوشفيتز

بعيدا عن جو المواجهة والعنف الذي يخيم على الأراضي الفلسطينية وإسرائيل، قام عرب ويهود بزيارة مشتركة إلى معسكر الاعتقال أوشفيتز كمبادرة لتفهم الآخر.

عرب ويهود معًا في زيارة إلى أوشفيتز

بصوت متهدّج كان آفي غيسّر ،حاخام مستوطنة أوفرا بالضفّة الغربيّة، يتلو القدّيش - صلاة الأموات اليهوديّة . كان محاطًا بمصلّين من يهود ومسيحيّين ومسلمين، يقفون بعيون مثبّتة على البركة المائيّة التي نُثر فوقها رماد أجساد الهيود الذين أعدموا في غرف المَحرقات الغازيّة قبل ستّين سنة. خلال هذه الصلاة وسّع غيسّر من دائرة التضرّع التقليدي لله من أجل منح السلام لشعب إسرائيل إلى ابتهال من أجل السلام لكلّ البشر.

لمدّة من الزمن وقفّ الجميع بصمت أمام هذا القبر؛ رجل عربيّ يقف واضعًا يده على كتف حاخام المستوطنة غيسّلر، بينما تمسح امرأة فلسطينيّة بكفّها على ظهر امرأة يهوديّة كانت تبكي مكفكفةً دموعها في منديل. وبالرغم من صمت الحضور الذي لم تكن لتندى عنه كلمة، كان باديًا أنّ الفلسطينيّين الحاملين لجوازات اسرائليّة يشاطرون أبناء بلدهم من اليهود ألمهم في لحظات حدادهم على أقاربهم من ضحايا التقتيل النازيّ.

ترى هل ستمكّن ذكرى المذبحة بالقرب من هذا المحرق من دعم السلام بين الشعبيْن المتعادييْن ؟
هل سيكون بإمكان هذه التعبيرات الإنسانيّة المؤثِّرة هنا في أكبر مقبرة يهوديّة في العالم، أن تساعد على تجاوز أوضاع إراقة الدماء والرّيبة المتبادلة في الشرق الأوسط ؟

ذلك ما يؤمن به على الأقلّ إميل شوفاني، ممثّل السلطة الروحيّة الأرثوذكسيّة اليونانيّة الكبرى في الناصرة، الذي يقف وراء انبعاث بادرة "ذكرى من أجل السلام" هذه ، والذي أخذ على عاتقه مرافقة هذه المجموعة من الإسرائيليّين إلى أوشفيتز. وبالرغم أنّ هذا الكاهن ومدير المدرسة ما فتئ منذ 15 سنة يكرّس جهوده للمصالحة بين الشعبين ، فإنّه لم يتّضح له إلاّ بدء من الانتفاضة الأخيرة أنّ مسألة عدم الأمان الوجوديّة لليهود في إسرائيل لا يمكن مقاربتها إلاّ بربطها بتجربة المذبحة النازيّة، وأنّه على العرب أن يتفاعلوا مع هذه التجربة الإجراميّة دون قيد أو شرط؛ أي دون أن يضعوا ضرورة النقاش حول آلام الفلسطينييّن كمقابل لذلك: "أردنا بهذه المبادرة أن نكسر طوق الحلقة المفرغة التي ندور داخلها؛ أي التّباري حول من هو الضحيّة الأكبر" ، يقول شوفاني ، ثمّ يوضّح: " إنّنا نعترف بمعاناة اليهود، غير أنّ ألم أمّ يهوديّة يعادل ألم أمّ فلسطينيّة، إذ الألم لا يقاس البتّة بعدد الضحايا. إنهّ عبر مقاسمة الآخر ألمه نتمكّن من جعل الإنسانيّة تفصح عن نفسها."

والد نيلي غروس هو أيضًا قد فقد كلّ عائلته في المعتقلات النازيّة. وهي لا تجد أيّة مشكلة في الحديث، حتّى مع العرب، عن تجربة أليمة وشخصيّة في الوقت نفسه، مثل المذبحة التي تعرّض لها اليهود. "عندما يستطيع العرب الذين نعيش معهم أن يولوا اهتمامًا بمحنة المذبحة التي عشناها فإنّ ذلك سيكون أمرًا جيّدًا بالنسبة لنا، وبالنسبة لهم، ولمجمل النزاع القائم بيننا. سيحاولون بذلك أن يفهموا مع أيّ شعب يعيشون، وما الذي يكمن وراء سلوك هذا الشعب المصاب بصدمة هائلة"، تؤكّد السيّدة نيلي غروس البالغة 44سنة من العمر. والسيدة غروس مدرّسة للغرافيك الألكتروني والتصميم في إحدى الثانويّات وتدير منذ ثلاث سنوات مشاريع متعدّدة للشباب الهيود والعرب. وهي تعتبر هذه اللقاءات ذات القوميّة المزدوجة على غاية من الأهميّة كي يتمكّن الأطفال من الترعرع في منأى عن الأفكار المسبّقة، ومن تفكيك الأنماط الجاهزة.

القرينة العربيّة لنيلي غروس هي فاتنة هزّان مدرّسة اللغة العربيّة في مدينة عكا المختلطة. وهي باشتراكها في هذه الرحلة تبتغي تعميق علاقاتها الجيّدة بتلامذتها اليهود، الأمر الذي كلّفها جني انتقادات الجانب العربي. لكنّ أصدقاءها المقرّبين قد نهضوا لدعمها، وكذلك زوجها الذي ساندها بقوّة. "أطفالي يشعرون بشيء من الخوف. وإبني الأكبر يعتقد أنّ مجموعتنا بالتأكيد ستكون هدفا لاعتداءات الإرهابيّين، بالذات لأنّنا وفد يهوديّ عربي مشترك. إلاّ أنّني موجودة الآن هنا من أجل فائدتي الخاصّة بكلّ بساطة" تقول السيّدة هزّان.

عند دخول المتحف كان الزائرون يستمعون إلى ما كانت تسرده عليهم المعتقلة السابقة إستير مانهايم ، وهم يرقبون بدهشة وذهول أكوام النظّارات، والشعر، وطاقيّات العبادة ، وحتّى الأعضاء الاصطناعيّة التي كانت في يوم ما ملكًا لمليون ونصف من اليهود. كان التأثّر يبدو بوضوح على السيّدة فاتنة هزّان: "أشعر وكأنّ أحدًا ما قد خضّني بعنف جسديًا ومعنويًّا. وسيكون عليّ أن أنتظر طويلا كي أتعافى من هذا الشعور. الآن، لا يسعني إلاّ أن أبكي ، لكنّني آمل أن تجفّ دموعي بعدها كي أشرع في إدراك ما الذي حصل هنا ذات يوم."
عند جدار الموت حيث كانت تجري الإعدامات يوميًّا، اختُتمت هذه الزيارة المشتركة. وبعد تلاوة الأدعية تقدّمت امرأة يهوديّة وامرأة عربيّة لتضعا باقتين من الزهور في موقع إعدام الضحايا.

إيغال أفيدان، قنطرة، يونيو/حزيران 2003
ترجمة علي مصباح