انهيار وشيك للنظام العالمي بعد مقتل خاشقجي؟

يعتمد قادة العالم غالبا في سياساتهم الخارجية على السياسة الواقعية وليس على الاعتبارات الأخلاقية. لكن آنا بالاسيو -وهي سياسية إسبانية سابقة ومحاضرة في جامعة أمريكية- تنتقد وقاحة تصريحات أحد زعماء الغرب حول جريمة قتل الصحفي السعودي خاشقجي البشعة، وعدم قيام الغرب بخطوات كافية، وتحذر من خطر ذلك على الأنظمة العالمية. خطر لا يمكن تلافيه إلا "بالموازنة بين حقوق الإنسان والتحالفات القديمة المربحة".

الكاتب، الكاتبة : Ana Palacio

في الثاني من أكتوبر / تشرين الأول 2018، دخل جمال خاشقجي- وهو محرر لعمود في جريدة واشنطن بوست وناقد بارز للحكومة السعودية- إلى قنصلية المملكة العربية السعودية في إسطنبول، من أجل الحصول على وثائق تمكنه من الزواج من خطيبته التركية. وبدل أن يتلقى مساعدة من حكومة بلده، تعرض خاشقجي للتعذيب والقتل، وقُطِّعَت جثته من قبل مجموعة من عملاء هذه الحكومة.

إنها لجريمة بشعة تجعلنا نطرح بعض الأسئلة الخطيرة، خاصة فيما يتعلق بالتوازن المناسب بين الدفاع عن حقوق الإنسان والحفاظ على تحالفات قديمة و(مربحة).  وجوهر الأمر، هو أن الوقاحة التي قتلت بها الحكومة السعودية خاشقجي -دون ذكر ردود أفعال قادة الدول الغربية-  أكدت مدى البرودة الفعلية التي يتم التعامل بها مع الآليات الجيوسياسية.

تضرر النظام العالمي

وعادة ما تكون الشفافية فضيلة يُحَثُّ عليها، إلا أن الشفافية في العلاقات الجيوسياسية، تكلف غاليا. والاعتقاد بأن المبادئ والقيم والقوانين لديها بعض الوزن في العلاقات الدولية يساهم في الاستقرار. وعندما يهتز هذا الاعتقاد، لنَقُل، بسبب تسميم العميل المزدوج لروسيا سابقا سيرغي سكريبال وابنته على الأراضي البريطانية- يتضرر النظام العالمي، وربما قد يصبح غير قابل للإصلاح. 

إن انعدام الشرعية الناتجة عن مثل هذه الأحداث تزداد جراء التخلي الواسع النطاق عن الرسميات -لاسيما القوانين المتعلقة بالزي الرسمي في مكان العمل وقواعد التواصل- بسبب تزايد مواقع التواصل الاجتماعي. وبما أن حياتنا العامة والخاصة ليستا واضحتي المعالم، فإن الشخصيات العامة تتعرض للضغط من أجل الظهور "بشكل حقيقي" و"طبيعي"، لتشبه جيراننا وزملائنا. حتى البابا فرانسيس أطلق ألبوماً لموسيقى الروك.

وبطبيعة الحال، ليس بالضرورة أن تكون كل هذه التغيرات سيئة. فانهيار البنيات الرسمية من شأنه أن يخلق فضاء للتفكير والابتكار المستقلين. ولكن الخطر يكمن في عدم ظهور أي إطار عمل يرشدنا في تصرفاتنا -والأهم من هذا، تصرفات قادتنا- من أجل ضمان امتثالها لبعض القيم المشتركة أو التوقعات المنطقية.

"وقاحة خطاب ترامب في قضية خاشقجي"

صورة مُركَّبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين والجاسوس الروسي المزدوج سيرغي سكريبال المتهمة موسكو بمحاولة اغتياله في بريطانيا.  picture-alliance/Globallookpress)
"الاعتقاد بأن للمبادئ والقيم والقوانين بعض الوزن في العلاقات الدولية يسهم في استقرار العالَم": وهو اعتقاد ترى الخبيرة آنا بالاسيو أنه" حين يهتز مثلا بسبب تسميم الجاسوس الروسي المزدوج سابقا سيرغي سكريبال وابنته على الأراضي البريطانية يتضرر النظام العالمي، وقد يصبح غير قابل للإصلاح. وغالبا ما يعتمد القادة في جميع أنحاء العالم في قراراتهم المتعلقة بالسياسة الخارجية على السياسة الواقعية، وليس على الاعتبارات الأخلاقية. ولكن هذه أول مرة يعترف فيها رئيس أمريكي دون خجل، بالطبيعة التجارية المحضة لقراراته السياسية. إذ قال ترامب بوقاحة، إن السعودية "تنفق 110 مليار دولار على تجهيزات عسكرية وأشياء أخرى تسهم في خلق فرص الشغل ... لم تعجبني فكرة وقف هذه الاستثمارات في الولايات المتحدة الأمريكية". ورغم الشك في الأرقام المعلنة، لكن تعليقات ترامب ماهي إلا تصريحات صريحة عن مصالح مالية. وتدل الراحة بل حتى الافتخار اللذان عبر بهما من خلال تلك التعليقات على أننا دخلنا مرحلة جديدة، إذ لم يعد بإمكاننا أن نتوقع من قادتنا حتى احترام أبسط المعايير، ألا وهي التعبير عن قراراتهم بأسلوب مبني على القيم والقواعد).

ويجسد دونالد ترمب هذا الخطر. فمنذ دخوله إلى الساحة السياسية، كان دونالد ترامب عكس التوقعات بشأن الأسلوب الذي من المفترض أن ينهجه أي مرشح للرئاسة الأمريكية- وأي رئيس للولايات المتحدة الأمريكية. ورغم أنه لا عيب في كون قائد سياسي يتكلم بوضوح وبصراحة مع ناخبيه، فإن نبرة وأسلوب ترمب في الكلام -خاصة عبر تويتر- سلبية للغاية. إذ تزيد شتائمه غير الأخلاقية، وتصريحاته العنصرية غير المباشرة، وهجومه الذي لا أساس له ضد وسائل الإعلام وغيرها من المؤسسات الديمقراطية، من الانقسامات السياسية والاجتماعية، وفي نفس الوقت تؤدي إلى تراجع الاحترام للرئاسة وللولايات المتحدة الأمريكية بصفة عامة.

إن تبني ترامب لأسلوب تجاري بشكل غير مسبوق -وغير منظم- في التعامل مع السياسة الخارجية سيؤدي إلى عدم الاستقرار أيضا. ومن المؤكد، أن عقد ترامب للصفقات كان في البداية مبنيا إلى حد ما على قيم أكثر شمولية، خاصة الزيادة من "عدل" علاقات الولايات المتحدة الأمريكية، بما في ذلك التعاون في مجال الأمن مع حلفاء الناتو والعلاقات التجارية مع الصين. ورغم شعار "أمريكا أولا" للرئيس ترامب، فيبدو أن مثل هذه التصرفات تركز أكثر على إعادة التوازن للنظام وليس على تدميره.

ومع ذلك، كان رد ترامب على قضية خاشقجي، خاليا من أي قيم شمولية. ومن أجل التوضيح، منذ عقود من الزمن، يرعى رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة إلى الزعماء الأوروبيين المملكة العربية السعودية، وغالبا ما يعتمد القادة في جميع أنحاء العالم في قراراتهم المتعلقة بالسياسة الخارجية على السياسة الواقعية، وليس على الاعتبارات الأخلاقية.

ولكن هذه أول مرة يعترف فيها رئيس أمريكي دون خجل، بالطبيعة التجارية المحضة لقراراته السياسية. إذ قال ترامب بوقاحة، إن المملكة العربية السعودية "تنفق 110 مليار دولار على التجهيزات العسكرية وأشياء أخرى تساهم في خلق فرص الشغل" في الولايات المتحدة الأمريكية. وأضاف قائلا: "لم تعجبني فكرة إيقاف استثمار بقيمة 110 مليار دولار في الولايات المتحدة الأمريكية".

ضرورة الحفاظ على مصداقية النظام العالمي

ورغم أن الأرقام المعلن عنها مشكوك فيها، إلا أن تعليقات ترامب ماهي إلا تصريحات صريحة عن مصالح مالية. وتدل الراحة بل حتى الافتخار اللذان عبر بهما من خلال التعليقات، على أننا دخلنا في مرحلة جديدة، حيث لم يعد بإمكاننا أن نتوقع من قادتنا حتى احترام أبسط المعايير، ألا وهي، التعبير عن قراراتهم بأسلوب مبني على القيم والقواعد.

إن هذا أمر خطير، لأن مثل هذا الأسلوب ضروري للحفاظ على مصداقية النظام العالمي وحشد الدعم المحلي لصالح هذا النظام. وعلى غرار القيادة الناجعة واحترام سيادة القانون، فبعض الإيمان بالنظام -حتى ولو غلب عليه طابع التوتر بسبب عدم المساواة أو الحصانة- ضروري لاستمرارية هذا النظام.   

إن عالَماً -لا يهم فيه إلا عقد الصفقات ولا توجد فيه مبادئ تحكم التصرفات وتعزز نُظُم الحكم- هو عالمٌ لا يعلم فيه المواطنون ماذا يتوقعون من قادتهم، ولا تعلم فيه الدول ماذا تتوقع من حلفائها. ومثل هذا العالم - غير المستقر والذي لا يمكن التنبؤ به- ليس النموذج الذي ينبغي علينا قبوله بلا تبصر.

ولم يفت الأوان بعد على الرد على جريمة القتل البشعة التي تعرض لها خاشقجي، بطريقة تعزز المبادئ التي نعتمد عليها بدل إضعافها. ولعل تعليق المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لعملية بيع الأسلحة للسعودية بداية جيدة، رغم أن الدافع الأكبر وراء هذا القرار هو دعم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي ترأسه الذي كان مقبلاً على الانتخابات الإقليمية في ولاية هيسِن. تماما كما هو الحال بالنسبة لتراجُع واشنطن عن برنامج التجارة الاعتيادي الذي تعتمده في علاقتها مع السعودية.

ولكن، يجب فعل المزيد، لاسيما إعلان القادة ذوي المبادئ بشكل واضح أن ما وقع في إسطنبول غير مقبول، وإلا فسنتخلى عن خطاب القيم والمبادئ - وهو ما من شأنه أن يتركنا دون أي خطاب متماسك مُعَزز للاستقرار.

 

 



آنا بالاسيو

ترجمة: نعيمة أبروش

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت 2018

 

ar.Qantara.de

آنا بالاسيو هي وزيرة الخارجية الإسبانية سابقاً ونائبة رئيس البنك الدولي سابقاً، كما أنها محاضرة زائرة في جامعة جورج تاون الأمريكية.