من جنين إلى ألمانيا......فلسطينيون من مقاتلين إلى فنانين

على مدى نحو شهرين، حل مسرح الحرية من جنين ضيفا على عدة مدن ألمانية لتقديم أعماله الفنية بدعوة من مؤسسة "كولتوركرافانه الألمانية". سمر كرم التقت مخرج العرض وبعض الممثلين لمعرفة انطباعاتهم عن الرحلة في ألمانيا.

الكاتبة ، الكاتب: سمر كرم



عندما تزور مسرح الحرية، تشعر بالخسارة لأنك لم تقابل هذا الإنسان، جوليانو ميرخميس، فالكل يتحدث عنه. هذا الشخص الذي علمهم أن الفن والثقافة أقوى كثيراً من السلاح. وقد كان هذا الفنان المؤثر "يمتلك كاريزما خاصة" كما يقول ربيع تركمان، أحد الممثلين الذين أنهوا دراستهم هذا العام. وتجربة ربيع خاصة جداً، فقد كان مقاتلاً يحمل السلاح والكلاشينكوف، وينام في الشوارع وفي الجبال، لكنه تحول إلى ممثل بعد نهاية الانتفاضة الثانية في نهاية عام 2006، وبعد أن قابل جوليانو، الذي علمه أن المقاومة يمكن أن تكون بطريقة غير عنيفة، وأن "المقاومة الثقافية هي أقوى طرق المقاومة، وأنها الطريقة التي يمكن أن تصل إلى كل العالم".

وبالطبع كان هذا التحول من مقاتل لممثل مسرح صعباً للغاية. كان صعباً على ربيع تركمان نفسه وأيضاً على من حوله، وكان يسمع الكثير من الانتقادات حتى من الأهل والأصدقاء، لكن إيمانه بفكرة "ثورة الفن" هي التي جعلته يستمر. ويقول: "عندما كنت مقاتلاً كنت أعتقد أن مشكلتنا مع اليهود، لكني عرفت بعدها أن مشكلتنا ليست مع اليهودية كديانة ولكن مع الاحتلال الإسرائيلي"، وكان لمير خميس، الذي ولد لأب فلسطيني وأم يهودية، دوراً كبيراً في هذه القناعة.

الصورة سمر كرم
ربيع تركمان وتحول كبير من مقاتل يحمل السلاح إلى فنان يحمل رسالة

​​لذلك يعتقد ربيع أن من قتل ميرخميس قتل عموداً للثقافة في جنين، لأنه "من بدأ المسرح والسينما هناك ومن جاء ليعلم الأولاد والبنات معنى الثورة الفنية". من ناحية أخرى يرى تركمان أن جوليانو كان مخرجاً قوياً وفنانا لا مثيل له على المستوى الفني. ورغم احترام ربيع تركمان لبقية المخرجين الذين عمل معهم، إلا أنه يرجع الفضل في تعليمه أصول التمثيل والحركة على المسرح إلى جوليانو، ولذلك فقد تأثر كثيراً لموته وهو يخشى أن يتراجع مستواه الفني بعد فقدانه لأبيه الفني. ويصف تركمان ميرخميس قائلا: "عندما جاء جوليانو إلى جنين لم يكن يسعى إلى الشهرة، فقد كان مشهوراً في كل مكان في العالم، كما أنه كان غنياً. لكنه جاء لأنه أراد أن يقاوم الاحتلال".

رسالة جديدة للعالم عن فلسطين

"خلق المقاومة الجديدة من خلال الفن والتعريف بالقضية الفلسطينية" هي الأهداف الأساسية لمسرح الحرية كما يؤكد المخرج ومدرب الممثلين بالفرقة نبيل الراعي، الذي يقول في هذا السياق: "كان اختياري لهذا الفن لأقول إن هناك وجهاً آخر للشعب الفلسطيني تحديداً في العالم الغربي، فهم لا يعرفوننا سوى من وسائل الإعلام ويظنون أن كلنا دمويين وإرهابيين ونحمل السلاح لنضرب الإسرائيليين، وهي صورة غير صحيحة. وهناك وجه آخر للفلسطينيين".

وهي الرسالة التي تعلموها من جوليانو والتي جاءت تكملة لعمل والدته آرنا مير خميس، اليهودية التي كانت تناضل من أجل حقوق الفلسطينيين في مخيم جنين والتي افتتحت مسرح الحجر، نسبة لانتفاضة الحجر. وبعد اجتياح مخيم جنين عام 2002، أغلق المسرح، ثم جاءت فكرة إعادة بنائه وافتتاحه وتم اختيار اسم "الحرية" ليطلق عليه لأنها "مطلب كل الفلسطينيين" على حد قول الراعي.
ويشير مخرج مسرحية "شو كمان"، إلى أنهم اختاروا طرقاً غير مباشرة للتعبير عن هذا المطلب، خاصة في هذا العرض المسرحي الذي قدموه في ألمانيا، والذي ينتمي إلى المسرح الفيزيائي ويعتمد على حركات الجسد أكثر من الكلمات، ما جعل فكرتهم تصل أسرع وأسهل إلى الجماهير الألمانية دون حاجة إلى فهم اللغة. من ناحية أخرى كان لاختيار هذه الطريقة الفنية سبباً سياسياً وهو "شعورهم بأنهم غير مسموعين في العالم مهما تكلموا"، بالإضافة إلى حزنهم بعد اغتيال الأب الروحي للمسرح ومؤسسه ميرخميس في أبريل/نيسان الماضي، حيث يقول الراعي: "بالفعل لم نكن نعرف ماذا نقول.. جوليانو كان شخصاً غير عادي، وبعد اغتياله كان من الصعب علينا أن نتكلم، فوجدنا البديل في هذه الطريقة الفنية. عندما نفقد شخصاً مثل هذا الشخص، نشعر بالألم، لكننا في الوقت نفسه نجد دفعة لإكمال طريقه".

المسرح متنفس للخيال وطريقة لدعم الأطفال والشباب المهمشين

الصورة ا ب
"جوليانو مير خميس كان مخرجاً قوياً وشخصاً غير عادي"

​​إلا أن البحث عن الحرية السياسية ليس الهدف الوحيد لأعمالهم الفنية، كما يوضح الراعي قائلاً: "هدفنا أيضاً هو النضال ضد مختلف إشكال الاحتلال، بدءاً من الاحتلال الإسرائيلي، ووصولاً إلى الاحتلال الذاتي والفكري واحتلال المجتمع لنفسه". يرى الراعي عدة فوائد للمسرح، خاصة في مكان مثل مخيم جنين، فهو يساعد في رأيه على كسر الروتين اليومي وإيجاد متنفس ومهرب من الواقع الأليم إلى الخيال، وهو يعد فرصة للتعبير عن الذات. ومسرح الحرية جاء امتداداً لمسرح الحجر، الذي افتتحته أرنا مير خميس والدة جوليانو. وهي فنانة يهودية كانت تدافع عن حقوق الفلسطينيين، وساهمت في تعليمهم الفن. ولا يقتصر الفن فقط على المسرح، لكنه يشمل أيضاً ورش عمل سينما وتصوير فوتوغرافي وصحافة. وهو يعد مدرسة لتعليم التمثيل الاحترافي، وتستمر الدراسة بها لمدة ثلاث سنوات.

ويشير نبيل الراعي إلى أن المدرسة لا تهدف فقط لتعليم قواعد الفن، والتعبير عن الذات، ولكنها فرصة لإكمال الفجوات التعليمية، ولإعطاء الفرصة للطلبة للتعرف على مواهبهم واكتشاف نقاط قوتهم ويقول في هذا المجال: "ليس هدفنا أن يصبح الجميع ممثلين. فلو ساعدنا أحد الطلبة على اكتشاف رغبته في تعلم أي حرفة، مثل النجارة مثلاً، وقام بها بحب، فسيفيد بلده ومجتمعه بشكل أفضل".

المسرح وسيلة للتنمية والنهوض بالمجتمع

هذا الدور التنموي للفن، هو ما تسعى مؤسسة "كيندر كولتور كرافانه الألمانية" لدعمه، ولذلك فقد قامت المؤسسة بدعوة مسرح الحرية الفلسطيني ليقدم أعماله الفنية في ألمانيا والدول المجاورة على مدى شهرين، حسبما يؤكد رالف كلاسن، المنسق للمشروع في حديثه لدويتشه فيله، موضحاً أن "كيندر كولتور كرافانه" تعمل منذ حوالي اثني عشر عاما ً مع الفرق الثقافية الخاصة من الشباب والأطفال التي توظف الفن للتغيير والتنمية، وتقدم الفرق التي تعمل في مناطق تعاني من مشاكل اجتماعية وسياسية أو في مناطق الأزمات والحروب، ويتم دعوة ست فرق سنوياً، من فرق السيرك والمسرح والرقص والموسيقى. وبالإضافة لعمل هذه الفرق مع الفئات المهمشة في المجتمع، إلا أن مستواهم الفني الجيد يعد من الشروط الأساسية لدعوتهم كما يؤكد كلاسن قائلا: "هؤلاء الأطفال والشباب استطاعوا أن يستعيدوا كرامتهم عن طريق الفن والثقافة وزادت ثقتهم في أنفسهم، وليس أسوأ من أن تتم دعوة هؤلاء الأطفال فقط بسبب حالتهم الفنية وليس ليقدموا فناً جيداً".

ويتضح هذا الأمر فيما يرويه الممثل الشاب فيصل أبو الهيجا الذي كان يحلم منذ طفولته بالتمثيل، لكن الفرصة لم تكن متاحة أمامه حتى فتح مسرح الحرية أبوابه وفتح مدرسة للتمثيل، فقدم وانفتح أمامه بذلك "طريق أمل جديد وطريق تعبير جديد من خلال الأعمال التي يقدمونها". كان لدى أبو الهيجا خبرة بسيطة في مجال التمثيل من خلال المدارس والمخيمات الصيفية وورشات العمل، لكنها كانت "للضحك واللعب" على عكس ما تعلمه في مسرح الحرية من فن جاد "له رسالة ومعنى". فأهم ما تعلمه هو "الجانب الفني السليم، ومعنى المسرح الصحيح، وكذلك أهمية النهضة الثقافية والفكرية في البلاد". لذلك يرى أبو الهيجا أن المسرح قد أثر كثيراً في حياته، وحوله إلى شخص أكثر وعياً لديه آفاق واسعة عن معنى ثقافة الفن "ومعنى أن تكون مسئولاً عن أشخاص آخرين بعدك حتى لا يعيشوا في جهل" ويضيف: "دورنا هو أن نفتح لهؤلاء الشباب باباً ليكملوا حياتهم بشكل طبيعي حتى في المخيم".

والصعوبات التي يواجهها أعضاء الفرقة المسرحية لا تنبع فقط من الخارج، بل من الداخل أيضاً، فمن الصعب إيصال فكرة المسرح والمقاومة بالفن لمجتمع تم عزله لسنوات طويلة على حد قول الممثل الشاب فيصل ابو الهيجا، الذي يضف: "الناس أصبحت منغلقة من كثرة معاناتهم، فأصبحوا يخشون كل شيء ويرفضون كل شيء ولا يرون سوى جانب واحد للأشياء"، ما جعل من الصعب تقبلهم لفكرة وقوف الشباب، وخاصة الفتيات، على المسرح وهو ما منع الممثلات من المجيء مع الفرقة المسرحية إلى ألمانيا.

دعوة مسرح الحرية إلى ألمانيا للمرة الثانية


الصورة سمر كرم
المخرج اختار الاعتماد على المسرح الفيزيائي الذي لا يعتمد على الكلمات كثيراً

​​
خلال رحلتهم، يقضي الشباب حوالي شهرين في ألمانيا والدول المجاورة لتقديم أعمالهم، كما قاموا بورش عمل في المدارس الألمانية، وهذه اللقاءات الفنية تمثل جزءاً هاماً من أهداف مؤسسة كيندر كولتور كرافانه، لأنها تسمح للأطفال بتكوين صداقات قوية يمكن أن تستمر طويلاً كما يقول كلاسن. كان المسؤولون من "كيندر كولتور كرافانه" قد تعرفوا على مشروع مسرح الحرية عن طريق منظمة ميديكو انترناشونال التي تدعم المشروع من بدايته، ووجدوا أن هذه الفرقة تقوم تماماً بما يهدفون إليه، فهو مسرح يعمل مع الأطفال والشباب اللاجئين في جنين، والذين يعانون من ظروف صعبة يسودها العنف. لذلك تمت دعوة مسرح الحرية لأول مرة إلى ألمانيا في خريف عام 2009، بعد أن التقى كلاسن بجوليانو مير خميس في مهرجان برلين السينمائي في شتاء العام نفسه واتفقا على القيام بهذه الجولات الفنية في ألمانيا. وتحرص "كيندر كولتور كرافانه" على دعوة كل فرقة مرتين على الأقل، لإتاحة الفرصة لعدد أكبر من أعضاء الفرقة للقدوم، ولإعداد الجمهور أيضاً لهذا الأمر، ولهذا فقد كانت الاستعدادات أثناء دعوتهم هذا العام أفضل.

معتز، البالغ من العمر 18 عاماً والذي يقضي عامه الدراسي الأول في مسرح الحرية، جاء إلى ألمانيا مع فرقته، وقد كان هذا حلماً له كما يقول: "كان حلمي منذ الصغر أن أقف على المسرح وأمثل فلسطين. وهي في نظري أقوى طرق المقاومة". معتز فوجئ بالاهتمام البالغ من قبل الجماهير الألمانية، فكل المسارح كانت ممتلئة، كما أن النقاشات التي كانت تقام بعد نهاية العرض، كانت توضح أن هناك اهتماما كبيرا من قبل الألمان، وهذه هي الرسالة التي سيحملها معه إلى جنين: "سأروي للناس كيف أن هناك الكثير من المتعاطفين معنا، فليس كل الناس ضدنا كما كنت أظن. وفي رأيي أن معظم الألمان متعاطفين معنا".

كان الإقبال الجماهيري على العروض التي قدمتها الفرقة المسرحية القادمة من جنين كبيراً للغاية، كما كانت النقاشات التي تبعت العروض نقاشات غنية، تظهر اهتماماً واضحاًَ للتعرف على هذه الرسالة المختلفة التي تسعى الفرقة المسرحية لتقديمها، لكن النقاشات أيضا لم تقتصر فقط على النواحي السياسية. فيصل أبو الهيجا، يروي كيف دخل في نقاش مع إحدى الممثلات الألمانيات حول الأساليب المسرحية، حيث قالت له أثناء النقاش: "لقد جلبتم معكم أسلوباً مسرحياً جديداً، فنحن معتادون على البدايات الهادئة المعتمدة على الشخصية، بينما كانت بداية مسرحيتكم عنيفة وقوية".



سمر كرم
مراجعة: عبده جميل المخلافي

حقوق النشر: دويتشه فيله 2011