العلاقة بين العلوم والتكنولوجيا والعولمة في العالم العربي

تكتب سونيا حجازي، الباحثة في الدراسات الإسلامية، عن علاقة أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بالتخلف عن ركب العولمة الذي يشعر به سكان العالم العربي.

مقدمة

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 اتسمت بعض ردود الفعل في العالم العربي بالإعجاب، وهو أمر لم يكن بوسع الغرب أن يفسره بسهولة. هل رقص حقيقة مواطنون عرب في الشوارع من باب الشماتة؟ وقد دل النقاش حول مدى صحة الصور التي أظهرت فلسطينيين يرقصون في المناطق المحتلة على أن الصور وإن التقطت بعد تلك الأحداث، إلا أن بثها المتواصل في محطة سي إن إن أدى إلى إعطاء صورة مشوهة بشأن تقييم ردود الفعل العربية. هل أصبحنا أخيرا شهودا على ما يسمى "صراع الحضارات"؟ أم أن الأمر لم يتعد كون ضحايا

سونيا حجازي، الصورة: الأرشيف الخاص
سونيا حجازي، الصورة: الأرشيف الخاص

​​ العنف والتشريد في المنطقة قد عبروا عن أملهم في الحصول على المزيد من التعاطف والتضامن؟

فيما يلي سيتم طرح نظرية مدلولها أن أسباب ردود الفعل هذه على أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تعود إلى كون الكثيرين في العالم العربي يشعرون بأن ظاهرة العولمة قد مرت عليهم مرور الكرام. وبالامكان تفسير هذه الرؤية بناء على دراسة أعدها عالم السياسة الأمريكي ريتشارد فالك Richard Falk لاغني عنها لتفهم تلك الأحداث بعنوان "جيوسياسة الإبعاد" . لكن الأمر يختلف في حالة العلوم والثقافة حيث تؤدي هذه الرؤية إلى "الإبعاد الذاتي" نظرا لما تحتويه من إهمال لعامل التأثير العربي نفسه على الحضارات الغربية. من المهم أن نفهم بأن الإعجاب لم يكن موجها للقتل الجماعي الإرهابي بل لكمال التنفيذ وفاعلية التأثير الإعلامي للصور المعروضة أي لإتقان ما يسمى بالتكنولوجيات الغربية. إن البراعة التكتيكية التي لم تغب عن ذهن كافة المراقبين بصورة شعورية أو لاشعورية والتي خلقت بعض الانحراف الفكري في أوروبا أظهرت العالم العربي ولو لفترة زمنية قصيرة كما لو كان جزءً من اللعبة.

موضع التقدير عامة في العالم العربي كان موجها نحو النخب الطلابية التي أنهت دراستها بنجاح في الغرب وأتقنت بالتالي التكنولوجيات الغربية. فهذه النخب القادمة من البيئة العربية نجحت في الاندماج في مجتمعات الغرب إلى درجة اعتبار أفرادها "خلايا ساكنة مرحليا" ("Schläfer"). إن الرفض المطلق لكل ما هو غربي يشكل الوجه الآخر المعاكس للرغبة في الاندماج والاستفادة من محاسن التحديث بما في ذلك "الطريقة الأمريكية في الحياة American Way of Life"، الملاحظ بسهولة تأثيرها على فن "Pop" العربي. اختلطت مظاهر الإعجاب بمرتكبي تلك العمليات بعبارات تنم عن الاحساس بالنقص. فكثيرا ما ردد البعض بأن أسامة بن لادن لا يمكنه أن يكون المسؤول عن تلك الأحداث بحجة أن المسلمين لا يتقنون التكنولوجيات اللازمة.

لم يفرز التحديث التكنولوجي في القرن العشرين أحاسيس الريبة والحيرة لدى المجتمعات ذات السمة الاسلامية وحدها. فالعلوم ينظر إليها في شتى أنحاء العالم على أنها ظاهرة تخلق بناء على العالم هوبسباوم Hobsbawm أربعة أشكال من الأحاسيس: العلوم هو شيء لا يمكن فهمه. نتائجها العملية (والأخلاقية أيضا) لا يمكن التنبؤ بها ولكنها في الأغلب وخيمة العواقب. إنها تتسبب في إحداث البلبلة لدى الفرد وفي طمر الشخصية. كما أنها بحكم الطبيعة حافلة بالأخطار لأنها تحدث خللا وتضاربا في النظام الطبيعي للأشياء. تعود الجذور المنطقية لهذه المخاوف إلى استخدام وإساءة استخدام مكاسب العلوم الحديثة في القرن العشرين. كما أن هذه المخاوف تعود إلى ظاهرة الإيمان المطلق بالتقدم والثقة العمياء في قدرة العلم على تحسين نوعية الحياة. هنا يشكل الغرب مثالا يحتذى به وعامل ردع في آن واحد. فتقنيته وما أفرزته من مظاهر العولمة تملك القدرة على كلا التحرير والإخضاع. ومن يراقب النقاش الدائر في العالم العربي حول العولمة يلاحظ بسرعة أن تفسير هذه الظاهرة على أنها تعني إقصاءه من تاريخ العالم لا يقتصر على الأصوليين الإسلاميين وحدهم.

يعتبرعالم السياسة مارتن بيك Martin Beck من جامعة توبنغن مقاومة النخب الحاكمة للعولمة قرارا عقلانيا نظرا لأنها تعزّز خلال ذلك نفوذها في السلطة الذي ستفقدها في حال إدخال أنظمة العولمة (ديموقراطية المعلومات والتكنولوجيا والمال). لكن هناك فئات اجتماعية ذات مرتبة أدنى من هذه النخب تكون متضررة من هذا القرار السلبي الذي لا يشكل بالنسبة لها خيارا عقلانيا. فإغلاق باب نقل المعلومات بحرية ومنع الحوار الصريح يؤدي إلى تهميش فعاليات العلوم الطبيعية والاجتماعية وبالتالي إلى إضعاف مركزها. فأبحاث هؤلاء العلماء لا يمكنها أن تستند على النتائج البحثية ذات المستوى العالمي إلا بمقدار ضئيل. كما أن نتائج أعمالهم ونظرياتهم لا تناقش في المحافل الدولية إلا نادرا، مما يقلل من إمكانات التعقيب عليها وتصحيحها وعلى وجه خاص انتشارها.

إن النقاش الدائر حول تبني التكنولوجيات الحديثة باعتباره أحد الأعمدة الرئيسية للعولمة يتأثر على نحو كبير بالمسائل المرتبطة بالهوية وتقرير المصير والعزل، إذ أن العلوم والأبحاث هي عمليات دراسية حضارية الطابع.

فالتحديث لا يعتمد فقط على المصادر البحثية المتوفرة، بل وكذلك على البيئة الاجتماعية والحضارية. ونقل التكنولوجيا لا يعني بيع معدات ومكائن معينة فحسب بل المقصود منه في المقام الأول نقل المعرفة. فمن خلال ذلك يأتي الأشخاص المعنيون بنقل هذه المعرفة وينقلون كذلك القيم التي يؤمنون بها. بهذا المفهوم فإن أغلبية المجتمع السعودي تنظر بريبة إلى المهندسين الأجانب العاملين في معامل تكرير النفط وبالمثل أيضا إلى الجنود الأمريكيين رجالا ونساء ومن يرافقهم من رجال الدين المسيحيين واليهود المرابطين في السعودية منذ اندلاع حرب الخليج الثانية.

ينطلق النقاش حول العلوم والعولمة ونقل التكنولوجيا في الأغلب من مفهوم اجتماعي ومركزي للتكنولوجيا، بمعنى أن المجتمع يصيغ التكنولوجيا والتكنولوجيا تصيغه هو. وهكذا يشير علاء الدين هلال دسوقي إلى أن التكنولوجيا ناتج اجتماعي لا يمكن تصديره من مجتمع إلى آخر. لهذا يرى بأنه لا يجب استخدام عبارة "نقل التكنولوجيا" بل مصطلح "التكيّف مع التكنولوجيا". ويضيف بأن من مقومات النقل الناجح للتكنولوجيا الحديثة هياكل النقل غير الشكلية كالمؤتمرات والمؤلفات وتبادل العلماء والخبراء.العقبات التنموية (تحليل تاريخي)

شهدت مصر خلال احتلال نابليون لها عام 1798 أول مواجهة لها مع التجربة الأوروبية الحديثة في المعرفة والانفتاح العالمي. ويشير يوهانس رايسنر Johannes Reissner إلى أن " الفكر الإسلامي يتذكر دوما عامل الاقتحام الأجنبي، فيما لا يراعي الفكر الأوروبي التقليدي حول الإسلام ذلك إلا نادرا". إن التفوق العسكري والتقني للدول الصناعية وميلها العدواني إلى التوسع والتحديات الاجتماعية والحضارية القائمة قد أفرزت صراعا دائما مع الممثلين الأوروبيين للعلوم والثقافة والسياسة. يتحدث عالم الفيزياء اللبناني انطوان زحلان في كتابه " العلم والسياسة العلمية في العالم العربي" عن " تكريس الشعور بالنقص جماعيا هناك منذ حملة نابليون".

يذكر زحلان ستة عناصر رئيسية مميّزة لنقل التكنولوجيا منذ حملة نابليون حتى اليوم: أولا السرعة الفائقة التي عمل بها التكنوقراطيون فيما يخص استيراد السلع الرأسمالية وما رافق ذلك من العرقلة في تأسيس المعاهد البحثية المحلية. ثانيا اتسام قرارات رؤوس الدول بالنزعة الشخصية. ثالثا تهميش دور التكنولوجيا في المراحل التخطيطية. رابعا عدم وجود مقدار كاف من تقييم المشاريع. خامسا القصور في تدريب الأشخاص في مجال التقنيات الحديثة. سادسا هيمنة المشاريع الجاهزة للتسليم. ويحذر زحلان من مغبة اعتماد المجتمع تماما على المشاريع الجاهزة للتسليم وإلا أصبح هذا المجتمع حضاريا بمثابة السلع الجاهزة للتسليم turn-key-culture. وبناء عليه فإن نقل التكنولوجيا مجال آخر من مجالات تكريس الشمال للهيمنة الاقتصادية والحضارية على الجنوب. كثيرا ما نادى الخبراء الغربيون إلى نقل طرق التصنيع البسيطة والزهيدة الأسعار، الأمر الذي جعل المعنيين يعتبرون ذلك "من قبيل التعامل بالدرجة الثانية" مما زاد لديهم الإحساس بالنقص. بهذا المضمون يقول جورج كورم Georges Corm إن أشكال نقل التكنولوجيا لم تتغير على نحو يذكر من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين. ويضيف بأنه من المدهش أن يتحتم على الدول النامية حتى اليوم تحمل أعباء مالية جسيمة في سبيل استيراد التكنولوجيا الغربية على الرغم من أن ذلك قد تسبب في القرن التاسع عشر في إشهار إفلاس الدول العربية وتعرضها للاحتلال. فالعالم العربي يرزح اليوم مجددا تحت طائل الديون الأجنبية التي تعود جزئيا إلى التكاليف الباهظة لنقل التكنولوجيا.

الإحساس بالنقص والخوف من فقدان الهوية نتيجة لإدخال التكنولوجيا "الغربية" خلقا جدلا حادا. فمن ناحية ما كرس اكتساب التكنولوجيا الحديثة الهيمنة الاقتصادية والثقافية للغرب، وهو أمر مرفوض. ومن ناحية أخرى ينظر إلى ذلك على أنه أمر لا بد منه لتحقيق القدرة التنافسية منذ تكثيف عمليات العولمة ابتداء من الثمانينات. فقد اعتبرت الدول بعد انتهاء استعمارها النهوض بالصناعة عبر نقل التكنولوجيا من الأهداف الرئيسية لها. وعقدت هذه الدول آمالا كبيرة على التخلص من الفقر من خلال الاستفادة من التكنولوجيات الحديثة. فبلغت الشرعية السياسية للبحث والتنمية درجة عالية نظرا لاعتبار بدائل الاستيراد والثقة بالنفس self- relianceمن الأهداف المركزية للاستقلال. هذا بالاضافة إلى الأولوية التي منحت للتربية والتعليم الوطنيين. وبعد انتهاء الاستعمار تقرر فتح هذا القطاع لعامة الشعب. فارتفع عدد الجامعات في الدول العربية من 10 عام 1950 إلى 175 عام 1995. كما تأسست في السنوات العشر الماضية 40 جامعة أهلية.

كان الاعتقاد سائدا في السبعينات بإمكانية حساب Input للمنجزات العلمية وما يترتب عنها من تقدم علمي. فكان بلد عربي ما يحتاج في ذلك الحين بناء على الأرقام إلى 1000 عالم في مجال الأبحاث من مجموع مليون نسمة، وكان على هذا البلد أن يضع 0,7 بالمائة من مجموع الناتج القومي العام لتمويل الأبحاث. وكان من المقرر أن يعمل نصف هؤلاء العلماء بالاضافة إلى ذلك في الجامعات. وكان الاعتقاد قائما بأنه بحكم وجود أطروحات الدكتوراه العالية المستوى وارتفاع عدد المؤلفات والبراءات العلمية فإن مستوى المعيشة سيرتفع وسيسهل بذلك الوصول إلى المستوى العلمي الدولي. ولكن هذا التفاؤل سرعان ما ولى الأدبار عندما لاحظ المعنيون بأنه رغم الاستثمارات العالية في حقل التعليم الوطني لم يتحقق التحديث المنشود من خلال توفير Input للطاقات العلمية. صحيح أنه أمكن خفض معدلات الأمية على نحو كبير، الأمر الذي شمل على وجه خاص الشباب من الجنسين. لكن أغلب هؤلاء الشباب لم يجدوا الفرص المواتية لمتابعة الدراسة بعد إتمامهم للمرحلة المدرسية.

جاءت الاشارة مرارا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول إلى الأوضاع المتردية للمؤسسات البحثية والعلمية في العالم الإسلامي. وقد طالب الرئيس الباكستاني مشرّف في اجتماع عقدته منظمة المؤتمر الإسلامي في مارس/آذار 2002 بإنشاء صندوق لدعم التعليم والأبحاث والتقنية. وأشار إلى أن اليابان تملك 1000 جامعة فيما يبلغ مجموع الجامعات في كل الدول الاسلامية 430 فقط. وبناء على مشرف فإن عدد أطروحات الدكتوراه في مجال العلوم الطبيعية في كل هذه الدول البالغ عددها 57 يبلغ سنويا 500 أطروحة فقط، في حين يبلغ هذا العدد 3000 أطروحة في بريطانيا وحدها.

زاد الصراع العربي الاسرائيلي من حدة الجدل القائم حول إدخال أو رفض إدخال التكنولوجيات الغربية. وكان التطور التكنولوجي منذ البداية أحد الأعمدة الهامة للأيديولوجية الصهيونية. واليوم لا تنظر أوروبا وأمريكا فقط إلى استخدام إسرائيل المدني لأحدث التكنولوجيات كمثال يقتدى به (خاصة في الزراعة والتكنولوجيا الدقيقة) وإلى حد ما أيضا كمبرر لوجود إسرائيل في المنطقة، فبالإضافة إلى ذلك غذى تفوق إسرائيل العسكري الجدل القائم . ففيما رأى البعض بناء على تجربتَي الجزائر وفيتنام بأن التفوق العلمي والتكنولوجي ليس بالضرورة مرجحا لنتائج المواجهة العسكرية، عبر البعض عن قناعتهم بأن العالم العربي في حاجة إلى تسلّح حديث وأيضا إلى جيش حديث وإلا ما أمكن له حسم المواجهة العسكرية مع إسرائيل لصالحه. وقد سبق أن نشر علماء طبيعة إسرائيليون في نهاية الستينات معدل 4,2 أكثر من علماء كل الدول العربية (التعداد السكاني في ذلك الحين : 3 ملايين مقابل 126 مليون) بناء على زحلان.بين التبني والرفض

هناك ثلاث مدارس في العالم العربي في إطار النقاش الدائر حول العلوم "الغربية": أولا العلماء "الاسلاميون" ، ثانيا رواد نظرية النهج الاستقلالي وثالثا أنصار العولمة. المذكورون أخيرا هم مجموعة سبق لها أن طالبت قبل أن شاع استخدام مصطلح العولمة في بداية التسعينات بدمج فروعها العلمية في إطار الأبحاث الدولية. يطلق على التابعين لهذه المجموعة أحيانا تسمية علماء طبيعة "علمانيين" للتمييز بينهم وبين العلماء الاسلاميين. لكن هذه التسمية لا تتطابق مع المضمون الحقيقي لكونها تقتصر على النهج التقييدي للاسلاميين بالمفهوم الحضاري مهملة من خلال ذلك مركز الثقل الذي اختاره علماء هذه المجموعة وهو الاندماج في إطار الأبحاث الدولية.

يستخدم العلماء "الاسلاميون" مثل سيّد حسين نصر القرآن كمرجعية وحيدة ويلفتون النظر إلى العهد المجيد للنهضة العلمية الاسلامية بين القرنين الثامن والثاني عشر. وهم يتعاملون هنا بوحي تناقض وجداني، حيث أنهم يريدون المشاركة في عمليات التحديث، إلا أنهم يحرصون على الفصل بينها وبين العمليات المتأثرة بالتجربة الغربية. "هذه العمليات التي تؤثر عبر التحديث التقني على صياغة الحياة اليومية بل حتى إلى العلاقة بين الجنسين بصورة متعددة وعميقة، تخلق ضياعا في التوجه. ولا ينظر إلى الاسلام كحل في مواجهة السيطرة الأجنبية الغربية، بل من الآن وصاعدا ينظر إلى الإسلام كحل فيما يخص التورط الذاتي في التغريب بما في ذلك اكتساب التكنولوجيا الغربية التي تفرض أشكالا جديدة من التعايش البشري."

أما المدرسة الثانية فقد تعاملت حيال الصراع مع التكنولوجيا الغربية المنظور إليها على أنها متفوقة من أرضية نظرية الاستقلال. وحجة أنصار هذه المدرسة الفكرية هي أن المكاسب التي تحققت لم تتكيف مع المشاكل الحقيقية القائمة في الدول النامية، كما أنها لم تترك أثرا على نوعية الحياة لدى عامة الناس. تلك المكاسب قامت على عكس ذلك بتغيير الأولويات في ميزانية الدولة وأدت إلى زيادة الديون الأجنبية وزادت من حدة الاعتماد على الغرب. وهنا لا يقصد رواد نظرية النهج الاستقلالي على الإطلاق العراقيل الدينية أو الحضارية للحوار، بل يوجهون أصابع الاتهام في الدرجة الأولى إلى ما يعتبرونه توجها إمبرياليا جديدا. لم يتكيّف النقاش قي إطار نظرية النهج الاستقلالي حول العلوم والتكنولوجيا مع رؤية النسبية الحضارية لدى الاسلاميين . فالعولمة لا ينظر إليها على أنها تهميش للمسلم بل تهميش للطرف الأضعف.

يعتبر جانب من الكتّاب العرب العلماء ورجال الاقتصاد الغربيين طرفا فعالا في "صراع الحضارات" أو مشاركين في حملة عداء متزايد في العلاقة بين العالمين الاسلامي والمسيحي. فيذكرون بأن البراءات العلمية وجوائز نوبل والمؤتمرات العلمية تكاد أن تكون كلها بيد الغرب وبأن قانون البراءات يزيد من درجة الاعتماد على الدول الصناعية. وبناء على قريش Quraish فقد منحت 92 بالمائة من البراءات المسجلة في العالم العربي لخبراء أجانب. وتبلغ في العالم كله نسبة البراءات المسجلة بأسماء مواطنين من الدول النامية أقل من 6 بالمائة. كما لا يستخدم في تلك الدول سوى جزء ضئيل من البراءات المسجلة لديها لغرض الانتاج المحلي. وقد بلغ عدد البراءات المسجلة في مصر عام 1996 ثلاث براءات فقط. ويستنتج انطوان زحلان في دراسة له حول مصر بناء على تقييم عددي بأن هناك "مدارس غير مرئية" تتبادل المعلومات حول التقدم العلمي والاختراعات الجديدة وتدعو بعضها البعض للمشاركة في المؤتمرات ، أي أنها تتبادل الحوافز. أما العالم العربي فإنه لا يكاد يشارك في ذلك. وحتى في حالة المؤتمرات الدولية التي تعقد في المنطقة العربية فإن مشاركة العلماء العرب تكون ضئيلة في الأغلب.

بناء على المدرسة الثالثة فإن عهد العولمة أي إندماج الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلوم هو متابعة للظلم من خلال "النظام العالمي الجديد" وحركة مناهضة للعرب. ولا ينظر إلى عمليات العولمة التي شهدتها أواخر القرن العشرين على أنها عهد تحققت فيه الثورة العلمية والتقنية بل تعتبر بمثابة سيناريو تهديدي يفسر ويناقش على أنه من مظاهر الاستعمار الجديد. هذه النظرة حافلة بالمخاطرة وغير صادقة فكريا، لأنه توجه أنظار الرأي العام في اتجاه عدو "غير حقيقي". فطالما فسرت عمليات العولمة على أنها عمليات أمريكية على نحو حتمي، فإن ذلك ينفي احتمالات تأثير المنطقة على "المركز". ويؤدي الميل إلى اعتبار النفس ضحية مستهدفة من قبل تيارات غزو عالمية بصورة لاشعورية إلي تقوية مشروع غربي يرفضه المثقفون العلمانيون اليساريون غاية الرفض وهو إبعاد علماء الطبيعة والاجتماع العرب أو عزلهم. وينعكس هذا العزل سلبيا على القدرات البحثية على الصعيد القومي. ونظرا لانعدام وجود المجموعات النقدية (سوق الآراء) فإنه من المتعذر على العلماء معرفة أصداء أعمالهم على نحو بناء. وهذا من أسباب وجود إحدى العقبات الرئيسية للتنمية، أي هجرة عدد كبير جدا من الأكاديميين. فبناء على أنطوان زحلان فقد هاجر حتى منتصف السبعينات 50 بالمائة من كل الأطباء العرب و23 بالمائة من كل المهندسين و15 بالمائة من كل علماء الطبيعة إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. جورج كورم Georges Corm يطلق على هجرة العقول اسم "نقل التكنولوجيا العكسي".Versailles فرساي؟

تساءل البعض في تعقيبات صدرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بسخرية عن "ماهية عقدة المسلمين المشابهة لعقدة فرساي Versailles والتي حالت دون بنائهم لأنظمة اجتماعية مدنية ومزدهرة". ونكتفي في هذا الصدد بالاشارة إلى زايبت Seibt ، لكننا نسمع مثل هذه المقولات للأسف الشديد من المؤسسات الألمانية المعنية بتقديم المشورة للسياسيين أيضا. هذا الموقف المبني على الجهل يقضي على كل الآمال المعقودة على "حوار الحضارات"، لأنه يهمل بكل بساطة المواقف العربية الأساسية. وقد قارنت بعض الدراسات الحكيمة التي صدرت قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بين توقف التصنيع في العراق وبرنامج الحلفاء الخاص بعزل ألمانيا وتجريمها بعد الحرب العالمية الأولى. وأود استنادا على دراسات فالك Falk أن أوضح باختصار النقاط الرئيسية التي تجعل المسلمين يتحدثون عن وجود خطط استراتيجية لعزل ممثليهم عن المجموعة الدولية، الأمر الذي يعتبرونه إذلالا مستمرا لهم : عدم وجود ممثل دائم لدولة مسلمة في مجلس الأمن الدولي أو في مجموعة الدول الثمان ، كما أنه لم يسبق أن تبوأ مسلم منصب الأمين العام للأمم المتحدة.

يشير فالك Falk إلى اختلال التوازن حيال تقييم الضحايا المسلمين وغير المسلمين وإلى قلة التعاطف مع المسلمين منهم (على سبيل المثال في فلسطين، البوسنة، الشيشان، كشمير)، كما أنه يشير إلى الأسلوب التمييزي في التعامل مع معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (في حالة باكستان يجري الحديث عن "القنبلة الذرية الاسلامية"، أما في حالة إسرائيل فلا أحد يستخدم عبارة "القنبلة الذرية اليهودية") والاختلاف داخل المجموعة الدولية في فرض العقوبات (على سبيل المثال رفع العقوبات عن صربيا بعد انتهاء الحرب والحفاظ على العقوبات المفروضة على العراق منذ عشر سنوات على الرغم من عدد الضحايا الجسيم) وإزاء التعامل مع الهجمات الإرهابية( نقلت محاكمة تيموثي مكفاي Tomothy McVeigh من أوكلاهوما إلى مدينة أخرى حرصا على نزاهة المحلّفين، أما عمر عبد الرحمن المسؤول عن أول هجمة تعرض لها مبنى مركز التجارة العالمي فقد حوكم في نيويورك نفسها)، ووصم دول معينة بكونها "دولا شريرة". كل هذه العوامل تؤدي إلى إضعاف رغبة مواطني الشرق الأوسط في التصرف داخل "القرية العالمية global village " بالمعايير الغربية.

مناعة ضد العولمة

بعد انقضاء أكثر من مائتي عام على تأجيل مستمر لدمج العالم العربي في السوق العالمية والمجتمع الدولي فإنه يبدي مقاومة ملحوظة حيال عمليات العولمة. ويؤدي إضعاف السياسة المبنية على بنيان الدولة القومية نتيجة للعولمة إلى توتر العلاقة بين الدولة والمجتمع على نحو كبير مما جعل ردود الفعل المعاكسة واضحة وثابتة. وقد فسّر يوهانس فيلمزJohannes Willms أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على أنها توجهٌ للاعتراف بما أسماه الموازاة الزمنية لانعدام الموازاة الزمنية: " يفهم من كلامه (المقصود حديث بن لادن المنقول بالفيديو) وجود رغبة في تقبل التعايش الحقيقي لانعدام الموازاة الزمنية والاحترام المطلق للمعطيات والرؤى الحضارية الأساسية. لكن هذا عامل شرطي بعيد كل البعيد عن تصور الغرب الذي يشعر بالتزام نحو عالمية وشمول قيمه، ولهذا فإنه كان ومازال يسعى بضمير صاف إلى ترتيب العالم وفقا لتصوراته. …هذا يبيّن بأن أمريكا على نحو خاص لا تتفهم على الاطلاق أصحاب التوجهات الواثقين من أنفسهم والثابتين في رفضهم لمفهوم الحداثة، لدرجة أنها تشعر بأن تلك التوجهات تشكل خطرا على وجودها."

بناء على رؤى معظم أصحاب النظريات لا تفهم العولمة على أنها تشكل تباعدا بل تجانسا بين الأطراف أو الهوامش وبين المركز الرأسمالي. وفي نظرهم فإن العالم العربي يشهد تهميشا للإبداع الحضاري والتكنولوجي والاقتصادي والسياسي الأصيل. فليس هناك اهتمام بالمظاهر العملية المتعلقة بتأثير الحضارتين العربية والاسلامية على المراكز المعنية في أوروبا وأمريكا. هذا لا يتعلق فقط بكون مفاهيم معينة مثل "فتوى، جهاد، آية الله الخ. قد أصبحت مصطلحات متعارفا عليها في لغة الحياة اليومية المعولمة" كما أشار فورتيغ Fürtig بناء على أحمد ودونان Donnan . بل يشمل ذلك أيضا التأثير البارز لسلع ثقافية شابة من المنطقتين العربية والاسلامية في قطاع الموسيقى (خالد، رشيد طه) والأدب (رشدي، سويف) والفيلم. وقد استقطبت أفلام مخرجين شباب من بلدان اسلامية في الآونة الأخيرة اهتماما يدعو إلى الدهشة في مهرجانات الأفلام الدولية مثل فيلم "المدينة" للمخرج يوسف نصر الله (2001) وفيلم "ما الذي يحدث الآن؟ Wesh wesh, qu’est ce qui se passe " لرباح عمير (2002) وفيلم "ما أجمل أمريكا America so beautiful " لبابك شكريان (2002). ولا تحظى مظاهر الإخصاب الحضاري المتبادل باهتمام يذكر رغم أن العالم العربي يلعب في هذا الصدد دور المانح والمستلم. بهذا يُضعف خصوم العولمة في آخر المطاف أنفسهم بأنفسهم. ويعكس مفهوم فقدان الهوية الذي يستخدمه نظريو التحليل العرب، والذي كان في الأساس من المفاهيم الكلاسيكية للمجتمعات الصناعية، التوجهات الماركسية الجديدة والمبنية بصورة كلاسيكية على نظريات الاستقلال. فبناء على نظرتهم لا تؤدي العولمة إلا إلى التجانس والتجزئة. وهنا تستخدم التكنولوجيا كمثال نقدي باعتبارها من وسائل "الغرب" الهادفة إلى تجزئة الحضارة العربية الاسلامية وتهميشها.

اكتشف المواطنون العرب من خلال أحداث الحادي عشر من سبتمب/أيلول 2001 بأن أفرادا من صفوفهم قد "برعوا" في استخدام "العولمة"، تقنيا على نحو مرئي خلال الضربة الموجهة إلى مركز التجارة العالمي واقتصاديا خلال الخلل الدرامي الذي أحدثوه في بورصة نيويورك وحضاريا عبر "نخبتهم" الطلابية التي نجحت نجاحا فائقا في الاندماج في مجتمعات الغرب.

ترجمة عارف حجاج

عن صحيفة ,Das Parlament, 2002/18

سونيا حجازي (1967) باحثة مساعدة في مركز الشرق الحديث قي برلين، من مؤلفاتها: الدولة والرأي العام والمجتمع المدني في المغرب (هامبورغ 1997)، التغيرات في الثقافة السياسية في مصر والمغرب ودول عربية أخرى (لايدن 1999)، عن وضع حقوق الإنسان في الشرق الأوسط والأدنى (بادن-بادن 2002).