ابن عربي والحقيقة

من الصعب وصف كتاب شيفان فايدنر، لأنه لا يمكن تصنيفه في إحدى خانات الأدب المعتادة، فهذا الكتاب يملك من كل خانة أدبية شيئاً ما، كم أنه كتاب ذو طابع شخصي إلى حد بعيد يعالج عالم الثقافات والأديان. مراجعة هايكه فريزل.

​​

الطابع الشخصي للكتاب يرتكز على أرضية قائمة على سعة إطلاع الكاتب بالثقافة والعالم الإسلامي الذي غالباً ما يُسمى بشكل إجمالي وتبسيطي في الغرب "العالم العربي".

شتيفان فايدنر يعطي القارئ إمكانية مشاركته في رحلته الاستكشافية لجوانب الحياة المتعددة في العالم الإسلامي، والتي بدأها لأول مرة في سن السادسة عشرة خلال رحلته إلى الجزائر وتونس، ليحولها فيما بعد إلى مهنة يزوالها اليوم بأشكال متعددة.

ويستخدم شيفان فايدنر، المترجم المختص في دراسات اللغة العربية، في كتابه الذي يصفه بـ"المقالة المسرودة" صيغ أدبية مختلفة، كما ينجح في إيجاد صيغ سرد مناسبة لكل المواد، والمواقف، واللقطات التي يعالجها ويعايشها. وفضلاً عن ذلك فهو يعيد تشكيل كل صيغة سرد حتى تتناسب مع محتواها.

فعلى سبيل المثال يطلع فايدنر القارئ على إنطباعاته أثناء زيارته لـ"مدينة الأموات" في سوريا في البداية بشكل موضوعي جداً ويصف "مُصَمِّمُي الأَزْياءِ" وأعضاء طائفة مسيحية سورية قديمة تحمل إسم "مقدسي الأعمدة" يحيى أعضائها حياة زاهدة جالسين على أعمدة. لكن النص يزداد قوة في التعبير وكثافة في وصف الوقائع حين يُسرد في صيغة المضارع. وعلى هذا النحو تصل أفكار وخطب سمعون المقدس إلى القارئ بشكل مباشر، وكأن السارد شاهد عيان على وقائع الحدث.

رحلة خاصة

لا يتمحور موضوع الكتاب الرئيسي حول علاقة الغرب بالعالم الإسلامي، بل حول ماهية كل ما هو ديني بحد ذاته، علاوة على كيفية تعاطي الثقافتين الغربية والإسلامية مع الديانات الخاصة بهما ومع الدينات المنتشرة في الثقافة الأخرى.

وإنطلاقاً من وعيه بأن معرفة العالم الغربي بالإسلام غير كافية وينقصها الطابع التفريقي، يأخذ فايدنر بيد القارئ ويدعوه لمرافقته في رحلته الخاصة لإستكشاف عوالم الإسلام. ومن خلال ذلك يتحول الكاتب إلى رابط حي بين أماكن الحدث وشكله، وزمن وقوعه وبين فصول الكتاب الخمسة التي تبدأ وتنتهي بنصوص قصيرة تصف تجربة الكاتب الشخصية مع القرآن.

هذا الكتاب الذي قام فايدنر، وهو في سن السابعة عشرة بشراء طبعة خاصة له بلغتين، على الرغم من الصعوبات المالية التي واجهها آنذاك، ترك تأثيراً كبيراً عليه، بعد تجاوز بداية قراءته الصعبة، وصل إلى درجة الإفتتان، وهو إفتتان لم يهبه قوة روحانية فقط خلال رحلة العودة إلى أوروبا على ظهر سفينه، بل وهبه أيضاً بديلاً لوطنه الذي أدركه وتعاطي معه بحكم بعد المسافة عنه بصورة أكثر نقدية.

شخصيات مثيرة للجدل

تأخذ الفصول الثلاثة الرئيسية القارئ إلى أماكن رحلات فايدنر في الجزائر، وسوريا، ولبنان، هناك حيث يدعي فايدنر لإلقاء محاضرات فيها. وهو يصف فيها محادثات ومناقشات، وأيضاً مجادلات حول مواضيع تاريخية وأخرى تتعلق بأحداث الساعة.

وفي هذا الإطار يسرد فايدنر قصصاً تدور حول شخصيات إشكالية مثيرة للجدل، فهنا، على سبيل المثال، الراقصة اللبنانية أريانه التي أُرسلت إلى ألمانيا في سن الطفولة، والتي تريد أن ترقص مع القرآن على وقع "الأوريثيميا".

شتيفان فايدنر، الصورة: لاريسا بندر

​​وهناك الباحث السوري في علوم الإقتصاد الذي درس في جامعة كولونيا والذي يدخل الألمان بواسطة مقولته "العمل يجعل الحياة حلوة" في دوامة من التناقضات الأخلاقية. وأخيراً يتناول فايدنر أحد ممثلي الإسلام الأصولي الذي يتميز بقدرته على تغيير لون جلده بسرعة فائقة، وهو يعلل فضلاً عن ذلك تفوق دينه بالحجة القائلة بأن الإسلام يفكر في مئويات وليس في مجرد سنوات.

تُقدم تأملات فايدنر النقدية للقارئ على شكل محاضرات يبدأها الكاتب بنص تمهيدي وينهيها بنقاش مفتوح مع الجمهور. وتشكل هذه المقالات جوهر الكتاب النظري، لأن الباحث فايدنر يقوم هنا بطرح أسئلة تتعلق بمواضيع جوهرية ومتنوعة.

وفي هذا الإطار يتناول فايدنر أطروحة هنتنغتون حول تصادم الحضارات بصورة جدلية ونقدية، ويطور في المحاضرة نفسها مقارنة بين الإسلام وعالم الكمبيوتر كأجزاء الكمبيوتر غير القابلة للتغيير التي يضطر العالم إلى التكيف معها، وكبرامج الكمبيوتر التي تتكيف مع متطلبات العالم الخارجي. فمستقبل التعايش السلمي بين الثقافات مرهون بالرؤية الدينية التي تنجح في فرض نفسها على أرض الواقع في نهاية الأمر.

ابن عربي والحقيقة

وفي محاضرة أخرى يعالج فايدنر إمكانية تفكيك النصوص الدينية بواسطة الأساليب الحديثة لتحليل الخطابات، مشيراً في السياق نفسه إلى خطر فقدان هذه النصوص لقيمتها على هذا النحو.

وهو يتحدث في نهاية محاضراته أمام طلبة جامعة الأزهر عن مفاهيم الواقع المتناقضة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي وذلك عن طريق تحليله لمقولة علامة التصوف إبن عربي الشهيرة "للممكن مذاق في الوجود". كما يربط شروحاته وتفسيراته لهذه المقولة بالسؤال عن "ما هو حقيقي؟" ليعود مرة أخرى إلى أطروحات هنتنغتون السابقة الذكر.

تخرج أهمية كتاب فايدنر غير المعتادة إلى دائرة الضوء حين يصف الكاتب النقاشات الحادة، الحقيقية منها أو المختلقة على حد سواء، مع الجمهور وحين يترك الأصوات الغربية أو الإسلامية تتحدث بلسانها.

فالنقاش مع طلبة الشريعة الإسلامية في القاهرة يكسر أحد المحرمات، لأن هؤلاء الطلبة يرفضون تأليه محمد، ويريدون تحويله إلى مجرد بشر من لحم ودم عن طريق تصوير فيلم عن حياته يتجاوز منع الصور في هولويود.

وعلى هذا النحو يتم فرض الحقيقة القائلة بأن القرآن فقط هو كلمة الله التي تعد سارية المفعول بصورة مطلقة، وبذلك تفقد الكثير من القوانين الإسلامية ذات المصدر الإنساني مكانتها الخاصة وعصمتها من الخطأ وعلى هذا النحو يمكن أن يصبح المسلم مسلماً حقيقياً، من دون أن يكون "محمداني."

نجح شتيفان فايدنر بعنوانه "إغراءات محمدية" في تحقيق إنجاز مميز، لأنه يحيط القارئ علماً بخبراته الشخصية وأفكاره الإستكشافية عند دراسته لماهية كل ما يتعلق بالدين والتصوف في إطاره العام، وبالإسلام في إطاره الخاص.

وفي نفس الوقت يمثل تصويره المتميز بالتنوع وسعة الإطلاع لوقائع العالم الإسلامي مقدمة في بناء القرآن وفي القضايا الأساسية التي يحتدم الجدل حولها في العالم العربي في الوقت الراهن.

وأخيراً يعطي فايدنر من خلال أسلوب سرده الشخصي صورة عن مشاعر جيله وعلاقته بوطنه الأم التي تبدو وكأن الغموض لا يزال يكتنفها حتى الآن. كل ما يتمناه المرء هو أن يغدو كتاب فايدنر دافعاً لنقاشات مثمرة ومساهمة من أجل تفاهم أفضل بيت الثقافات.

هايكة فريزل
ترجمة لؤي المدهون
حقوق الطبع ليتريكس 2005

قنطرة

التبادل الأدبي الألماني - العربي
يعتبر الأدب دوما أحد الوسائل الرئيسية في حوار الحضارات، وغالبا ما يتمثل هذا في شكل أنشطة صغيرة تعمل في الخفاء، المترجم والناشر مثلا اللذان يعيشان على حافة الكفاف، ويقتاتان من العمل في التعريف بالثقافة الغريبة المحبوبة. ونقدم هنا مبادرات ألمانية وعربية

www

litrix.de