الوهم التركي

يرى ف. ستيفن لارابي ، الرئيس المشارك المتميز للأمن الأوروبي في مؤسسة راند، أن استنساخ الأنموذج التركي في العالم العربي لن يكون أمرا سهلا وذلك لاعتبارات تاريخية وسياسية. كما يرى أن انهيار هياكل السلطة القديمة في العديد من بلدان الشرق الأوسط من المرجح أن يكون مصحوباً بقدر كبير من الاضطرابات السياسية والعنف.

الكاتبة ، الكاتب: F. Stephen Larrabee

 

لقد عملت الثورات الكبرى التي تجتاح تونس ومصر وليبيا بمثابة العامل المحفز لصحوة عربية أوسع نطاقا، وهي الصحوة التي هزت أركان النظام السياسي في الشرق الأوسط، الذي ظل راسخاً منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين. ولئن كان من السابق لأوانه أن نتكهن بالنتائج النهائية لهذه الثورات، فإن العديد من العواقب الضمنية الإقليمية المهمة بدأت في الظهور بالفعل. فأولا، تشكل هذه الثورات سيفاً ذا حدين بالنسبة لإيران. فقد يستفيد النظام الإيراني من الإطاحة بالزعماء العرب وأنظمتهم المؤيدة للغرب أو إضعافهم في مصر والأردن والمملكة العربية السعودية، ولكن التشجيع الإيراني للثورتين الديمقراطيتين في تونس ومصر في مستهل الأمر كان مصحوباً بغُصة. فقد اضطر المسؤولون الإيرانيون إلى تحويل اتجاههم بسرعة بمجرد شروع الإيرانيين في المطالبة بنفس الحقوق الديمقراطية، على النحو الذي أشار إلى أن إيران قد تواجه ضغوطاً أقوى في المطالبة بالديمقراطية والتغيير السياسي في الأمدين المتوسط والبعيد.


الصورة
"نستطيع أن نجزم بأن البلدان العربية لا تتمتع بميزة التقاليد التركية المتمثلة في الإسلام المعتدل أو التاريخ الطويل من الدمج الناجح بين الإسلام والتغريب"

​​وثانيا، تهدد الثورات الحالية بجعل إسرائيل أكثر عزلة. فبرحيل مبارك فقدت إسرائيل الشريك الإقليمي الأكثر أهمية في المنطقة. وفي ضوء التدهور الخطير الذي طرأ على العلاقات بين إسرائيل وتركيا، حُرِمَت إسرائيل برحيل مبارك من أوضح حليفين لها في المنطقة. ورغم تعهد النظام العسكري المؤقت في مصر بالالتزام باتفاقية السلام المبرمة بين البلدين في عام 1979، فإن أي حكومة جديدة أكثر ديمقراطية قد تتبنى موقفاً مغايرا.  وثالثا، أدت الضغوط المنادية بالتغيير الديمقراطي في المنطقة إلى تعزيز النفوذ التركي الإقليمي إلى حد كبير. ففي حين أحجمت الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي عن الإعراب بشكل واضح عن رهاناتها في مستهل الأمر، سارع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى الانحياز المباشر للمتظاهرين من أجل الديمقراطية في ميدان التحرير ـ وهو التحرك الذي عزز من مكانة تركيا بين أطياف المعارضة الديمقراطية في مصر وأماكن أخرى من المنطقة.

 

الإسلام المعتدل


​​إن العديد من العرب ينظرون إلى ذلك النوع من الإسلام المعتدل الذي تبناه حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا باعتباره نموذجاً محتملاً للشرق الأوسط. كما بدأ العديد من الأتراك في النظر إلى الأمور من نفس المنظور. ففي مقابلة أجريت معه مؤخرا، قال أردوغان إن تركيا "من الممكن أن تعمل كمصدر للإلهام" لبلدان الشرق الأوسط، وذلك لأنها أثبتت إمكانية التعايش المنسجم بين الإسلام والديمقراطية. فللوهلة الأولى سوف يتبين لنا أن النموذج التركي ـ بما يشتمل عليه من التركيز على العلمانية والديمقراطية ـ يحمل في طياته قدراً واضحاً من الجاذبية في منطقة تجثم على صدرها حكومات تتسم بالفساد والاستبداد وانعدام الكفاءة والفعالية.

ولكن تركيا تختلف في خبرتها التاريخية وتطورها السياسي من أكثر من ناحية عن البلدان العربية. ونتيجة لهذا فإن استنساخ نموذجها لن يكون بالأمر السهل. فالإسلام التركي أكثر اعتدالاً وتعددية مقارنة بأي مكان آخر في الشرق الأوسط، ومنذ أواخر العهد العثماني على الأقل، سعت تركيا إلى الدمج بين الإسلام والتوجه الغربي. وهذا من شأنه أن يميز تركيا عن أغلب البلدان الإسلامية الأخرى في الشرق الأوسط، ولقد مكنها من تجنب ما اتسم به التحديث السياسي في أماكن أخرى من المنطقة من انقسامات حادة وتمزقات وعنف.

عالم عربي على النموذج التركي؟


​​والواقع أن صعود النموذج المعتدل للإسلام متمثلاً في حزب العدالة والتنمية كان إلى حد كبير بمثابة استجابة لعوامل داخلية، وخاصة التأثيرات المتراكمة لعِدة عقود من التحول الديمقراطي والاجتماعي الاقتصادي، وهو ما سمح بنشوء طبقة جديدة من أصحاب المشاريع التجارية في الأناضول، والتي اتسمت بالليبرالية على الصعيد الاقتصادي ولكنها كانت محافظة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. ومن الواضح أن هذه الطبقة، التي شكلت واحدة من الركائز الانتخابية الرئيسية لحزب العدالة والتنمية، لا وجود لها في أي مكان آخر من الشرق الأوسط. فضلاً عن ذلك فإن النموذج التركي يدين بالكثير لزعامة كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية. فقد نجح أتاتورك، المستغرب الملتزم وصاحب البصيرة السياسية، في تحويل الإمبراطورية العثمانية المتعددة الجنسيات إلى دولة حديثة قائمة على القومية التركية. بيد أن أتاتورك لم يبدأ من الصفر في تحويل تركيا. فقد بدأت عملية التغريب والتحديث في أواخر القرن التاسع عشر في العهد العثماني أثناء فترة إعادة تنظيم الإمبراطورية العثمانية. وفي حين سعى أتباع كمال أتاتورك إلى القطعية الجذرية مع الماضي العثماني، فإن بعض عناصر الاستمرارية المهمة بين الجهود التي بذلوها لتغريب تركيا وبين تلك التي بذلت في أواخر العهد العثماني كانت قائمة. ففي الحالتين كان القائمون على هذه الجهود من أهل النخبة الذين حركتهم الدولة.

ومن الواضح أن هذه الشروط المسبقة المهمة لا تتوفر في الشرق الأوسط العربي. ذلك أن أغلب بلدان المنطقة تفتقر إلى المؤسسات السياسية المستقلة القوية والتقاليد التي تسمح ببناء نظام سياسي ديمقراطي قوي. وهي تفتقر أيضاً إلى المجتمع المدني النشط. وفي النهاية، نستطيع أن نجزم بأن البلدان العربية لا تتمتع بميزة التقاليد التركية المتمثلة في الإسلام المعتدل أو التاريخ الطويل من الدمج الناجح بين الإسلام والتغريب. ونتيجة لهذا فإن انهيار هياكل السلطة القديمة في العديد من بلدان الشرق الأوسط من المرجح أن يكون مصحوباً بقدر كبير من الاضطرابات السياسية والعنف.

 

ف. ستيفن لارابي
ترجمة: أمين علي
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت 2011

ف. ستيفن لارابي عضو مجلس الأمن الوطني سابقا في مؤسسة كارتر، وهو يشغل منصب الرئيس المشارك المتميز للأمن الأوروبي في مؤسسة راند.