من أين يبدأ التغيير في المجتمعات العربية؟

المفكرالسعودي تركي الحمد يتناول في كتابه الجديد الكثير من القضايا المطروحة للنقاش في الثقافة العربية اليوم ويحاول أن يرسم ملامح مستقبل عصري للدولة السعودية. فرج بو العشة قرأ الكتاب ويقدمه لنا

مكة، الصورة: أ ب
مكة

​​المفكرالسعودي تركي الحمد يتناول في كتابه الجديد الكثير من القضايا المطروحة للنقاش في الثقافة العربية اليوم ويحاول أن يرسم ملامح مستقبل عصري لدولة سعودية تقوم على عقد اجتماعي دستوري ديموقراطي مع شعبها. فرج بو العشة قرأ الكتاب ويقدمه لنا

لا تزال أسئلة النهضة والتنوير قائمة في المجتمعات العربية. أسئلة هي عنوان لإشكاليات ثقافية واجتماعية وسياسية عميقة سائدة منذ انبثاق حركة النهضة العربية. تلك الحركة التي ولَّدت تحولات نهضوية هائلة في اجتماع العرب الحديث، ولكن بعد هزيمة المشروع القومي النهضوي بهزيمة 5/6/1967، ثم انهيار المشروع التنويري الحداثي في حرب لبنان الأهلية وسقوط بيروت تحت جنازير دبابات الغزو الإسرائيلي 1982، نهض الإسلام السياسي في صورة أصولية عنيفة.

فعادت أسئلة التنوير تطرح نفسها من جديد حول لماذا فشل مشروع النهضة العربية وهل يُبدأ من جديد بحركة تغيير شامل تطال مختلف بنى الاجتماع العربي الثقافية التعليمية والسياسية؟ ولكن من أين يبدأ التغيير؟

المفكر السعودي المعروف تركي الحمد يقدم نفسه مرشدا لتلمس بداية التغيير في كتابه الجديد: "من هنا يبدأ التغيير" الصادر عن دار الساقي هذا العام.

المرجعية القرآنية

ينتهج المؤلف في قراءته التحليلية الرؤية الوسطية لترسيم بداية التغيير ومحددات مساره وإحداثياته. المنهج الوسطي، إن جاز التعبير، يجد مرجعيته الروحية عند المؤلف في القرآن:

"وجعلناكم أمة وسطاً"، وهو مبدأ حامل لفلسفة الإسلام التعادلية في الحياة على أساس التعادلية ما بين الروحي والحسي، العام والخاص، من حيث لا إفراط أو تفريط سوى في العبادة أو الملذات، في الحرية العامة أو الشخصية، وهكذا.

ويسند المؤلف الرؤية الوسطية الإسلامية هذه بالمنهج الفلسفي الأرسطوطاليسي في تعقل مفاهيم الأخلاق والسياسة والاجتماع وفقا لمعادلة عقلانية ضابطة. فالفضيلة لكي تحقق "أقصى كمال ممكن وليس في عالم المثل" ينبغي أن تكون وسطا بين نقيصتين:

"فالشح تطرف ونقيصة، والسفه تطرف ونقيصة، لكن الجود فضيلة، وهو الوسط بين هذين الطرفين". وينسحب منطق المعادلة الأخلاقية هذه على مجال الاجتماع والسياسة فـ: " الاستبداد وحكم الفرد من دون ضابط من قانون، تماماً كما الغوغائية والديماغوجية أو حكم الجماهير العريضة من دون ضابط من قانون، نقيصتان تؤديان نهايةً إلى عدم الاستقرار. وفي الوسط بين المنهجين الدستور المتوازن الذي يجمع بين فضائل الفردية والجماعية، وقس على ذلك".

ولكن كيف تكون المعادلة الوسطية دقيقة، بحيث لا نكون، كما يقول المؤلف: " نتحدث هنا عن شيء عام، قد يعني كل شيء وقد لا يعني أي شيء، ما دمنا لم نغادر أجواء التجريد، ونهبط قليلا إلى أرض التفصيل".

قضايا شائكة

المجتمعات العربية وقضاياها الاجتماعية والثقافية والسياسية. وفي مقدمتها قضايا السلطة والاستبداد، الدين والسياسة، حرية المرأة، الإسلام والديموقراطية، الأصولية والحداثة، الأصالة والمعاصرة، المقاومة والإرهاب، التفكير والتكفير، المفكر تركي الحمد يتناول، في كتابه، بالتحليل والنقد، الكثير من هذه القضايا المطروحة للنقاش في الثقافة العربية اليوم.

يركز في قراءته التحليلية على المفاهيم التقابلية المتصادمة، بالمعني المعرفي العميق، مثل تصادم التراث بالحداثة، والخطاب الأيديولوجي بالخطاب الإبستمولوجي، والشرق والغرب.

النظرة إلى النص المقدس

ويرى أن المنهج العقلاني الوسطي، وفق المعادلة التعادلية في تعين النقيضين في طرفي تطرفهما، ومن ثم استنباط الموقف الفكري الموضوعي بينهما، هو المرشح لفك الاشتباك بين الكثير من التناقضات التي تلابس تفكير المجتمعات العربية/الإسلامية وطرائق عيشها.

كما في النظرة إلى النص المقدس الذي هو: " غير منفصل العرى عن طموحات هذه الجماعة أو تلك، وبيئة هذه الجماعة أو تلك، والدرجة الحضارية التي يتمتع بها هذا المجتمع أو ذاك".

إذ أن الإسلام"حمّال أوجه" كما قال على بن أبي طالب في مواجهة تكفير الخوارج له ولمن لا يتبعهم. أما: "كيف نتعامل مع النص(المقدس)؟ فكما نكن يكن تعاملنا مع النص. هذا، والأمر لمن له الأمر في نهاية الأمر". حسب تركي الحمد.

قضية المرأة

وفي موضوعة حرية المرأة ، نجد من جهة، صورة المرأة العربية المسلمة، المنزوعة من كينونتها الإنسانية، مستعبدة برسم عادات وتقاليد تخلف بالية وقد أصبغت عليها قدسية دينية تجعلها مخلوقا من ضلع أعوج ناقص العقل والدين.

ومن جهة أخرى نجد صورة المرأة الغربية، المتحررة إلى حد التطرف الفامنيستي، وصورة ذلك حسب ما يذكر تركي الحمد: " أيام الدراسة في أمريكا، أن واحدة من أساتذتنا في العلاقات الدولية كانت من "الفامنيست" كانت تضع على باب مكتبها بوستر لامرأة عائمة بين الأرض والسماء، وتحتها خطت عبارة: " وخلقت الله الإنسان على شاكلتها" أي أن الله أنثى، وذلك في تحوير للعبارة الواردة في العهد القديم".

وبين الطرفين النقيضين يرشح المؤلف، استدلالا بالنص القرآني، رؤية المشاركة في الإنسانية بين الرجل والمرأة بغض النظر عن طبيعة وظائفهما البيولوجية المختلفة. وهذا يعني حقها في المساواة مع الرجل في المواطنة. ومفهوم المواطنة هنا تحكمه محددات الواقع الاجتماعي والسياسي في بلد محافظ كالسعودية. لذلك فإن المؤلف يستشهد بغياب حقوق مطلبية بسيطة مثل حق المرأة في السفر بلا محرم، أو قيادة السيارة، أو الزواج بمن تريد.

وكثيرة هي مواضيع الكتاب، وبعضها يعتبر من اللامفكر فيه، أو الممنوع التفكير فيه، في المجتمع السعودي على الخصوص، بينما يعتبر تناولها في مجتمعات عربية أخرى(مصر، سوريا، لبنان، المغرب أو الجزائر) أمراً معتاد التفكير فيه والتعبير عنه.

فتاوى وتهديدات

وبسبب مقالاته المستنيرة، رغم أن ما يطرحه من نقد لا يمس بأي صورة القرآن أو السنة، فإن تركي الحمد تعرض لتهديدات بالقتل، وصدرت في حقه فتاوى التكفير، من طرف شيوخ متشددين يمثلون التيار الوهابي.

لكنه ظل متمسكا بأفكاره النقدية، والتي يندرج، في سياقها، كتابه الأخير:"من هنا يبدأ التغيير" الذي يحاول أن يرسم ملامح مستقبل عصري لدولة سعودية تقوم على عقد اجتماعي دستوري ديموقراطي مع شعبها يتوافق مع معطيات عصر العولمة، حيث أن كثير من القضايا الاجتماعية والسياسية التي كانت تعتبر قضايا داخلية أصبحت قضايا دولية.

بقلم فرج بو العشة، قنطرة ‏2004‏‏

تركي الحمد: من هنا يبدأ التغيير، دار الساقي، لندن/بيروت 2004